المثقف والفقيه.. هل من قطيعة بينهما؟ وكيف يمكن أن يواجها التطرف؟

 المثقف والفقيه.. هل من قطيعة بينهما؟ وكيف يمكن أن يواجها التطرف؟

المثقف والفقيه.. هل من قطيعة بينهما؟ وكيف يمكن أن يواجها التطرف؟


07/09/2023

إنّ القضايا المشتركة التي يتنافس عليها المفكر والفقيه في التفكير وإبداء النظر، هي تلك التي لها علاقة بالمجتمع، وذلك لغرض إصلاحه وتغييره. فمن جانب تتصف هذه القضايا بالعموم لا الفردية، كما أنّ لها، في الغالب، دلالات معيارية تتعلق بمنظومة القيم والسلوك. ومنها؛ المسائل السياسية وحقوق الإنسان والمرأة والمواطنة والقومية والدستور، والعلاقة مع الغرب ومنتجاته الثقافية والمادية وغيرها.

إنّ جدلية الأدوار بين المثقف والفقيه تكشف ماهية كل منهما ودورهما وتعاطيهما فكرياً ومجتمعياً

مصطلح "الفقيه" أحد المرادفات القديمة للفظ "المثقف"، والذي لم يظهر إلى الوجود في اللغة العربية إلا متأخراً، وكان لسلامة موسى فضل وضع اللمسة الأخيرة عليه بين اشتقاقات مصدر "الثقافة"، الذي درج على الألسنة بمعناه المتداول اليوم.
ويبدو أنّ هذا الترادف بين لفظي؛ الفقيه والمثقف، قد صار جزءاً من التاريخ، مفسحاً المجال للاختلاف بين اللفظين ودلالتيهما، حيث تطرق إليه كتّاب كثيرون مثل: د. أحمد عبدالله في كتابه "الجامع والجامعة"، ويحيى محمد في مؤلفه "القطيعة بين المثقف والفقيه".
يتمحور دور الفقيه في جعل المنظومة الفقهية تواكب ما استجد للناس من شؤون الحياة

ماهية المثقف والفقيه
تبوّأ العمل الفقهي منزلة محورية في عملية تطوير وتجديد الفكر الإسلامي المعاصر، ليكون في مستوى الإشكالات التي يفرضها التطور السريع للحياة الإنسانية، وفي مستوى مواجهة بعض الظواهر الفكرية الإشكالية التي تنبت في المجال الإسلامي، سواء تلك التي تتخذ من التراث الإسلامي مرجعاً لها، أو التي استبدلته بمرجعيات غربية في عمومها.

قضايا الواقع هي من تثير حساسية المثقف أما القضايا الدينية من الشعائر والحدود والعبادات تثير الفقيه

يتمحور دور الفقيه في جعل المنظومة الفقهية تواكب ما استجد للناس من شؤون الحياة، وذلك عن طريق استنطاق النصوص الشرعية (القرآنية والحديثية)، والإجابة على حاجات الناس المرتبطة بتديّنهم، وبالقضايا التي تحول دون تحقّق هذا التدين السليم.
يقول أستاذ الفلسفة في جامعة بغداد، علي محمود، إنّ "عمل الفقيه يظل قاصراً عن مواجهة الإشكالات التي يفرضها الواقع المعاصر"، داعياً إلى "الاستعانة بالخبراء في مجال الفكر والثقافة".
ويضيف لـ "حفريات"، أنّ "المثقف الذي نقصده هنا هو ذاك الذي يستند إلى المرجعية الدينية، ليس في بعدها الفقهي فقط، وإنما باعتبارها رؤية للكون والعالم والحياة؛ أي الذي ينظر إلى الدين باعتباره مصدراً للمعنى، وليس باعتباره منظومة فقهية أو برنامجاً سياسياً".
جدلية الأدوار
وعن جدلية الأدوار بين المثقف والفقيه، يقول الأكاديمي العراقي الدكتور صلاح العامري "إذا كان علماء الدين وفقهاء الشريعة معنيين بإيجاد أجوبة فقهية أحكامية على مختلف النوازل التي يسأل عنها الناس لارتباطها بتديّنهم، وإذا كانوا معنيين أيضاً بدحض الأسس الفقهية والشرعية التي تستند إليها الأفكار المتطرفة، فإنّ المثقف معني بإبراز فلسفة الإسلام ومقاصده الكبرى، كما أنّه معنيٌّ أيضاً بالحفر في الأسس الفكرية والاجتماعية التي تتأسس عليها الأفكار المتطرفة".

العامري: للمثقف والفقيه رسالتان تتعلقان بالإصلاح الاجتماعي وإن بدا التنافس والاختلاف بينهما

ويتابع العامري حديثه لـ "حفريات"، "ومن هنا تقتضي إعادة الاعتبار للعمل الفكري والثقافي في مجال تدبير الشأن الديني في العالم العربي، وهو الأمر الذي يستلزم بالضرورة تَغيير نظرة الدول العربية بمؤسساتها المختلفة؛ خاصة الدينية، إلى المثقف".
ويضيف العامري أنّ "للمثقف والفقيه رسالتين تتعلقان بالإصلاح الاجتماعي، وإن بدا التنافس والاختلاف بينهما لاختلاف المعايير المتبعة في التفكير، وذلك انطلاقاً مما يحملانه من ركائز معرفية متقاطعة، مما يجعل رهانهما لحل المشكلة الاجتماعية مختلفاً".

ويشير إلى أنّ "الفقيه يلجأ الى النص كمولّد تكويني لكسب الرهان"؛ في حين "المثقف يعمد إلى التجربة البشرية موظفاً المناهج والعلوم الانسانية"، برأيه.

اختلاف زوايا النظر
لكل من المثقف والفقيه، أدواته الخاصة للنظر للمشكلة المجتمعية والفكرية والأخلاقية، وقد تختلف الرؤى إزاء ذلك بحسب المتبينات المختلفة لكليهما.
وتعقيباً على ذلك، يشير أستاذ العلوم الإسلامية في جامعة كربلاء حازم الحسني، إلى أنّ "الفقيه يلجأ لحل مشكلة من الفساد الخلقي بالوعظ والتحذير؛ في حين يلجأ المفكر أو المثقف في علاجه للبحث عن الأسباب والعوامل الكامنة وراء هذا الفساد لتغييرها".

اقرأ أيضاً: المثقف والسلطة.. هل ما يزال الرقيب يتحسس مسدسه؟

ويقول الحسني لـ "حفريات": "إذا كان يرى كل منهما أنّ المشكلة الأساسية تكمن في البطالة، أو صعوبة الزواج لغلاء المهور، أو للكثافة السكانية، أو غير ذلك، فإنّ الفقيه يستعين عادة في دعوته لإصلاح المجتمع على ما هو مخزون لديه من تكوين بياني للنص، دون اللجوء إلى الطرق العلمية المساعدة؛ فإن المثقف على خلافه يستخدم الوسائل العلمية في الإصلاح، ويعتمد على التخطيط قبل القيام بخطواته في التغيير".

ويتابع قوله "أما من جهة محفزات حركة كل من المثقف والفقيه؛ فيمكن تصويرهما كإنزيمين لا ينشطان إلا عندما يتحقق ما يناسب الحركة من مثيرات".

دوافع المثقف والفقيه
لكل من العقلين؛ المثقف والفقيه، حساسية تنبعث مما يرجعان إليه من مرتكزات ومولّدات معرفية، وهي تتحول إلى نوع من النشاط الإنزيمي بفعل ما تصادفه من محفّزات خارجية تناسبها.
"فما يثير حساسية المثقف هي قضايا الواقع الاجتماعي والسياسي، خصوصاً تلك التي تتعلق بالمصالح والحقوق العامة"، بحسب العامري الذي يرى "أنّ ما يثير الفقيه هي القضايا الدينية، من الشعائر والحدود والعبادات وما إليها"، وبعبارة أخرى، إنّ ما يثير المثقف "هو الواقع، وما يثير الفقيه هو النص أو الدين"، وفق العامري.

اقرأ أيضاً: المثقفون العراقيون.. قتلة ومقتولون

ويتابع "لذا تجد الفقيه لا يمانع عادة من مداهنة السلطان المسلم الظالم، ويمتنع أن يفعل نفس الشيء مع السلطان الكافر العادل"، مبيناً أنّ "المثقف على خلاف ذلك، حيث يميل إلى مداهنة السلطان العادل وإن كان كافراً، ويفضله على السلطان الظالم وإن كان مسلماً. على ذلك نجد الكواكبي كثيراً ما يمجد الحكومات الغربية ويفضلها على الحكومات المسلمة تبعاً لاعتبارات العدالة وخدمة المجتمع".

علي شريعتي؛ أحد نماذج المثقف الديني خلال القرن الماضي

ضرورة استيعاب المثقف

من جانبه، يتفق الحسني مع ما طرحه العامري، بأهمية المثقف وأصالة دوافعه، حيث يقول "أرى ضرورة انفتاح المؤسسات الدينية على المثقف غير المؤدلج، والذي تحركه دواع معرفية وفكرية أكثر مما تحركه دوافع أخرى مرتبطة بالانتصار لهذا الطرف أو ذاك"، مبيناً أنّ "إعادة الاعتبار للمثقف في العالم العربي وخارجه، والذي يجمع بين الثقافة الشرعية والوعي بالسياق الاجتماعي والثقافي العالمي، محوريّ في بناء خطاب فكري متناغم مع مقاصد الإسلام ومنفتح على القيم الإنسانية المشتركة".

اقرأ أيضاً: موت المثقف العمومي: هل يمثّل المثقف الناس حقاً؟
ويشير الحسني إلى أنّ "استيعاب هذا المثقف لقضايا الدين والأصولية..، أكبر من الفقيه المسلم الذي يشتغل على القضايا الجزئية، بل لا نبالغ لو قلنا إنّ الفقيه المسلم لا يستغني عن عمل المثقف وقراءاته لأبعاد الواقع المختلفة، ففهم النوازل بخلفياتها الفلسفية والفكرية والثقافية المختلفة يساعد الفقيه في عملية الاجتهاد الفقهي والعمل الإفتائي".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية