الانتحار ليس الحل

الانتحار ليس الحل


11/09/2022

كوليت بهنا

كنا في سن المراهقة حين صدمنا بفاجعة انتحار نجمة السينما رومي شنايدر 1982، بسبب اكتئاب حاد أصابها بعد موت طفلها غرقا. لم نتفهم في حينه، ونحن في غمرة حماسنا للحياة، معنى الاكتئاب وكيف يمكنه أن يتغلب على امرأة مثلها، وهي التي اعتبرت واحدة من أجمل جميلات السينما الفرنسية والعالمية، وامتلكت آنذاك كل أسباب المجد والحب والمال التي توهمّنا أنها تنسي الأحزان وتجلب السعادة الأبدية. 

لكننا سرعان ماصدمنا ثانية بانتحار مماثل للنجمة العالمية داليدا، وفقدنا أحد رفاقنا المتفوقين دراسيا بسبب صدمة رسوبه في البكالوريا أفضت به إلى اكتئاب قاتل، وأدركنا مع تتالي الخسارات حجم ومقدرة هذا الوحش النفسي العنيف، ومقدرته على تحطيم الأفئدة دون رحمة، وقتل أية شهية للحياة، وتزيين الموت على أنه الخلاص الوحيد المتاح للراحة والسكينة.  

قائمة أسماء النجوم والمشاهير والمؤثرين الذين أنهوا حياتهم بسبب الاكتئاب طويلة جدا، وأحدثهم كانت الخسارة المزدوجة والمؤسفة لكل من نجمي هوليوود العالميين روبن ويليامز وفيليب هوفمان. كما تطول اليوم القوائم الحديثة لأفراد عاديين، لكنهم أعزاء ومؤثرون في محيطهم دون شك، ممن ينتحرون في معظم دول العالم، وارتفاع نسبهم بشكل ملفت في السنوات الأخيرة في عدد من دول الشرق الأوسط، من أبرزها لبنان والعراق ومصر والكويت وسوريا. 

وفي مثل هذا التاريخ الذي يصادف اليوم العالمي لمنع الانتحار، مازال الاكتئاب متقدما كأبرز دافع له، يوحد الغني والفقير في آلامهما ورغبتهما القاسية التي تقودهما نحو هذه النهاية. وفيما تقسو العامة في  أحكامها على النجوم والمنعمين من المنتحرين، ويوسم سلوكهم بالترف والبطر، دون محاولة تفهم أو إبداء شفقة أو تعاطف مع حساسياتهم الخاصة وأسبابهم النفسية الحادة التي أغلقت لديهم في لحظة مصيرية كل نوافذ الحياة. 

تقسو بالمثل العديد من المجتمعات على المنتحرين من الأفراد العاديين، وينعتون بالكفرة أو الخطائين أو ضعيفي الإيمان، وبالتالي لايصلى على جثامينهم في جامع أو كنيسة أو كنيس، ولايترحم عليهم، وتدفع عائلاتهم ثمناً باهظاً من الازدراء والتهميش وكأنها أصيبت بلوثة عار أبدية، الأمر الذي يدفع بالعديد من الأهالي إلى الحيلة أو الرشى لتغيير تقرير أسباب الوفاة، وإخفاء الانتحار بسبب عواقبه الاجتماعية والدينية والقانونية.    

وفي حقيقة الأمر المحزن، يندرج انتحار الأفراد العاديين من الفقراء والمحتاجين، أو من الذين انقلبت حياتهم رأسا على عقب بين ليلة وأخرى، أو ممن خسروا أحبة أو أرزاقا أو بلادا أو سلاما، تحت بند الكارثة الوطنية، بسبب أعمارهم الشابة كما أوضحت القوائم الرسمية في عدد من البلدان، مما يعني خسائر مضاعفة لحيواتهم وعائلاتهم وبلدانهم. 

بعض المنظمات المختصة غير الحكومية  باتت تنتشر وتنشط لتقديم الدعم النفسي، وبخاصة في المجتمعات المنكوبة جراء الصراعات أو جراء تردي الأوضاع المعيشية الكارثي. لكن المسؤولين مازالوا يتهربون من مسؤولياتهم اتجاه مجتمعهم، كما الحال في لبنان كأبرز وأقسى مثال، ويمعنون في جورهم السياسي والاقتصادي والضرائبي الذي يدفع يوميا بأعداد جديدة من المنتحرين الشبان، من الأصحاء عقلياً، وليسوا بالكفرة أو الخطائين أو ضعيفي الإيمان بطبيعة الحال، لكنهم بلغوا مرحلة القنوط، وهو أشد اليأس. 

يعلم الجميع الأوضاع المعيشية والضيق الذي تعيشه معظم مجتمعات العالم، وبشكل استثنائي وصارخ مجتمعاتنا الشرق أوسطية، وفيما ينعدم الرجاء بحلول إنقاذية تتبناها الحكومات، تبقى الحلول الاجتماعية هي الأمل الوحيد، وذلك بزيادة التوعية بأهمية التكافل الاجتماعي في المحن، وأهمية الدعم العاطفي بين أفراد الأسرة الواحدة، والتشجيع على ثقافة الحياة، كي لاتبيت أسرة جائعة، أو تستيقظ وتجد معيلها منتحرا لأنه لم يتمكن من سد رمق أطفاله.  

المنتحر، غنيا كان أم فقيرا، لأسباب عاطفية أو اقتصادية أو لأي سبب آخر، هو إنسان وقف عند الحافة وتأمل الهوة السحيقة بكامل هشاشته، وربما احتاج لمن يمد يده إليه وينقذه من نفسه في تلك اللحظة الفاصلة بين موته وحياته. لايحتاج إلى تصنيفات المجتمع وأحكامه من مثل شجاع أو جبان، بل هو في نهاية الأمر، مسكين للغاية، يستحق الرثاء والتعاطف، وتستحق أسرته العزاء، ومختصر ما هو مطلوب من مجتمعه، فقط إعادة النظر في الواقع المرير الذي دفعه، وربما يدفع بالمزيد، إلى عدم الرغبة بالحياة.  

عن "الحرة"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية