الانتحار بين القراءات النفسية والاقتصادية و"ضعف الإيمان"

الانتحار بين القراءات النفسية والاقتصادية و"ضعف الإيمان"

الانتحار بين القراءات النفسية والاقتصادية و"ضعف الإيمان"


12/09/2023

أمينة خيري

هي المحاولة الوحيدة التي لو باءت بالفشل يتنفس الجميع الصعداء. يقرر أحدهم أن ينهي حياته لسبب ما. يبذل محاولة أو سلسلة من المحاولات، إن نجحت يموت ويترك وراءه تراجيديا إنسانية كبيرة، وإن فشلت المحاولة يبتهج الجميع - باستثناء المنتحر - معتبرين أن عمراً جديداً قد كتب له.

غاية المنتحر أن ينهي عمره لا أن يبدأ واحداً جديداً لا طاقة له به، لا سيما حال استمرت الأسباب التي دعته إلى الانتحار. وفي يوم 10 سبتمبر (أيلول) من كل عام يخطئ من يقول إن العالم يحتفي بـ"اليوم العالمي للانتحار"، بل هو "اليوم العالمي لمنع الانتحار".

وفي هذا اليوم من كل عام تنكشف درجات متفاوتة لكن مخيفة من كيفية تعامل المجتمعات والثقافات والأفراد مع المنتحر. البعض يعتبره ضحية ظرف أو ظروف دفعته إلى اتحاذ قرار إنهاء حياته، أو مريضاً نفسياً كان يستحق الاهتمام والعلاج. والبعض الآخر يضعه في مرتبة المجرمين، ويلحق بأسرته وصمة الكفر أو العصيان أو الضلالة، وغالباً كل ما سبق ويزيد.

زيادة الطين بلة

ويزيد من حجم معضلة الانتحار إصرار كثيرين، لا سيما في المجتمعات العربية، على الفصل التام بين الانتحار والمرض النفسي. ويزيد الطين بلة اعتبار المرض النفسي ذاته إما وهماً أو قلة إيمان. ويميل "الوسطيون" إلى اعتبار المرض النفسي ضعف إيمان وتدين.

علمياً وبعيداً من الخرف أو تحميل المرض والضغوط ما لا تحتمل من قلة الإيمان أو وهن التدين، تقول منظمة الصحة العالمية إنه على رغم ثبوت الصلة بين الانتحار والاضطرابات النفسية، لا سيما الاكتئاب والاضطرابات الناجمة عن تعاطي الكحول في البلدان المرتفعة الدخل، فإن نسبة كبيرة من حالات الانتحار تحدث بسبب الاندفاع في لحظات الأزمة حين تنهار قدرة الشخص على التعامل مع ضغوط الحياة.

هذه الضغوط لا تختلف فقط من حيث المحتوى بين المشكلات الاقتصادية والعاطفية والمرضية مثل الأمراض المزمنة، بل تختلف القدرة على تحملها والتعامل أو التواؤم معها من شخص لآخر.

ومن شخص لآخر تختلف المفاهيم المرتبطة بالانتحار. الكل يتفق على أنه فعل قتل الشخص لنفسه عمداً، لكن إصدار الأحكام على هذا الفعل والتعامل معه هو ما يفرق بين المجتمعات وبعضها، وعلى رغم ذلك لا يخلو مجتمع - مهما بلغت درجة تجريمه ووصمه - من الانتحار.

في كل عام يضع "رسمياً" نحو 703 آلاف شخص نهاية لحياتهم، لكن ما هو غير رسمي، ومن واقع دفتر أحوال الكوكب، الأرقام أعلى من ذلك بكثير. وكل منها هو قصة مأسوية تنال من أسرة بأكملها. وحتى في الثقافات التي تعتبر المنتحر إنساناً يستحق التعاطف وكان يستحق المساعدة، تترك كل قصة انتحار آثاراً طويلة المدى في الشخص الذي حاول الانتحار لو فشلت محاولته، وفي الأسرة بأكملها حال تكللت المحاولة بالنجاح.

الفقراء أيضاً ينتحرون

وبحسب منظمة الصحة العالمية فإن الانتحار يحدث في أي مرحلة من مراحل العمر، لكن تقريراً صدر في عام 2019 عن الانتحار - هو الأحدث - أشار إلى أن الانتحار رابع أبرز أسباب الوفاة بين المتراوحة أعمارهم بين 15 و29 سنة عالمياً.

وعكس الشائع من أن معظم حالات الانتحار تحدث في الدول المرتفعة الدخل، حيث انتهت ضغوط المواطنين الاقتصادية وانتفت أزماتهم المعيشية فلم يتبق لهم سوى التفكير العميق في جدوى حياتهم وهو ما ينعته البعض بـ"الفراغ النفسي" أو "الوجودي"، فإن الانتحار لا يحدث في الدول المرتفعة الدخل فقط. والمفاجأة أن 79 في المئة من حالات الانتحار الموثقة في عام 2019 حدثت في الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل، ودول إقليم شرق المتوسط - التي تحوي معظم الدول العربية - ليست استثناء.

تتمنى الملايين حول العالم أن تكون أسرهم ومجتمعاتهم وثقافاتهم استثناءً يبعدهم عن شرور (أو وصمة) الانتحار، لكن الأمنيات لا تحقق الاستثناءات. العدد "الرسمي" - أي الحالات المبلغة - لحالات الانتحار في إقليم شرق المتوسط في عام 2019 يبلغ نحو 42 ألف شخص، لكن العدد الحقيقي - كما يذكر خبراء منظمة الصحة العالمية لإقليم شرق المتوسط "إمرو" - أعلى من ذلك بكثير، والسببان الأبرز لعدم الإبلاغ والتوثيق هما التجريم والوصمة.

التجريم والوصمة يسودان

التجريم أو الوصمة أو كلاهما يسود في معظم دول إقليم شرق المتوسط الذي يسكنه 679 مليون شخص. ومع تفاوت المستويات الاقتصادية وفي السنوات الأخيرة تواتر الأزمات الإنسانية والمعيشية الناجمة عن تفجر الصراعات والحروب، تواجه دول الإقليم قائمة طويلة من التحديات النفسية والجسدية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية غير المسبوقة.

وعلى رغم انخفاض معدل الانتحار "الرسمي" في الإقليم بنسبة 17 في المئة بين عامي 2000 و2019، فإن المشكلة قائمة والأزمات متفاقمة والوصمة دائمة.

"الوصمة مشكلة مستمرة في دول الإقليم، وهي إحدى أكبر تحديات الصحة النفسية لا سيما أن خدمات الصحة النفسية ليست كافية أو شاملة أو يسهل الوصول إليها للجميع في المنطقة، بل إن الناس أنفسهم يترددون في طلبها"، بحسب ما يقول المستشار الإقليمي لبرنامج الصحة النفسية وإدمان المواد في "إمرو" في القاهرة خالد سعيد لـ"اندبندنت عربية".

ويضيف "لذلك بدأنا برنامجاً لمكافحة الوصم، لا سيما المتصل بالانتحار ونحاول التواصل مع الناجين والمعرضين له".

النجاة لا تعني الأمان

النجاة من محاولة انتحار لا تعني الأمان أي النجاة من الفكرة، بل ترفع احتمالات قيام الناجي بمحاولة ثانية وثالثة ورابعة لو لم يتلق المساعدة، لا التوبيخ أو التأنيب أو التجريم. فأقوى عامل يزيد من احتمال الانتحار هو الإقدام على محاولة انتحار من قبل.

في اليوم العالمي لمنع الانتحار تمنع العديد من المجتمعات العربية الحديث أو الإشارة عن الانتحار إلا في سياقات الجريمة أو العقوبة أو التوبيخ من باب قلة الإيمان. لذلك تعاني دول المنطقة ضبابية في الرؤية نظراً إلى عزوف الإبلاغ، وهو ما يؤدي إلى أرقام "رسمية" منخفضة مع ترجيحات هي أقرب ما تكون إلى التأكيدات أن المشكلة أكبر بكثير.

يقول سعيد "نحتاج إلى المزيد من الإحصاءات والبيانات لمزيد من التحليل للانتحار في دول الإقليم، لكن الغالبية لا تود التسجيل أو تقديم معلومات أو مشاركة الشرطة أو المستشفيات خوفاً من الوصم".

المنتحر "المجرم"

التعامل الشرطي أو الأمني مع الانتحار عادة يكون أحد أكبر العوائق التي تحول دون التوثيق، لا سيما في الدول التي "تجرم" الانتحار. في هذه الدول تتعامل القوات الشرطية مع المنتحر - حال نجاته - ومع أسرته باعتبارهم مجرمين.

موقع "فهم الانتحار" - المخصص لشرح الجوانب المتعلقة بالانتحار وحتمية إدماج الصحة النفسية وخدماتها وسبل تقصي الانتحار قبل حدوثه ووسائل المساعدة في الدول الغربية - يحتوي على قائمة بالدول التي تجرم قوانينها الانتحار ومنها بنغلاديش وبروناي وقبرص وغانا وكينيا وماليزيا ونيجيريا وباكستان وسنغافورة وسريلانكا وتنزانيا وأوغندا. ومن الدول العربية لبنان والسودان والصومال وقطر.

يشار إلى أن عضو مجلس النواب (البرلمان) المصري أحمد مهنى تقدم بمشروع قانون العام الماضي بغرض تجريم الانتحار والشروع فيه. وقال وقتها إن الهدف من التجريم هو "مكافحة انتشار هذه الظاهرة البشعة، والحفاظ على الروح التي كرمها الله، إضافة إلى مواجهة حالات الانتحار بإقناع أو إجبار الشخص على العلاج والتأهيل النفسي".

واحتوى مشروع القانون على "فرض" عقوبة علاجية صحية إلزامية على الشخص حال نجاته من محاولة الانتحار، وإيداعه مصحة نفسية لحين تأهيله للعودة إلى الحياة الطبيعية.

وجاء في مشروع القانون أنه في حالة عودة الشخص لنفس الفعل بعد العلاج، يتم الحكم عليه بالعودة مجدداً للعلاج مع فرض غرامة مالية تراوح ما بين 10 آلاف (324 دولاراً) و50 ألف جنيه مصري (1620 دولاراً)!

وقتها رأى البعض في القانون رادعاً لـ"المجرمين" المقبلين على الانتحار، لكن البعض الآخر اعتبره إما عدم فهم تام بالانتحار والصحة النفسية والجوانب الإنسانية للبشر، أو هزلاً كاملاً، إذ من تتكالب عليه ضغوط الحياة الاقتصادية فيجد نفسه عاجزاً عن الإنفاق على أسرته ونفسه ويفقد البوصلة في لحظة ضعف فيحاول إنهاء حياته، وإن نجا يجد نفسه ملزماً دفع آلاف الجنيهات عقاباً له على فعلته "الشنعاء" حتى لا يكررها!

تكرار المحاولة

علمياً الإقدام على الانتحار وعدم تلقي الدعم والمساندة المطلوبين، فما بالك بالتجريم والاغتيال المعنوي والوصم الاجتماعي والتأنيب الأخلاقي، يعني في حكم المؤكد تكرار المحاولة.

محاولة البعض في المؤسسات الدينية الرسمية، سواء الإسلامية أو المسيحية، التخفيف من حدة تكفير وتجريم وتشويه المنتحر وأسرته باعتباره كافراً عاصياً محترقاً مما لا شك فيه في نيران جهنم أسفرت تخفيفاً في حدة التوبيخ والتشويه.

دار الإفتاء المصرية تقول إن الانتحار حرام شرعاً ومن كبائر الذنوب ومعصية، لكنها بشرت جموع المنتحرين وأسرهم بأن "المنتحر المسلم ليس كافراً ولا يخرج من الملة، بل يظل على إسلامه، ويصلى عليه ويغسل ويكفن ويدفن في مقابر المسلمين". ويظل أفضل ما قيل من قبل مؤسسات دينية رسمية عن المنتحر ما قاله أمين الفتوى في دار الإفتاء أحمد وسام. قال "ندع له (المنتحر) بالمغفرة والرحمة ونتصدق عنه بما يتيسر، والله أعلم بحاله إن شاء حاسبه على ما فعل وإن شاء عفا عنه".

أما الكنيسة القبطية المصرية فهي دائماً تؤكد أن الانتحار خطية واعتداء من المنتحر على نعمة الحياة. وقبل نحو خمسة أعوام صدمت الكنيسة القبطية بمحاولة أحد الرهبان الانتحار. وقال وقتها عضو المجلس الملي العام (مجلس كنسي) القمص صليب متى ساويرس (توفي في 2019) إن المسيحية تجرم الانتحار وقتل النفس بشكل قاطع، مع اعتبار قتل النفس مخالفة لنواميس الكون، بالتالي تتعارض وخطة الله للكون. وأكد في تصريحات صحافية في ذلك العام أن الكنيسة لا تصلي على منتحر، وأن المنتحر يحرم كنسياً على مر التاريخ لأنه مات من دون أن يتوب عن القتل.

علقة ساخنة للمنتحر

يقتل المنتحر مرتين أو ثلاثاً أو أكثر، مرة بقتل نفسه ومرات بمناصبته العداء من قبل الدين، واعتباره مجرماً من قبل الشرطة، ووصمه وأسرته من قبل المجتمع. وقبل أسابيع قليلة تم تداول فيديو يعكس كثيراً عن معنى الانتحار في المجتمعات العربية.

الفيديو تم التقاطه بهاتف محمول أحد المواطنين المصريين في محافظة الفيوم، إذ وثق محاولة شاب الانتحار. لم يجد الشاب "أفضل" من مئذنة مسجد ليحاول أن يقفز منها. أما المصلون والمارة فلم يجدوا وسيلة لـ"تصحيح" فكر الشاب بعد ما هرعوا بالعشرات إلى المئذنة وتمكنوا من منعه أفضل من إعطائه علقة جماعية ساخنة.

سخونة العلقة لا تعني بالضرورة عدولاً بائناً للشاب عن فكرة الانتحار. وتجريم قتل النفس والتلويح بمهددات الخطيئة والعصيان واحتمال حرمانه بعد موته من الصلاة عليه في المسجد أو الكنيسة عادة لا تجدي نفعاً مع من وصلت به الحال إلى درجة الرغبة في الموت لدرجة اتخاذ القرار بنفسه.

تجريم الانتحار والتهديد بالوصم وثيقا الصلة، لا بالعدول عن الانتحار، بل بعدم الإبلاغ عن وقوعه. المستشار الإقليمي لبرنامج الصحة النفسية وإدمان المواد في "إمرو" خالد سعيد قال في إطار جلسة عقدتها "إمرو" قبل أيام لمناسبة "اليوم العالمي لمنع الانتحار" إن ربط الانتحار بالجريمة يجب أن ينتهي، وإن على الناس ألا يخشوا من التوجه إلى المستشفيات طلباً للعون.

وأضاف "صحيح أن الأديان تحرم الانتحار، كل الأديان تحرم قتل الذات، لكن الانتحار يحدث في نهاية مطاف صعب وشاق، علينا ألا نغفل ذلك. الدين له دوره الكبير في حياة الناس، وعلى رجال الدين أن يشرحوا للناس أهمية دورهم في الحياة وربط ذلك بالمجتمع ودور كل منا فيه، وهذا ما من شأنه أن يحسن من الصحة النفسية كثيراً. الصورة أكبر بكثير من ربط الانتحار بضعف الإيمان".

تبدد الأمل ونحاول استعادته

وعلى رغم أمارات "قوة" الإيمان في المنطقة، فإن أمارات عديدة تشير إلى تفاقم "قوة" تبدد الأمل أيضاً. ثمة صلة قوية بين النزاعات والكوارث والعنف وسوء المعاملة، وكذلك فقدان الأحبة والشعور بالعزلة بالسلوك الانتحاري.

المنظمات الأممية العاملة في مجال المهاجرين واللاجئين والنازحين والصحة تؤكد أن معدلات الانتحار ترتفع بين الفئات الضعيفة التي تعاني التمييز مثل اللاجئين والمهاجرين.

هنا يقول سعيد "نحن في إقليم (شرق المتوسط) في حالة تطور. نمر بتحولات اقتصادية وثقافية وسياسية متعددة، وحين يمر الشخص بتحولات كبرى، فهذا يعرضه لضغوط رهيبة لا يتعامل معها الجميع بالطريقة نفسها. في دولنا كثيرون يتحركون من مكان إلى آخر معظمهم من الشباب بحثاً عن فرص العمل، وفي هذا السياق لا تتاح لهم في المجتمعات الجديدة الدعم الاجتماعي والنفسي اللازم، وهذا يجعلهم عرضة للسلوكيات الخطرة والنفسية السيئة. نحن إقليم يمر بمرحلة تطور، ودول عديدة تتحرك بوتيرة سياسية وثقافية واقتصادية مختلفة مما يضع الملايين تحت ضغوط هائلة، إضافة إلى آثار كوفيد-19 والركود الاقتصادي الحالي".

في العاشر من سبتمبر (أيلول) كل عام لم يعد العالم يتذكر الانتحار ويعي أهمية منعه والوقاية منه، بل بات اليوم تذكرة بما تمر به دول العالم، وللعالم العربي نصيب الأسد من صراعات وحروب وطوارئ.

انتحار الطوارئ

وفي الطوارئ تظهر مشكلات الصحة النفسية. واحد من كل ثمانية أشخاص يعاني مشكلة نفسية في دول العالم المستقرة أثناء حياته. وفي الدول التي تمر بطوارئ واحد من كل أربعة أشخاص يمر بمشكلة نفسية قد تدفع البعض إلى التفكير في إنهاء حياته. ويضاف إلى دول الطوارئ قلة الموارد المادية والبشرية المتاحة للصحة النفسية.

وإذا كانت معدلات الانتحار صعوداً وهبوطاً وثيقة الصلة بوضع الرعاية الصحية النفسية في الدول، فإن معظم دول إقليم شرق المتوسط تخصص ما لا يزيد على اثنين في المئة من ميزانيتها الصحية للصحة النفسية، على رغم أن منابع العلل النفسية في الدول العربية لا تعد أو تحصى، لا سيما في ضوء نزاعات وحروب العقد الماضي. ويشير سعيد إلى أن "عدد المشتغلين بالطب النفسي في إقليم شرق المتوسط أقل بكثير من المعدلات العالمية، وهو ما يعني أن الصحة النفسية مغفلة في المنطقة. ونحو 75 في المئة ممن يحتاجون إلى رعاية صحية نفسية في دولنا لا يحصلون عليها".

"فعل" لا "ارتكاب"

يحصل من أقبل على "فعل" الانتحار ونجا منه في الدول العربية على لقب "منتحر" طوال حياته. لذلك ترى منظمة الصحة العالمية في اليوم العالمي لمنع الانتحار أن العمل على "الوصمة" أمر بالغ الأهمية، وتكفي إشارة الإعلام إلى من "ارتكب" (في دلالة على الجرم) وليس "فعل" أو "أقدم" على الانتحار.

تقول المنظمة إن وصمة العار التي تحيط بالاضطرابات النفسية والانتحار تعني أن كثيراً ممن يفكرون في وضع نهاية لحياتهم أو حاولوا الانتحار لن يسعوا إلى طلب المساعدة. ولم تعالج مسألة الوقاية من الانتحار بشكل كاف بسبب ضعف التوعية بالانتحار بوصفه واحداً من أبرز مشكلات الصحة العامة، بل واعتبار الحديث عنه صراحة من المحرمات. وهذا يعني أن الوقاية من الانتحار تظل استراتيجية مع وقف التنفيذ.

يرى سعيد أن منع الانتحار ينطلق من نقاط عدة، أبرزها الحد من الوصول إلى وسائل الانتحار، والإبلاغ المسؤول من قبل الأهل، وكذلك الإعلام حيث التركيز على الوقاية من الانتحار وليس الانتحار نفسه، وتحسين الثقافة العاطفية والاجتماعية والنفسية للفئات الأكثر عرضة للتفكير في الانتحار مثل مراهقي المدارس ورجال الشرطة والإطفاء وأولئك الذين يعيشون طوارئ، إضافة إلى خطة فعلية وليست حبراً على ورق تقدم الإجابة عن سؤال: لمن يلجأ من تنتابه رغبة في الانتحار؟ وماذا تفعل الأسر التي تشك في أن أحد أفرادها يفكر في الانتحار؟

علامات التفكير

المستشار الإقليمي لبرنامج الصحة النفسية وإدمان المواد في "إمرو" خالد سعيد يقول إن هناك علامات كثيرة قد تدل على أن الشخص ربما يفكر في الانتحار، منها على سبيل المثال لا الحصر، الإفراط على غير العادة في التدخين أو الكحوليات أو كليهما والأرق وفقدان الشهية للأكل وقلة الكلام وتغيير في الأنشطة والروتين اليومي، وغيرها من الأمارات التي ينبغي ملاحظتها وكتابتها وطلب العون من الجهات الصحية والنفسية المناسبة.

ويذكر بأن المهم هو اللجوء إلى المتخصص الذي يعي الموقف، ويدرك الخطوات التي ينبغي اتخاذها وأبرزها تقديم العون النفسي للشخص الذي يفكر في إنهاء حياته، قائلاً "علينا أن نبتعد عن أولئك الذين يهددون ويتوعدون من يفكر في الانتحار من باب الترويع حتى لو كانت نيتهم حماية الشخص".

ويضيف سعيد فئة من الأشخاص الذين قد يقدمون على الانتحار، وذلك بسبب الأمراض المزمنة أو تلك التي تسبب آلاماً مبرحة لفترات طويلة، وهؤلاء يحتاجون إلى مساندة ومساعدة متخصصة.

انتحار الأطفال والسياسة

أما الأطفال وما يشاع أو يقال في الإعلام عن "ظاهرة" انتحار الصغار أو "انتشار" الفكر الانتحاري بينهم، فيقول سعيد "بالطبع توجد حالات انتحار أو محاولات بين الأطفال، لكن ليست لدينا براهين تشير إلى ارتفاع المعدلات بينهم. وعلينا توخي الحذر قبل الانجراف في عبارات رنانة تضمن القراءة وتحقق المشاهدة مثل "وباء انتحار الأطفال" لأنها بالغة الضرر.

ومن "انتحار الأطفال" المبالغ في تغطيته ونعوته إلى "الانتحار السياسي" والذي أضحى عبارة يتلاعب بها البعض على سبيل النكاية السياسية. البعض يستخدمها للدلالة على خطوة جريئة أو غير مدروسة لناخب أو حاكم أو مرشح، لكن البعض الآخر يستخدمها بشكل متصاعد في سنوات ما بعد ما يطلق عليه "الربيع العربي". الجماعات التي تمت إطاحتها بعيداً من كراسي الحكم تعتبر كل من يفكر في قتل نفسه "منتحراً سياسياً" يائساً من النظام وبائساً لدرجة الانتحار وآملاً في عودة الجماعة المنبوذة إلى سدة الحكم.

ويذكر سعيد "علينا التوقف عن استخدام مثل هذه العبارات في الإعلام، لأنها تهول من الحوادث وتمزج السياسة بالصحة".

مزج الأمل بالعمل

لكن ما يمكن مزجه في "اليوم العالمي لمنع الانتحار" هو الأمل بالعمل. شعار عام 2023 هو "الأمل والعمل... الصحة للجميع وبالجميع". يقول مدير "إمرو" أحمد المنظري "إن الانتحار عمل مأسوي يدل على اليأس، وتتطلب الوقاية منه إيلاء مزيد من الرعاية والاهتمام بالمجتمعات وفيما بين أفراد الأسرة ومقدمي الرعاية وغيرهم. ومن شأن اتخاذ الإجراءات الفعالة في الوقت المناسب من قبل جميع أصحاب المصلحة - أي الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني والمجتمعات والأسر والأفراد - أن يخلق الأمل ويحد من السلوك الانتحاري".

وينبه المنظري إلى أن الشعار هو دعوة قوية للعمل والتذكير بأن الأمل موجود في القدرة على استمرار بثه وتقليل عدد من يفكرون أو يقدمون على قتل أنفسهم يأساً.

القتل بسبب اليأس هشاشة نفسية لكنها ليست عيباً في الشخص أو وصمة له أو لأسرته. يقول سعيد "إن بث الأمل لا يقتصر على الصحة النفسية فقط، ولكنها حجر الزاوية، وذلك لأنها تسهم في صحة المجتمعات وتطورها. وكل الدول مدعوة إلى إدراك حتمية الاستثمار في الصحة النفسية".

عوار في الصحة النفسية

الصحة النفسية في العديد من الدول العربية تعاني عواراً يتمثل في قلة اهتمام وتدني تمويل، والبيانات والأرقام المتعلقة بالانتحار تشكو ضعف الإبلاغ وشح التوثيق، والمنتحر وأسرته والمحيطون يتجرعون مرارة الوصم والتمييز، وذلك في "اليوم العالمي لمنع الانتحار"، هذا عن المنتحرين "العاديين" الذين يمرون بأزمات أو يعانون أمراضاً وضوائق نفسية أو عاقروا مواد مخدرة، هؤلاء يسمونهم أحياناً بـ"المسكوت عنهم".

أما "المسكوت عنهم جداً" فهم فئات أكثر هشاشة نفسية وعرضة للتمييز والوصم المضاعف مثل السجناء والمثليات والمثليين والعابرين جنسياً وغيرهم من أصحاب الميول الجنسية الأخرى.

أما أكثر أساليب الانتحار شيوعاً في دول الإقليم فهي شنق النفس والتسمم بمبيدات الآفات وإحراق الذات وقتل النفس بالأسلحة النارية والغرق وتعاطي جرعات زائدة من المخدرات.

معلومات متضاربة

ولا تتشابه أو حتى تتقارب القوائم التي تسنها جهات صحية واستطلاعية عدة لدول العالم الأعلى أو الأقل في معدلات الانتحار. حتى تحليل البيانات الواحدة يتم تحليلها من قبل جهات مختلفة بطرق متراوحة. تقرير منظمة الصحة العالمية الشامل عن الانتحار في العالم في عام 2019 يضع إقليم شرق المتوسط في المنتصف. أما الدول العربية، وبحسب معدلات الوفاة لكل 100 ألف، تأتي اليمن في المقدمة حيث 8.5 في الألف، ثم السودان بمعدل 8.1 في الألف، وجيبوتي 6.7 في الألف، وقطر 6.6 في الألف، والبحرين 5.9 في الألف، ثم ليبيا 5.2 في الألف، والصومال 4.7 في الألف، ومصر أربعة في الألف، وعمان 3.9 في الألف، وتونس 3.4 في الألف، والسعودية 3.2 في الألف، ولبنان 3.3 في الألف، والكويت 2.3 في الألف، والعراق ثلاثة في الألف، والأردن والمغرب 2.9 في الألف، والإمارات 2.8 في الألف، وسوريا 1.9 في الألف.

لكنها تظل الأرقام الرسمية التي تقتصر على الإبلاغ والتوثيق.

يشار إلى أن تقارير عدة واردة من سوريا في السنوات القليلة الماضية أشارت إلى زيادة في حوادث انتحار النساء والفتيات (من دون أرقام موثقة). وتشير هذه التقارير إلى أن الأسباب تتلخص في المعاناة المضاعفة عليهم جراء الحرب والفقر والعنف المنزلي والزواج المبكر.

أما المعدل العالمي فهو 10.5 حالة لكل ألف من السكان. وفي خطة التنمية المستدامة 2030، التي بات عامها يلوح في أفق المستقبل القريب، التزمت الدول العمل على ما ورد فيها، وبينها خفض معدل الانتحار في دول العالم بمقدار الثلث.

إقليمياً يقول مدير "إمرو" أحمد المنظري إن العمل يجري من أجل تحقيق الهدف بالتعاون مع دول المنطقة، "لكننا ما زلنا بعيدين عن تحقيق تلك الغاية".

عن "اندبندنت عربية"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية