التدمير الذاتي للقوة الأمريكية

التدمير الذاتي للقوة الأمريكية


17/06/2019

يبدو المشهد العالمي هذه الأيام سوريالياً؛ وأزعم أنّه ليس ثمة مراقب أو محلل سياسي يزعم القدرة على التنبؤ بسير الأحداث السياسية في العالم.
العامل المشترك والرئيس في هذا المشهد اليوم هو أمريكا! هل ستدخل في حرب مع إيران، خاصة بعد تفجير ناقلات النفط في خليج عُمان (13 حزيران /يونيو 2019)؟ وهل ستعلن عن صفقة القرن؟ ومتى؟ وهل ستنجح في حربها التجارية مع الصين؟

مثلما نمت الهيمنة الأمريكية مع بداية التسعينيات بدأت القوى العالمية بالحدّ من هذه الهيمنة

كيف ستفعل ذلك كلّه وهناك الكثير من القضايا الكبرى والتفصيلات الأخرى التي تدور في فلك الهيمنة الأمريكية التي بات الكثير من المحللين والمراقبين يرى أنّها في طريقها المتعرج نحو النهاية أو التدمير الذاتي؟
بداية؛ إنّ عنوان هذا المقال  "التدمير الذاتي للقوة الأمريكية"، المكثف والعميق والصادم، والذي يبدو محمّلاً بالثقة والقطعية، لم آتِ به من عندي؛ حتى لا أتَّهم جزافاً بمعادة الهيمنة الأمريكية والأمركة العالمية.
إنّ العنوان في الواقع ترجمة حرفية عن الإنجليزية، لعنوان مقال نشر في مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية الشهيرة، في عددها الأخير 2019، لواحد من أهمّ المحللين السياسيين والمنظرين في العلاقات الدولية؛ ألا وهو فريد زكريا، الأمريكي من أصولٍ هندية، الذي سبق له أن نشر أكثر من مقال ودراسة حول الموضوع نفسه، ويعدّ حالياً من أشدّ المنتقدين لإدارة الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب؛ حيث يتهمه صراحة بالشعبّوية، وبأنّه يهدّد بفقدان أمريكا لقيادة العالم الحرّ. 

اقرأ أيضاً: إلى أي مدى سيصمد سيناريو عض الأصابع بين أمريكا وإيران؟
النقطة الرئيسة التي يتحدث عنها زكريا في كافة مقالاته الناقدة للسياسية الخارجية الأمريكية تحديداً؛ هي موضوع "الهيمنة الأمريكية"، وهو يحاجج باستمرار بأنّ موت هذه الهيمنّة كان نتيجة "لعدوى داخلية نتيجة سلوك وعادات واشنطن السيئة".
متى انتهت الهيمنة الأمريكية؟
كتحديدٍ زماني لنهاية أو "موت" حقبة الهيمنة الأمريكية، يجازف زكريا بالقول: إنّها بدأت خلال العامين الماضيين تقريباً؛ حيث يقول إنّ عمر السيطرة الأمريكية كان قصيراً جداً؛ حيث استمر مدة ثلاثة عقود من الزمن فقط، متميزاً بلحظتين فارقتين في نوعهما؛ الأولى ولدت بالتزامن مع انهيار جدار برلين، العام 1989، والثانية كانت حرب العراق، العام 2003، والتي كانت بداية النهاية البطيئة للهيمنة الأمريكية.

بحسب زكريا أساءت أمريكا استخدام هيمنتها وقوتها وخسرت أصدقاءها في الوقت الذي تساهلت فيه مع أعدائها

لكنّ السؤال الذي يجب على المؤرخين السياسيين والمحللين الإجابة عنه خلال الأعوام القادمة، هو: هل كانت نهاية هذه الهيمنة نتيجة عوامل خارجية أم داخلية سرّعت بها واشنطن نتيجة سلوكها وعاداتها السيئة؟
بالطبع؛ إنّه في مثل هذه الحالات هناك الكثير من العوامل التي ساهمت في هذه النهاية، وجلّها متعلق في العمق بهيكلية "النظام الدولي"، التي تعاند أيّة أمة تراكم كمّاً هائلاً من القوة بشكل منفرد مثل الإمبراطورية الأمريكية.
في المثال الأمريكي الذي يعدّ مختبر تجارب عالمياً اليوم لتحليل النظام الدولي وسلوك الدول، تبدو واشنطن، بحسب ادّعاءات زكريا، كأنّها أساءت استخدام هيمنتها وقوتها وخسرت أصدقاءها، في الوقت نفسه الذي تساهلت فيه مع أعدائها، وجعلتهم يتجرؤون عليها.
واليوم؛ في ظلّ وجود دونالد ترامب، فإنّ أمريكا فقدت مصالحها وإيمانها بالأفكار والأهداف التي صبغت شكل وجودها الدولي خلال ثلاثة أرباع القرن. 

اقرأ أيضاً: حلم ايران بتغيير أمريكي في 2020.. هل هو واقعي؟
وهناك شبه إجماع بين المؤرخين والمحللين السياسيين، الغربيين طبعاً، على أنّ الهيمنة الأمريكية، بعد حقبة الحرب الباردة، لم يكن لها مثيل في التاريخ منذ الإمبراطورية الرومانية.
وهناك بعض الكتّاب ممّن أعادوا بداية بزوغ فجر ما يسمى "القرن الأمريكي"، وهو المصطلح الذي صاغة أول مرة الناشر المشهور هنري روبنسون لوس (Henry Luce)، مؤسّس مجلات "التايم" و"لايف" و"الفورشن"، إلى العام 1945.
لكنّ الظروف تختلف؛ فحقبة الحرب العالمية الثانية، بالتأكيد، تختلف عن حقبة ما بعد انهيار جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفييتي، بعد العام 1989، وهي الحقبة التي يحتفل بها الكثير من المحللين، خاصة الصحفيين، مثل توماس فريدمان، كعلامة تاريخية لبداية انطلاقة العولمة المعاصرة.
المهم؛ أنّه في حقبة ما بعد 1989 بدأ يظهر إلى السطح لاعبون جدد، مثل: اليابان، ألمانيا، والصين، وفي العام 1990، كانت مارغريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا الشهيرة، تجادل بأنّ العالم يقسم إلى ثلاثة أطياف سياسة، يسيطر عليه: الدولار الأمريكي، والين الياباني، والمارك الألماني، وفي العام 1994؛ تنبأ هنري كسينجر، في كتابه "الدبلوماسية"، ببزوغ فجر عصر "متعدد الأقطاب" السياسية.
نهاية الهيمنة الأمريكية
يبدو أنّه، مثلما نمت الهيمنة الأمريكية مع بداية التسعينيات على غفلة من العالم، كذلك مع نهاية التسعينيات، بدأت القوى العالمية بالحدّ من هذه الهيمنة، رغم الحديث الشعبي عن أنّها أمة لا تقهر، وأنّها القوة العظمى الوحيدة في العالم.
اليوم، ورغم كافة الادعاءات بانكفاء وانحسار القوة الأمريكية، إلا أنّها ما تزال، حتى الآن، القوة المهيمنة على العالم، ولا أعتقد بأنّ هناك معنى لمفهوم "النظام الدولي"، حتى كوحدة تحليل، دون أمريكا، مع الإقرار بأنّ هناك منافسة شديدة من قبل بعض الدول في العالم للحدّ من هذه الهيمنة.
والسؤال: ما هي العوامل والقوى العالمية التي أخذت تنافس الهيمنة الأمريكية؟

في حقبة ما بعد 1989 بدأ يظهر إلى السطح لاعبون جدد مثل: اليابان وألمانيا والصين

أولاً: الصين، التي أصبحت المنافس الحقيقي للهيمنة الأمريكية، والتي بدأت عملية من التطور والنمو الاقتصادي المستمر منذ العام 1980، ومزجت بطريقة غريبة وهجينة (فرانكشتاينية) بين الرأسمالية المتوحشة، والماركسية اللينينية.
ثانياً: روسيا، التي بدأت مع حقبة فلاديمير بوتين تستعيد قواتها ومناكفتها لأمريكا، وتسعى للسيطرة على الفضاء الأوراسي، وفكرة الأوراسية على نطاق عالمي هي العالمية الثورية، التي يدعو الأوراسيون الجدد، وعلى رأسهم ألكساندر دوغين (Alexander Dugin)، المنظّر الروسي المُقرَّب من فلاديمير بوتين، إلى أن تكون منصّة جديدة للتفاهم المتبادل والتعاون من أجل تكتل كبير من مختلف القوى: الدول والأمم والثقافات، والأديان التي ترفض ما يطلق عليه دوغين النسخة الأطلسية من العولمة.
وبوجود الصين وروسيا، بدأ العالم يدخل "ما بعد" المرحلة الأمريكية.

اقرأ أيضاً: ارتباك الإدارتين الأمريكية والإسرائيلية وانعكاساته على المنطقة
ثالثاً: ساهمت هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، وظهور الإرهاب الإسلاموي، في الحدّ من هذه الهيمنة، طبعاً هذا اعتراف خطير من قبل زكريا؛ حيث إنّه أعاد موضعة القوة والمصادر في واشنطن، خاصة في مجال الحرب على الإرهاب وزيادة موازنة الدفاع لغزو أفغانستان، ثم احتلال العراق الذي كان نقطة تحول في تاريخ سلوك وأخلاقيات السياسة الخارجية الأمريكية، التي تمّت إدانتها ومعارضتها من معظم دول العالم، حتى من حلفاء أمريكا نفسها.
فمع انسحاب القوات الأمريكية من العراق، بتاريخ 18 كانون الأول (ديسمبر) 2011، وتسليم كافة المسؤوليات إلى السلطات العراقية، بعد قرابة تسعة أعوام من الاحتلال التي خسرت خلالها أمريكا 4474 قتيلاً، و33 ألف جريح، بحسب الأرقام الرسمية، وأنفقت حوالي تريليون دولار، وبقي السؤال معلقاً: هل حققت عملية الاحتلال أيّة أهداف، أم كانت عملية خاسرة؟

التحديات الجديدة والتوسع الإمبريالي، وفق فريد زكريا، يقفان وراء تفتت الهيمنة الأمريكية

إذا أخذنا برأي الخبير العسكري الأمريكي المعروف بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن؛ أنتوني كوردسمان، فإنّ الانتصارات التكتيكية التي قادتها القوات الأمريكية لم تتمخض إلا عن تقليص عدد الحوادث الأمنية، وبالتالي تخفيض مستوى الصراع الذي نتج من الإخفاقات الأمريكية في أعوام الغزو الأولى، إلا أنّ "الولايات المتحدة خسرت تلك الحرب إستراتيجياً".
من جهته، أكّد أستاذ العلاقات الدولية والتاريخ بجامعة بوسطن؛ أندرو باكيفتش، أنّ التراث الكارثي للحرب الأمريكية في العراق يتخطى الخسائر المالية والخسائر في الأرواح؛ حيث إنّه أظهر للعالم افتقار القيادة السياسية الأمريكية القدرة على ضبط النفس ونزوعها إلى استخدام القوة كأداة في السياسة الدولية.

اقرأ أيضاً: معركة كسر العظم بين أمريكا والصين ميدانها التكنولوجيا ولاعباها هواوي وغوغل
إذاً؛ ما هي العوامل التي أدت إلى تفتيت الهيمنة الأمريكية؛ هل هو بروز التحديات الجديدة، وهي كثيرة جداً، أم التوسع الإمبريالي المكلف إستراتيجياً، كما في احتلال العراق وغزو أفغانستان؟
وهنا يدّعي زكريا؛ أنّه، وكما في أيّة ظاهرة تاريخية كبيرة ومعقدة؛ فإنّ "السببين معاً: التحديات الجديدة والتوسع الإمبريالي، يقفان وراء تفتت الهيمنة الأمريكية، وإنّ أمريكا، بقيادة ترامب وسياسته الأحادية والشعبوية والحمائية والانسحاب من المعاهدات الدولية، تجازف حالياً بفقدان دورها كقائد للعالم الحرّ".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية