استشراف رضوان السيد في تحولات الصراع على الإسلام والإسلاموية

استشراف رضوان السيد في تحولات الصراع على الإسلام والإسلاموية

استشراف رضوان السيد في تحولات الصراع على الإسلام والإسلاموية


20/06/2023

نادرة هي العقول الفكرية الاستشرافية في المنطقة العربية، ونقصد بها العقول التي تسلط الضوء البحثي على قضايا محلية أو إقليمية أو دولية تهم مصير دول المنطقة العربية على الأقل، وهذا مجهود نظري ليس الكلّ مؤهلاً له أساساً؛ لأنّه يتطلب عدة شروط من قبيل النهل المعرفي والكد البحثي وسعة الاطلاع ضمن شروط أخرى.

تتضح معالم هذا النظر الاستشرافي بشكل جلي في كتاب "الصراع على الإسلام: الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية" لرضوان السيد. ومع أنّ شهرة مؤلف الكتاب ارتبطت على الخصوص بأعماله البحثية عن مفاهيم الجماعة والأمة والدولة، إلّا أنّ من يطلع على هذا الكتاب الصادر منذ عقدين تقريباً (في عام 2005، وصدرت طبعة منقحة منه منذ أعوام)، يتأكد من وجود مؤشرات نظرية على حضور الهمّ الاستشرافي في العمل، حيث يسافر السيد بالقارئ في عدة قضايا مرتبطة بالإصلاح الديني في سياقه الإسلامي؛ معضلة الحركات الإسلامية، أداء المؤسسات الدينية في المنطقة... إلخ.

ما جرى منذ صدور الكتاب حتى اليوم يؤكد بُعد النظر التأملي لدى رضوان السيد، إلى درجة أنّه يصعب معها الحسم في الأمثلة التي تزكي ذلك

من خلاصات الكتاب مثلاً التذكير بأنّ استبعاد الإسلام من دائرة التأثير الاجتماعي والسياسي في العالمين العربي والإسلامي لا يعدو أن يكون وهماً، ولا تعرض أحداث الساحة صحة هذا الاستشراف، ومن ذلك فورة الدراسات حول قضايا الإسلام والمسلمين في الساحة الأوروبية والأمريكية مباشرة بعد منعطف اعتداءات نيويورك وواشنطن، أو إعادة رد الاعتبار للخطاب الصوفي في المنطقة العربية والقارة الأوروبية، بما في ذلك اعتناق الإسلام عبر بوابة التصوف.

ما جرى منذ صدور الكتاب حتى اليوم يؤكد بُعد النظر التأملي لدى رضوان السيد، إلى درجة أنّه يصعب معها الحسم في الأمثلة التي تزكي ذلك، وهذا ما يروم المقال التوقف عنده، وبيان ذلك من خلال نموذجين اثنين على الأقل؛ يهم الأول القارة الأوروبية، ويهم الثاني منطقة الساحل الأفريقي:

ـ بين 15 و16 كانون الأول (ديسمبر) 2017، حظيتُ بشرف المشاركة كمساهم في تقييم إحدى جلسات المؤتمر الدولي حول "الإسلام والإسلام السياسي في أوروبا: مسارات، التحول والتكيف"، بمدينة البندقية الإيطالية، وهو المؤتمر الذي نظمه معهد غرناطة للبحوث والدراسات العليا ومؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث وجامعة بادوفا ومؤسسة تشيني وجامعة بيومنتي أورينتالي والمركز الجامعي للثقافة والقانون والأديان.

ما زلت أتذكر جيداً أنّه أثناء الجلسة المخصصة لأداء الحركات الإسلامية في القارة الأوروبية، وكان رضوان السيد ضمن الحضور المشارك، أنّني عرجت على كتابه سالف الذكر، باعتباره أحد المفاتيح النظرية التي تساعدنا على قراءة التحولات التي نعاينها في الساحة الأوروبية، وتحدثت بالتحديد عن مرحلة نعاينها في الانتقال من "الصراع على الإسلام" بالصيغة الواردة في الكتاب، أي الصراع بين مختلف الفاعلين في المشهد الإسلامي، محلياً في كل دولة من دول المنطقة، وإقليمياً وعالمياً، نحو الصراع على الإسلاموية في السياق الأوروبي، وليس مصادفة أنّه من بين خلاصات المؤتمر، التحذير من أنّ "أزمة المسلمين في أوروبا ستشهد تطورات خطيرة على المجتمع الأوروبي من حيث رواج الأفكار الأقلوية في وقت يرتفع فيه عدد المسلمين"، ويمكن التأكد من هذا المعطى من خلال تأمل كثرة القضايا المرتبطة بالتيارات الإسلاموية والتيارات اليمينية في القارة الأوروبية، كما نعاين على سبيل المثال في السياق الفرنسي، حيث أصبح هذا التيار يُغذي الآخر والعكس صحيح: القلاقل الصادرة عن الإسلاميين تغذي اليمين الأوروبي، والمواقف العنصرية لهذا اليمين تغذي مشروع الإسلاميين بالتحديد، وهكذا دواليك، لتجد الجاليات المسلمة نفسها أمام دوامة مجتمعية كانت في غنى عنها.

ـ نأتي إلى السياق الأفريقي، وبالتحديد دول الساحل الأفريقي التي كانت في عقود ماضية، وخاصة قبل منعطف اعتداءات نيويورك وواشنطن، خارج دائرة الاهتمامات لدى المراكز البحثية المعنية بالاشتغال على الإسلاموية الجهادية، وخاصة المراكز البحثية الأوروبية والأمريكية، لأنّ هذا النوع من المراكز ما زال متواضعاً في المنطقة العربية، ولا ننتظر من مراكز "أسلمة المعرفة" التي انتشرت كمّاً ونوعاً خلال العقد الماضي مثلاً أن تنخرط في الاشتغال على تفكيك خطاب التطرف العنيف، لاعتبارات عدة، نرجو الخوض فيها لاحقاً.

التحول في أنماط التديّن، بما في ذلك فورة الحضور الإسلاموي في العديد من بقاع العالم، وكثرة التقاطعات وتباين القراءات، واختلاط أوراق وحسابات صانعي القرار في تدبير الظاهرة الإسلاموية، كلها معطيات تزكي أحقية الحديث عن الأفق الاستشرافي في كتاب (الصراع على الإسلام)

خلال العقد الماضي، أصبحت أخبار الحالة الجهادية في دول الساحل الأفريقي من المواد شبه القارة في نشرات الأخبار بالعديد من دول المنطقة، كما أصبحنا نعاين تنظيم مؤتمرات وندوات حول الظاهرة، إضافة إلى تأليف بعض الكتب حولها، بصرف النظر عن التباين في مضامين هذه الإصدارات، وإن كانت هناك بعض الأعمال المرجعية التي نزعم أنّه لا يمكن تجاوزها، ونخص بالذكر مضامين كتاب ألفه خبير فرنسي في الظاهرة، الباحث مارك أنطوان بيروس دي مونكلو، مؤلف كتاب "الحدود الجديدة للجهادية في أفريقيا"، ومن مُميزات العمل أنّ مؤلفه زار جميع الدول الأفريقية المعنية بالحالة الجهادية، والتقى وأجرى حوارات مع أغلب الرموز الإسلامية الحركية من قبيل الراحل حسن الترابي أو مقاتلي (حركة الشباب) الصومالية وجماعة (بوكو حرام) النيجيرية وغيرهم، ومع أنّ العمل يتضمن وقفات مع أداء العديد من الجماعات الإسلامية الجهادية، إلّا أنّ المؤلف ارتأى التوقف بتفصيل أكثر مع (3) جماعات بالضبط: جماعة (بوكو حرام) في نيجيريا، و(حركة الشباب) في الصومال، و(تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي)، في المنطقة المغاربية على الخصوص.

صدور هذا الكتاب في عام 2018، وكان خارج الدائرة في الأعوام التي سبقت أو تزامنت مع تاريخ صدور كتاب (الصراع على الإسلام) لرضوان السيد، أي عام 2005، حيث كانت الإصدارات حول الإسلام والمسلمين في دول الساحل حينها لا تخرج إجمالاً عن معالم التديّن الشعبي أو التديّن التقليدي، أداء المؤسسات الدينية، الطرق الصوفية، وإن صدرت بعض الأعمال حول الإسلاموية، فقد كانت نادرة إجمالاً، ولم تظهر بمتابعات إعلامية فالأحرى بمتابعات بحثية، لأنّ الظاهرة الإسلاموية، في نسختها الجهادية بالتحديد، كانت حينها في مرحلة جنينية، بخلاف ما نعاين اليوم، بعد صعود أسهم الإسلاموية الإخوانية والجهادية.

الشاهد هنا أنّ هذا التحول في أنماط التديّن، بما في ذلك فورة الحضور الإسلاموي في العديد من بقاع العالم، وكثرة التقاطعات وتباين القراءات، واختلاط أوراق وحسابات صانعي القرار في تدبير الظاهرة الإسلاموية، كلها معطيات تزكي أحقية الحديث عن الأفق الاستشرافي في كتاب (الصراع على الإسلام)، وهذا عينُ ما ينقص العديد من الدراسات حول الظاهرة في الساحة، لأنّ المحددات التي خولت لرضوان السيد تأليف الكتاب والتبحر فيه، ما زالت متواضعة أو نادرة لدى أغلب أقلام الساحة البحثية، العربية والأفريقية والأوروبية والأمريكية على حدٍّ سواء.

مواضيع ذات صلة:

الإسلام السياسي بين إرث الماضي وإشكالية الحاضر

الإسلام السياسي: خطر الاستبداد الديني كنظرية في الحكم

هل يصبّ لاهوت التحرير الإسلامي في صالح الإسلام السياسي؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية