الجغرافيا السياسية للمخدرات في فرنسا

الجغرافيا السياسية للمخدرات في فرنسا

الجغرافيا السياسية للمخدرات في فرنسا


كاتب ومترجم جزائري
17/08/2023

ترجمة: مدني قصري

"دولة المخدرات": يستخدم هذا المصطلح الآن على نطاق واسع لوصف إقليم حيث تشكل الأموال الهائلة المتأتية من تهريب المخدرات الاقتصادَ الإجرامي. تُستخدم هذه الصيغة أحياناً للإشارة إلى دول أوروبية معينة ، بما في ذلك فرنسا وبلجيكا وهولندا.

من المسلّم به أنه في ضوء مليارات اليورو التي تجنيها الشركات، فإنّ هذه البلدان الثلاثة بعيدة كل البعد عن كونها دول مخدرات حيث يتم تخصيص جهاز الإنتاج بأكمله للنشاط الإجرامي. تبقى الحقيقة أنّ الجريمة المنظمة تزدهر في أوروبا وفرنسا.

تظل المخدرات العامل الأوّل في تراكم ثروة الجريمة المنظمة. السؤال: ما الأسباب التي تجعل فرنسا دولة تقع في قلب غالبية حركة المرور في القارة الأوروبية؟

فرنسا: زيادة مستمرة في الحركة والاستهلاك

لإعداد حالة أوضاع الاتجار بالمخدرات يعتمد الباحثون على ثلاثة مؤشرات: الضبطيات، ومناطق الإنتاج، وتحقيقات الاستهلاك. يمكن أن تتقاطع هذه المعلومات مع تصريحات المتاجرين بالبشر الذين يدلون بشهاداتهم في المحكمة أو في الكُتب.

على الصعيد العالمي يُعتبَر القنّب إلى حد بعيد أكثر المخدرات استهلاكاً، لكنّ تعاطي الكوكايين يتزايد بشكل كبير، مع انفجار حجم المضبوطات في جميع أنحاء العالم منذ عام 2014. سوق الهيروين مستقر نسبياً، كما هو حال المخدرات الاصطناعية. أمّا الحديث الجديد المثير فهو نموّ المواد الأفيونية الاصطناعية.

🎞

يتطابق الوضع في فرنسا، ولا سيما من حيث زيادة المضبوطات مع الجغرافيا السياسية العالمية للمخدرات.

على مدى السنوات العشرين الماضية أصبح عرض الكوكايين "مُدَمَقْرًطاً " حيث ازداد بشكل حاد في الأحياء الحضرية على غرار أحياء الأقاليم الريفية. هناك زيادة في استهلاك الكوكايين نسبياً بقدر المخدرات الأخرى.

الأسعار المتوسطة لجميع المخدرات مستقرّة نسبياً، لكنّ نقاء المنتجات في ارتفاع بشكل متزايد. يحتوي القنب المستهلك اليوم في فرنسا على 4 إلى 5 مرات من رباعي هيدروكانابينول أكثر مما تم استهلاكه قبل 20 عاماً. ارتفع عدد الأشخاص الموقوفين بتهمة تهريب المخدرات في فرنسا بشكل حاد خلال العشرين عاماً الماضية (تضاعف من 2005 إلى 2009). تم اعتقال 44 ألف شخص في عام 2020.

أنشأ المهربون الفرنسيون المقيمون في منطقة البحر الكاريبي "طريقاً سريعاً للكوكايين بواسطة مركب شراعي" كما يتضح من مضبوطات الكوكايين على مدى السنوات العشر الماضية

قد يحقق قطاع المخدرات في فرنسا أرباحاً تبلغ حوالي 3 مليارات يورو سنوياً، ويشمل 240 ألف شخص لتهريب القنب وحده. لا تزال إحدى الوسائل الرئيسية لتوزيع المخدرات في فرنسا هي المستهلك/ البائع. ويشمل جزءٌ من هؤلاء التجار عدداً كبيراً من الشبكات الصغيرة من التجار الباعة الذين يحصلون على إمداداتهم عبر حركة تجارة تسمَّى حركة "النمل"، ولا سيما في هولندا أو إسبانيا. ويتم توجيه بقية المخدرات المستهلكة في فرنسا من قبل الشبكات الإجرامية التي تستفيد من عولمة الاقتصاد.

قيود هيكلية

يتم إنتاجُ المخدرات في الجنوب وتُستهلك في الشمال. لا فرنسا ولا بلجيكا ولا هولندا قادرة على منع وصولها إلى أراضيها. يأتي القنب بشكل أساسي من المغرب، وهو أحد المنتجين الرئيسيين لراتنج القنب في العالم. يُعتبر هذا الإنتاج عاملاً من عوامل الاستقرار الاجتماعي في منطقة الريف، المتمرّد تقليدياً، والفقير جداً، حيث يوفر القنب لقمة العيش لمئات الآلاف من السكان.

إذا كان القنّب المغربي يصل بسهولة إلى فرنسا  فالسبب في ذلك إلى حد كبير كون أنّ باريس والرباط لديهما مصالح جيوسياسية مشتركة يأتي الحفاظ عليها على حساب مكافحة الاتجار. تعتمد قوى النظام على هذه المصالح الجيوسياسية التي لا تتحكم فيها. من ناحية أخرى يشارك جزء من النخبة السياسية والإدارية المغربية في تهريب المخدرات عبر مخططات الفساد. لكن، من ناحية أخرى المغرب حليف مهم لفرنسا في الحرب ضد الجهادية في شمال أفريقيا وفي محاربة الهجرة غير الشرعية. لهذا السبب، على الرغم من الإجراءات القمعية في كلا البلدين (القضاء على نبات القنب في المغرب والمضبوطات في فرنسا) يظل الاتجارُ بالقنب مستمراً.

لزراعة القنب نشاط واسع الانتشار في شمال المغرب

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ المغرب، خلال السنوات الخمس الماضية، أصبح مركزاً للكوكايين، على الرغم من أنه ليس منتجاً.

يصل الكوكايين إلى فرنسا بوسائل مختلفة. لا يزال الممرّ البحري للتجارة العالمية مهيمناً. تنتقل المخدرات في حاويات، بتواطؤ شركات النقل أو من دون علمها، باستخدام تقنية rip off. لقد زادت مضبوطات الكوكايين في ميناء الهافر (فرنسيا) من 2.8 طن في عام 2019 إلى 3.8 طن في عام 2020 ثم 11 طناً في عام 2021. ويمكن أيضاً إلقاء حُزم من الكوكايين في البحر، وتتم استعادتها بواسطة المهربين، باستخدام تقنية أنشأتها عشائر غاليسية إسبانية في الثمانينيات.

اليوم يتم 15 إلى 20 ٪ من السوق الفرنسية للكوكايين تعذيها غويانا و 55 ٪ من كميات الكوكايين التي يتم حجزها على الحدود الفرنسية تأتي من جزر الهند الغربية وغويانا مجتمعتين. في عام 2021  زاد عدد المهربين الذين تم اعتقالهم في غويانا بنسبة 75٪ مقارنة بعام 2017: تم القبض على 608 مهرباً في عام 2017، وضبط 921 كيلوغراما من الكوكايين، مقارنة بـ 1065 مهرباً و 2 طناً في عام 2021.

اكتسب لصوص مدن المخدرات بُعداً عابراً للحدود الوطنية من خلال الحصول على إمداداتهم مباشرة من كولومبيا والمغرب، حيث يمتلكون أحياناً حقولاً لإنتاج القنّب

بالإضافة إلى ذلك يمرّ التهريب إلى فرنسا عبر مناطق التخزين التي أقامها المهربون في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى (تم ضبط 500 كيلوغرام في عام 1997 ، و5 أطنان في عام 2007)، ثم في منطقة البحر الكاريبي. أنشأ المهربون الفرنسيون المقيمون في منطقة البحر الكاريبي "طريقاً سريعاً للكوكايين بواسطة مركب شراعي" كما يتضح من مضبوطات الكوكايين على مدى السنوات العشر الماضية.

يتم فتح طرق جديدة عن طريق إرسال الكوكايين عن طريق السفن إلى روسيا وأوكرانيا. ثم يعود هذا الكوكايين إلى السوق الغربية عن طريق الشاحنات، كما يتضح ذلك من مضبوطات الكوكايين التي شملت منظمات صربية وأخرى من الجبل الأسود. ومع ذلك يبدو أنّ الحرب الحالية أوقفت هذا المسار إلى حين.

وتمثل فرنسا أيضا محطة رئيسية لطريق الحرير ... طريق الهيروين. يتم صُنع الهيروين بشكل أساسي في أفغانستان، ويَعبُر كلَّ أوروبا للوصول إلى فرنسا عبر ميلانو ثم سويسرا.

أخيراً فيما يتعلق بالمخدرات الاصطناعية فإنّ الاتجار غير موثق بشكل كامل ولكنه موضوع ما يسمَّى بحركة "الاتجار بالنمل"، ولا سيما من هولندا (ومقاطعة ليمبورغ البلجيكية) التي أصبحت أكبر منتج لمادة الإكستاسي ecstasy في العالم.

قوة المنظمات الإجرامية الفرنسية

لقد تأكد ظهورُ منظمات الإتجار بالمخدرات في أحياء شعبية. فهذه المنظمات التي تستثمر في بيع جميع المخدرات سواء بالجملة أو التجزئة، تدير 4000 نقطة صفقات رئيسية في فرنسا في المدن الكبرى وفي البلدات المتوسطة.

في السنوات الأخيرة  شهدنا سيطرةَ هذه المنظمات المتزايدة على سوق الكوكايين، وتنويع المنتجات المشتقة من القنّب التي يعاد بيعها (الأصناف المختلطة، والزيوت، وأنواع الراتنج والمركزات) والاستخدام بشكل متزايد لخدمة التسليم إلى المنازل عبر "مراكز الشراء" باستخدام التقنيات الخاصة بالتسويق المباشر (التعبئة والتغليف، العروض الترويجية، وبطاقات الولاء، وما إلى ذلك) عبر الشبكات الاجتماعية.

مناطق عبور الكوكايين في منطقة البحر الكاريبي وأفريقيا

لحماية نظامها لم تعد عصابات التهريب الفرنسية تتردد في استخدام أسلحة الحرب عند تصفية الحسابات. أصبحت عمليات الاختطاف والحجز المرتبطة بالاتجار بالمخدرات ممارسة شائعة في فرنسا: 129 حالة في عام 2020، و 128 في عام 2022، أي بمعدل مرّة واحدة كل ثلاثة أيام، والأرقام الحقيقية أعلى بلا شك.

إنّ العنف المنهجي الذي سبق ذكره تصاحبه أحياناً قوّة حقيقية من الفساد. في كانتليو، في ضواحي روان (فرنسا) اكتسبت إحدى العصابات قوّة تنمّر هائلة لحدّ أنها مارست الضغط على البلدية حتى تغض الطرف عن أنشطتها. كما تتسلسل قضايا الفساد بين قوات الأمن. حول فساد الموظفين السياسيين لا زلنا نفتقر إلى البيانات القضائية، ولكنّ المصادر موجودة.

مواقع المخدرات للعصابات الفرنسية الجديدة

أصبحت الشبكات التي تسمَّى بـ "الحواضر" (مدن المخدرات) منظمَّة تنظيماً متقناً للغاية وفعّالة من حيث الخدمات اللوجستية. لم تعد هذه الشبكات الأيدي الصغيرة التي كان رجال العصابات الفرنسيين القدامى يعتمدون على إمداداتها. ففي تسعينيات القرن الماضي/ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كان على رؤساء هذه الشبكات "المدينة" السفر إلى إسبانيا للتفاوض مع سمسار مخدرات قديم من أجل الحصول على القنب. لكن منذ عشرين عاماً اكتسب لصوص مخدرات "الحواضر" بُعداً عابراً للحدود الوطنية من خلال الحصول على إمداداتهم مباشرة من كولومبيا والمغرب، حيث يمتلكون أحياناً حقولاً لإنتاج القنب.

يتواجد أباطرة المخدرات الفرنسيون في سانت دومينغو أو دبي أو المغرب، ويديرون حركة مرورهم عن بُعد. واليوم تستطيع الكارتلات الكولومبية أن ترسل كيميائيين إلى فرنسا لإعادة تشكيل الكوكايين كيميائياً في مختبر مؤقت.

أخيراً يُبرم أباطرةُ المخدرات الفرنسيين تحالفات مع مافيات دولية، كما في حالة "المؤسسات المشتركة"« joint-ventures »  بين عصابات العقارات ومافيا كالابريا (إيطاليا) أو مع عصابات المخدرات الدولية.

ظاهرة التحالف هذه يشجّعها ويسهّلها وجودُ فرنسا من حيث أنها هي أيًضاً أرض الانكفاء وغسيل الأموال، وفي بعض الأحيان تهريب المخدرات لفائدة المنظمات الأجنبية. على سبيل المثال تلعب المافيا الناطقة بالألبانية دوراً مهماً في تهريب الهيروين، لا سيما في منطقة رون ألب (فرنسا) حيث تستحوذ على 90٪ من تجارة الهيروين.

تكشف البيانات التي تم تحليلها هنا عدم الكفاءة النسبية للنظام القمعي في فرنسا. بالإضافة إلى النقاش الدائر حول تقنين المخدرات فإنّ إحدى السبل التي يمكن اللجوء إليها هي مصادرة الأصول الإجرامية الناتجة عن الاتجار.

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

https://theconversation.com/la-france-au-coeur-des-trafics-de-drogue-un-regard-geopolitique-210146




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية