هل الفن مطالب بدور اجتماعي؟

هل الفن مطالب بدور اجتماعي؟


26/02/2020

هل الفنان مطالب أن يضع نُصب عينيه جدوى اجتماعية لفنّه؟ أم أنّ الفنّان مشغول بإثبات نفسه في سياق الحياة العادية حتى لا يحدث قطيعة بينه وبين الجمهور؟
أثار قرار نقابة المهن الموسيقية بمنع مطربي المهرجانات من الغناء في مصر جدلاً واسعاً؛ لنجد أنفسَنا أمام النقاش المُتكرر حول قضية الالتزام وعدم الالتزام في الفنّ؛ التي ينشب حولها بين الحين والآخر شجار حادّ بين دعاة "الفنّ للحياة"، ودعاة "الفن للفن"؛ تلك الإشكالية التي لم تنته منذ ظهرت بوضوح في القرن التاسع عشر، وإن كانت قديمة قدم الحضارة اليونانية عندما تحدّث أفلاطون عن علاقة الشعراء بجمهوريته.

اقرأ أيضاً: ما هي أبرز ردود فعل الفنانين على قرار منع المهرجانات في مصر؟
ويعود أول تحرّك واضح نحو دراسة الارتباط والتفاعل المستمر بين الفن والحياة في العصر الحديث، إلى الحركة الرومانتيكية؛ عندما أدخلت معياراً جديداً، يرى أنّ روعة الفن تعتمد فيما تعتمد على ما يحققه الفنان من آراء ومواقف ناقدة للحياة، وتبع ذلك اهتمام النقاد بكشف أثر البيئة في الفنّ وسلطان الحياة الاجتماعية على الفنان، فقام الناقد الفرنسي "تين"، بأول دراسة نقدية تُبرز علاقات الإنتاج الفني والأدبي بالبيئة بشكل عام، وبالحياة الاجتماعية بشكل خاص.

أدخلت الحركة الرومانتيكية معياراً جديداً يرى أنّ روعة الفن تعتمد على ما يحققه الفنان من آراء ومواقف ناقدة للحياة

وحتى تلك اللحظة، وبعدها، لم تكن العلاقة بين الفن والحياة الاجتماعية من القضايا الشاغلة للنقاد العرب، فظلّ العقل النقدي العربي محصوراً في المقاييس التقليدية، مُركِّزاً على القيم والمعايير الجمالية البحتة، فلم يلتفت إلى الوظيفة الاجتماعية للفنان أو الجانب الاجتماعي للفنّ، إلا نادراً، ولعلّ السّبب الأهم وراء ذلك هو تأخر تطوّر الفكر الفلسفي العربي؛ الذي لم يتجاوز الحدود التي فرضتها طبيعة الجدل الفكري والفلسفي في العصور القديمة، لكنّ هذا لا ينفى تعامل الفنان العربي مع الحياة الاجتماعية وتفاعله معها وتعبيره عن بعض قضاياها الاجتماعية والإنسانية.
وبمضي الوقت، انشغل النّقاد بتلك العلاقة الشائكة بين الفن والمجتمع، حتى تشكّلت لدينا رؤيتان مختلفتان لدور الفنّ، تصطدمان أحياناً، لكن لا يُمكن لإحداهما أن تُزيح الأخرى؛ حيث إنّ تطابَقَ وعي الجمهور إزاءَ العمل الفني أمر يستحيل تحققه، فكما تتعدد تجارب الإبداع؛ تتفاوت آراء الجمهور إزاء تلك التجارب الفنية بين القبول والرفض، فالعالم الفني كون صغير أشبه ما يكون بالكون الكبير الذي نحيا فيه، كلاهما زاخر بالمتناقضات والاختلافات.

اقرأ أيضاً: أيّهما أهم بالنسبة للجمهور: رصيد المبدع الفني أم موقفه السياسي؟
وترى "الرؤية الأولى" الفن بوصفه وسيلة لشيء آخر يُعبر عنه بالمجتمع؛ فالفنان جنديّ في معركة الإصلاح الاجتماعي، مقيد بقواعده وملتزم بآدابه، والفنان وفق تلك الرؤية، منشغل بتصوير الأشياء والتعبير عنها كما يجب أن تكون، وقد تناولت الكثير من الدراسات الجمالية والنقدية والفلسفية، منذ ستينيات القرن الماضي دور الفنان في المجتمع، وفي إذكاء الحياة القومية والإنسانية، منتهية إلى أنّ الفنون مثقِّفة أو مثقَّفة، فلا تطلق كلمة "الفن"، إلّا على التجارب المرتبطة بمستويات فكرية وحضارية متطورة، وأنّ الفنّ ليس عملية تلقائية كما يظنّ العامة، بل عمل مُعقد يحتاج إلى تخطيط دقيق، على حد قولهم؛ "كي لا يتورط الفنان في الخطأ، وينحرف بعينه عن المسارات والخصائص، التي تُشوّه الفن العربي وتُؤدي إلى فقدان معالمه وملامحه العربية، نريد من الفنان أن يعرف كيف يبدأ، وكيف يعمل، وكيف ينتهي، نريده أن يُخطط لعمله الفني، وأن يعيه، وأن يضع له بداية ووسطاً ونهاية؛ أي نريد له فناً قائماً على منهج وبرنامج واضح مدروس، لا فناً تائهاً عشوائياً، ليكون طريقنا إلى الفن الأصيل واضحاً كلّ الوضوح".

العالم الفني كون صغير أشبه ما يكون بالكون الكبير الذي نحيا فيه، كلاهما زاخر بالمتناقضات والاختلافات

أمّا الرؤية الثانية، فترى الفنّ بوصفه عملية إبداع، وعملية تلقي أيضاً، غاية في نفسه، يُقصد لذاته، وأنّ الفنان حرّ غير مقيّد، يهتم بتصوير الأشياء كما هي، أو كما يفهمها ويتصورها الناس من حوله فحسب؛ فأصحاب هذه الرؤية يميلون بالفن إلى كونه نتاجاً تلقائياً، يعبّر فيه الفنان كما يُحبّ، ويختار من المعاني والألفاظ ما يروق له، شأن الفنون الشعبية المتوارثة منذ آلاف السنين، فتفرّق تلك الرؤية، بين مهمة المُصلح الاجتماعي أو السياسي، والفنان الذي ينشغل بالتصوير لا التوصيف، فيُعبّر عن عواطفه فحسب دون أن يلتفت إلى توصيف داء أو دواء، فهذا عمل المُصلح، وليس الفنان.

اقرأ أيضاً: دار الأوبرا المصرية: 150 عاماً من المقاومة بالفنّ
ويتهمُ أصحاب تلك الرؤية، دعاة الالتزام الاجتماعي في الفنّ؛ بأنّ دعواهم لا تعدو عن كونها التزاماً طبقياً، فلا يُوجد فنّ قادر على الالتزام بالتعبير عن المجتمع ككلّ، فالتزام الفن اجتماعياً، إنّما هو التزام مُؤطر لخدمة مصالح طبقة اجتماعية أو سياسية بعينها، حيث انحاز "دعاة الفن للمجتمع"، عبر تاريخهم، للطبقة الاجتماعية التي هي موضع عناية السلطة؛ فوُجد الفن الإقطاعي، والبرجوازي، والاشتراكي، الذي سرعان ما تراجع بتخلي السلطة عنه، ويرون أنّ موقفهم لا يخلو هو الآخر من انحياز، لكنّه انحياز إلى عدم رسالية الفن، انحياز إلى ألفاظ ومعانٍ لا تهتم بثورية ولا تقدمية، وإنّما تحكي بلسان مواطن الحارة المصرية، وأحيائها الشعبية.
وبين تلك الرؤيتين، تنشب صراعات بين الحين والآخر، لكن سرعان ما يمضيان في مساريهما المتوازيين، فقد تنجح التدخلات البيروقراطية في إحداث التهميش الرسمي للمسار الثاني، لكنّها لن تستطيع محوه، فليس باستطاعة نقابة المهن الموسيقية أن تمنح شرعية الوجود لشكل فني، وإنما الجمهور وحده هو من يمنح هذا الشكل الفني أو ذاك شرعية الحياة والحركة والانتشار، كما يكتب، بتجاهله، شهادة الموت الفني لهذا العمل أو ذاك، فكم من أعمال وأشكال فنية وُلدت وماتت، ولم يشعر بها أحد، كما تُولد وتموت الأشجار في الغابات.

المجتمع يُعبر عن نفسه بوسائل متعددة من بينها الفنّ، فما الفنّ السائد سوى مرآة عاكسة للذوق العام

فالمجتمع لا يهتم بالعمل الفني إلا بقدر ما يجد فيه صوراً تشبهه، وإنْ كان به إسفاف؛ فذاك الإسفاف لم يبدأ من الفن، لكنّه انعكاس لواقع المجتمع، الذي يُعبر عن نفسه بوسائل متعددة من بينها الفنّ، فما الفنّ السائد سوى مرآة عاكسة للذوق العام، فالفنّ نتاج طبيعي للحياة الاجتماعية المحيطة بالفنان، سواء حضرت في هذه الحياة الخصائص القومية والأبعاد الإنسانية الإيجابية البعيدة عن التعصب والعنصرية والإسفاف، أم كانت حياة تردد وقلق وحيرة، إن لم أقل حياة تيه وضياع، وإنْ سلّمنا بتردي الواقع الفني، فإننا لا نُسلّم بمنطق الوصاية الطبقية أو المؤسسية فنياً أو دينياً أو اجتماعياً، فمثل تلك الوصاية لن تُحدث ثورة ذوقية في عالمنا العربي، وإنّما العمل الطويل؛ الذي يبدأ بعودة حصة الموسيقى إلى المدارس، والإعلاء من قيمة الجمال في مناهجنا، والتوقف عن التحقير والتحريض ضد الفنّ في خطابنا الديني؛ هذه هي الخطوات الأولى نحو تكوين ذوق فني راقي.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية