الإسلام وسياسات العلمانية في باكستان

الإسلام وسياسات العلمانية في باكستان

الإسلام وسياسات العلمانية في باكستان


02/04/2023

زاهد شهاب أحمد

نشر موقع “معهد النشر الرقمي متعدد الاختصاصات (MDPI)”، وهو مؤسسة تُعنى بنشر الدراسات التخصصية في مختلف المجالات ومقره مدينة بازل في سويسرا، دراسة مطولة للباحث زاهد شهاب أحمد* يتناول فيها مسألة الإسلام والسياسات العلمانية في باكستان. ويحاول أحمد في دراسته استعراض العقبات التي تواجه المعارضة العلمانية هناك، ومقارنة خطابات الإسلاميين والأحزاب السياسية غير الإسلامية في ما يتعلق بهوية البلاد، والإصلاحات، ومعاداة الغرب والأقليات الدينية والعلمانية.

يستعرض أحمد، في مقدمة دراسته، التنوع العرقي والديني في باكستان، والتغيرات التي طرأت على البلاد منذ تأسيس الدولة عام 1947؛ حيث كانت نسبة غير المسلمين تصل إلى 23% من السكان، وتراجعت إلى نحو 4%، وفقاً لإحصاء عام 2017. ويشير في مقدمته أيضاً إلى التعددية في رؤية الأب المؤسس للدولة محمد علي جناح، الذي ضمت حكومته وزراء غير مسلمين، وأضاف شريطاً أبيض على علم البلاد يرمز إلى الأقليات الدينية فيها. ولكن هذه الرؤية التعددية تلاشت بعد وقت قصير من وفاة جناح، وأُعلِنت باكستان جمهورية إسلامية. وقد أدت أسلمة البلاد إلى تبني قوانين صارمة في الثمانينيات خلال حكم ضياء الحق، الذي استخدم الإسلام لدعم استراتيجيات البقاء والقمع والسيطرة الاجتماعية لنظامه. قال ضياء الحق: “باكستان مثل إسرائيل، دولة أيديولوجية. أخرجوا اليهودية من إسرائيل وستنهار مثل بيت من ورق. وأخرجوا الإسلام من باكستان واجعلوها علمانية ستنهار على الفور”.

ويقسِّم أحمد دراسته إلى قسمَين يدرسان بشكل منفصل خطاب الإسلاميين والأحزاب غير الدينية حول الموضوعات التالية: هوية باكستان، والإصلاح ومعاداة الغرب، والأقليات الدينية، والعلمانية.

هوية باكستان

يقدم الباحث في هذا القسم تحليلاً مقارناً لمواقف الإسلاميين والعلمانيين من مسألة العلمانية في باكستان. ويشير فيه إلى أن الإسلاميين لطالما عارضوا العلمانية نتيجة فهمهم الخاطئ لها؛ إذ يرون أنها غير متوافقة مع التعاليم الإسلامية الأساسية، ولذلك لم يكونوا مستعدين لتقديم أي تنازلات تسمح بتعزيز التعددية، واستخدموا مصطلح العلمانية لاستهداف الأحزاب السياسية غير الإسلامية. ويستشهد على ذلك بما قاله أمجد خان، من جمعية علماء الإسلام، حول هوية باكستان: “تم إنشاء باكستان للمسلمين والإسلام؛ ولكن على مدى الأعوام السبعين الماضية عانت البلاد تضليلَ المؤامرات الغربية والقوى العلمانية، وإن لمَّ شمل مجلس الأمل الذي نعمل عليه هو ترسيخ للقيم الإسلامية الحقيقية التي كان يتصورها الآباء المؤسسون”.

ولا تختلف رؤية الأحزاب غير الدينية عن رؤية الإسلاميين عندما يتعلق الأمر بسيادة الإسلام في باكستان، أو في حقيقة أن الدولة قد تم إنشاؤها من أجل مسلمي شبه القارة الهندية. فمن الاشتراكية الإسلامية لبوتو إلى رؤية عمران خان لدولة إسلامية نموذجية يوجد ما يكفي من الإشارات إلى أن الأحزاب غير الدينية أيضاً تؤيد الدولة الدينية.

الإصلاح ومعاداة الغرب

من السمات البارزة للإسلاميين معارضتهم الصريحة للإصلاحات المتعلقة بالأمن وحقوق المرأة وربط هذه الإصلاحات بالعلمانية. ففي عام 2014 رفضت الجماعة الإسلامية الإصلاحات الأمنية المتعلقة بمكافحة الإرهاب ووصفتها بأنها “مؤامرة لتحويل باكستان إلى دولة علمانية”. وفي مارس 2016، اعتبر رئيس الجماعة الإسلامية، مولانا فضل الرحمن، مشروع قانون حكومة البنجاب لحماية المرأة من العنف مؤامرة من النوع نفسه، وقال: “إن اللوبي العلماني في البلاد يعمل لزعزعة أسس المساجد والمدارس الدينية لتحقيق أجندة غربية”.

وترتبط معاداة الإسلاميين الباكستانيين للعلمانية بمعاداتهم التاريخية للغرب، وبالإضافة إلى خطابهم المعادي، شارك هؤلاء في مظاهرات ضد الدول الغربية بعد نشر صحيفة “شارلي إيبدو” رسوماً كاريكاتيرية مسيئة للإسلام، وطالبوا بطرد السفير الفرنسي من البلاد. كما تجلت معاداتهم للغرب في موقفهم من استيلاء “طالبان” على أفغانستان في أغسطس 2021؛ حيث أشاد قادة التيارات الإسلامية بانتصار “طالبان” على الولايات المتحدة، بل إن بعضهم أرسل رسائل تهنئة إلى قادة “طالبان” في كابول.

أما الأحزاب غير الدينية البارزة، فلا تختلف كثيراً في مناهضتها للغرب، وإن كان ذلك بشكل أقل حدة. ومثال ذلك تحول “ذو الفقار علي بوتو”، زعيم حزب الشعب الباكستاني، عن سياسة حزبه اليسارية، واستخدامه الإسلام والقومية الإسلامية، وتخلي حكومته عن التحالفات الأمنية مع دول الغرب التي اعتبرها غير مجدية لتلبية الاحتياجات الأمنية في مواجهة الهند. وعمل بوتو على تقوية النزعة الإسلامية من خلال تطوير علاقات بلاده مع الدول الإسلامية وتقليل اعتمادها على المساعدات الأمريكية؛ من خلال حشد الدعم المالي من الدول الإسلامية، مثل ليبيا والمملكة العربية السعودية. أما حزب الرابطة الإسلامية الباكستانية، بزعامة نواز شريف، فلا يمكن وصفه بأنه معادٍ تماماً للغرب؛ فقد كان يسير بحذر شديد في المشهد السياسي الباكستاني، ويتضح ذلك من حقيقة أن قيادة الحزب لم تهاجم الإصلاحات التي تعزز حقوق الأقليات في باكستان؛ مثل تعديل قانون التجديف.

الأقليات الدينية

لطالما انتقد الإسلاميون ما يعتبرونه “علمانية ذات دوافع غربية تحت ستار حقوق الأقليات”، وتقود الأحزاب الدينية؛ وعلى رأسها الجماعة الإسلامية، هذا التوجه على الرغم من تأكيدها أهمية حماية حقوق الأقليات في بياناتها الانتخابية. ولكن الحديث عن حقوق الأقليات شيء والحريات الدينية شيء آخر؛ فالحرية الدينية تتطلب تغييرات أساسية في دستور باكستان. وقد أثبت الحزبان الدينيان الأبرز في البلاد؛ وهما الجماعة الإسلامية المشتركة، وحزب الجماعة الإسلامية، أنهما يقفان ضد حقوق الأقليات. ونجح الحزبان في معارضة الإصلاحات المتعلقة بها.

عندما يتعلق الأمر بحقوق الأقليات، فإن معظم الأحزاب غير الدينية لها مواقف مختلفة للغاية. وكثيراً ما انتقد قادة حزب الرابطة الإسلامية الباكستانية- نواز، وحزب الشعب الباكستاني، إساءة استخدام قوانين التجديف. وفي عام 2017، اعترف نواز شريف، رئيس الوزراء، آنذاك، بأن الأقليات الباكستانية تتلقى معاملة غير عادلة. ولكن على الرغم من ذلك؛ فإن أياً من الحزبَين لم يقم أثناء وجوده في الحكم باتخاذ أية خطوات عملية لتغيير هذا القانون.

العلمانية

تعتبر رحلة باكستان من العلمانية إلى الدولة الدينية، بمنزلة علامة واضحة على انتصار الإسلاميين. وحتى الأحزاب غير الدينية عند توليها الحكم، وكذلك الحكومات العسكرية، قد استجابت لمطالب الإسلاميين، وهناك حكومات؛ مثل حكومة أيوب خان وحكومة “ذو الفقار علي بوتو”، زعمت أنها علمانية ولكنها تحت ضغط الإسلاميين مهدت الطريق للأسلمة؛ من أجل الحفاظ على بقائها. وأوضح مثال على ذلك هو أن باكستان أصبحت دولة دينية بموجب دستور 1973 في ظل حزب الشعب الباكستاني العلماني ذي الميول اليسارية.

لا يزال هناك الكثير من الارتباك في باكستان في ما يتعلق بالعلمانية، ويرجع ذلك إلى نقص الوعي، وإلى كون الترجمة الأوردية لكلمة علماني هي “ملحد”؛ الأمر الذي يجعل من الصعب على الباكستاني المسلم أن يتقبل هذه الفكرة. وبالنظر عن كثب إلى البيانات الانتخابية لعدد من الأحزاب غير الدينية في باكستان، يمكن أن نرى بوضوح أنها أكثر إسلامية من الأحزاب الدينية؛ فأولاً لم يزعم أيٌّ منها أنه حزب علماني أو يؤيد فصل الدين عن الدولة في باكستان. ثانياً، تدرك هذه الأحزاب أنه عليها مراعاة بعض المناطق المحظورة إذا ما أرادت الاستمرار في البقاء على قيد الحياة في المشهد السياسي والاجتماعي في البلاد. فعلى الرغم من الانتقادات الشديدة التي طالت قوانين التجديف بسبب إساءة استخدامها لغرض استهداف الأقليات الدينية، بقيت هذه القوانين موضوعاً حساساً يمكن أن يؤدي الحديث ضده إلى عواقب وخيمة. في عام 2011 اغتيل حاكم البنجاب، سلمان تيسير، ووزير الأقليات الباكستانية شاهباز بهاتي؛ لأنهما تحدثا ضد هذه القوانين.

وفي الآونة الأخيرة، سارت حكومة حركة الإنصاف الباكستانية على الطريق نفسه. فزعيم الحركة، عمران خان، الذي كثيراً ما يوصف بأنه عميل غربي/ صهيوني، وعلماني، لم يكن قادراً على الشروع في إصلاحات معينة؛ بل إن حزبه شجع على مشاركة أكبر للإسلام في كل مجالات الحياة. وخلال وجودها في الحكم تصرفت حركة الإنصاف الباكستانية كحزب ديني بطرق متعددة. فقد فرضت حكومتها في البنجاب تعليم القرآن في المدارس، وفي مناسبة أخرى تراجعت حكومة حركة الإنصاف عن فرض منهج تعليمي موحد في البلاد أمام ضغط الجماعة الإسلامية التي اعتبرت أن هذه الخطوة كانت محاولة لعلمنة البلاد من خلال إزالة المحتوى الإسلامي من المنهج الوطني.

لم تتغير مواقف الإسلاميين من العلمانية منذ عهد الاستعمار، فهم يرونها تجربة أوروبية ضيقة الأفق. ولا تزال القيادة الحالية للجماعة الإسلامية تحتفظ بنفس آراء المودودي في هذا الصدد؛ حيث تعتبر رفضها للحداثة، رفضاً لقبول الهيمنة المعرفية الاستعمارية. وفي حين قبل الآباء المؤسسون لجمعية علماء الإسلام الديمقراطية العلمانية في ضوء القرآن والسُّنة، رفض المودودي هذه الديمقراطية ووصفها بالنظام الشيطاني.

اتخذ الأب المؤسس لحزب الشعب الباكستاني، ذو الفقار علي بوتو، العديد من الخطوات التي عززت تشابك الدولة والدين. ونص الدستور المؤقت للحزب على أن “الإسلام هو ديننا”، كما اعتاد قادة الحزب؛ ومن بينهم بيناظير بوتو، الإشارة إلى الإسلام في خطاباتهم. ولكن حزب الشعب يميل نحو العلمانية في تناوله بعض القضايا؛ مثل قوانين التجديف وحقوق الأقليات، وهذا يتماشى مع أيديولوجية يسار الوسط التي يتبناها الحزب، على عكس حزب حركة الإنصاف الباكستانية، وحزب الرابطة الإسلامية الباكستانية؛ اللذين يميلان إلى الإسلام.

وفي ختام بحثه، يقدم زاهد شهاب أحمد مجموعة من النتائج التي توصل إليها والتي يمكن إيجازها في ما يلي:

تأسست باكستان على أساس نظرية الأمتين كدولة لمسلمي شبه القارة الهندية، ولا تزال هذه الرؤية هي العدسة التي يتم من خلالها رؤية هوية باكستان حتى اليوم. وأظهرت الدراسة التحليلية أن الإسلاميين لديهم مواقف صارمة للغاية بشأن القضايا المتعلقة بالعلمانية والحداثة في البلاد. ويمكن للمراقب أن يرى أن مواقف قيادات الأحزاب الدينية لا تختلف عن رؤية الآباء المؤسسين لهذه الأحزاب؛ مثل المودودي والمفتي محمود، الذين كانوا في غاية الصراحة في عدائهم للعلمانية.

 وبينما استخدمت الأحزاب غير الدينية الدين في سياساتها الداخلية، فقد اتبعت هذه الأحزاب مسارات مختلفة حول مسألة العلمانية. وكان ذلك مدفوعاً في كثير من الأحيان بالرغبة في بقائها السياسي. كما أن النخب المدنية والعسكرية قدمت تنازلات للإسلاميين على مدى العقود التي أعقبت نشوء دولة باكستان في عهد أيوب خان و”ذو الفقار علي بوتو”. كان كلا الرجلَين علمانياً؛ لكنهما أدارا الشؤون الدينية بطريقة أدت إلى إشراك الدولة بشكل أكبر في الممارسة الدينية والفكر الإسلامي، على غرار ما عُرف بسياسة الاعتدال المستنير للجنرال مشرف. وقد استمر نهج الإسلاميين في العمل كجماعات ضغط ضد إصلاحات معينة؛ مما اضطر جميع الأحزاب إلى التراجع عن الإصلاحات السياسية التي كانت تقترحها.

وتظهر دراسة خمسة أحزاب سياسية تم تناولها في هذه الورقة، أنه لا توجد معارضة لفكرة قيام باكستان على أساس نظرية الأمتَين. وبالتالي، فهي ليست دولة علمانية. ومن بين هذه الأحزاب، حزب الشعب الباكستاني؛ وهو الحزب الوحيد الذي يوصف بأنه علماني أو الذي يُنظر إلى قادته على أنهم علمانيون. وفي حالة الإسلاميين، فمن الواضح أن سبب امتناعهم عن استخدام مصطلح العلمانية هو أن قادتهم لطالما نظروا إلى العلمانية على أنها مؤامرة غربية ولا تتوافق مع الإسلام.

ويقاوم الإسلاميون أي تغييرات قد تطرأ على مكتسباتهم التي حصلوا عليها بشق الأنفس من خلال أسلمة البلاد. ومثال ذلك مقاومتهم تعديل قوانين التجديف. ويُذكر أن كلاً من حزب الرابطة الإسلامية الباكستانية، وحركة الإنصاف، قد دافعا عن هذه القوانين، بينما كان حزب الشعب الباكستاني هو الاستثناء في هذه الحالة؛ حيث تحدث قادته عن إساءة استخدام قوانين التجديف ضد الأقليات الدينية. ولكن حزب الشعب لم يتخذ أية خطوة لتغيير هذه القوانين عندما كان في السلطة.

ومثل بقية الأحزاب الأخرى، لم يدَّعِ حزب الشعب الباكستاني قط أنه حزب علماني؛ بل يقول إنه يؤمن بحقوق الأقليات وبمبدأ المساواة. وعلى عكس ما كان عليه حزب الشعب الباكستاني في الماضي، في عهد “ذو الفقار علي بوتو”، وحزب حركة الإنصاف الباكستانية اليوم، لم يكن حزب الرابطة الإسلامية الباكستانية يدافع علناً عن نموذج دولة رفاهية إسلامية من خلال أفكار مثل “الاشتراكية الإسلامية”؛ بل كان مثل غيره من الأحزاب لم يدعُ قط إلى فصل الدين عن الدولة.

ويبدو أن الوضع الراهن يناسب القيادات السياسية للأحزاب والنخب السياسية؛ لأنه يحظى بدعم أغلبية الباكستانيين.

عن "كيوبوست"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية