الذكاء الاصطناعي "الوعد والوعيد" روبوت يلهو بقنبلة نووية...

الذكاء الاصطناعي "الوعد والوعيد" روبوت يلهو بقنبلة نووية...

الذكاء الاصطناعي "الوعد والوعيد" روبوت يلهو بقنبلة نووية...


30/07/2023

محمد حسين أبو الحسن

في روايته "كل رجال الملك"، قال روبرت وارين: "نهاية الإنسان هي المعرفة، لكن شيئاً واحداً لا يمكنه أن يعلمه: إنّه لا يستطيع أن يدرك ما إذا كانت المعرفة ستنقذه أم أنّها ستقتله. سيُقتل، نعم، لكنه لا يستطيع أن يعلم ما إذا كان قد قُتل بسبب المعرفة التي اكتسبها، أم بسبب المعرفة التي لم يكتسبها، والتي كانت لتنقذه لو أنّه عرفها"!... هذه المقولة ربما تصبح "نبوءة"، في ظلّ الحيرة التي تنتاب العالم حول ما يحمله الذكاء الاصطناعي للبشرية من خير أو شرّ، فرص أو مخاطر، فما الحقيقة وأين المفر؟!.

التكنولوجيا والمستقبل

عقد مجلس الأمن الدولي في نيويورك، للمرّة الأولى، جلسة بعنوان "الذكاء الاصطناعي: الفرص والمخاطر في سياق الأمن والسلم"، للنقاش في تلك المسألة البالغة الأهمية، وهي تتطلّب أن يواجه المتخصّصون العالم بالحقيقة حول طبيعة هذه الثورة التكنولوجية، وأن يبينوا الحدود الفاصلة بين تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي قد تشكّل خطراً علي سلامة المجتمعات وقيمها، أو التطبيقات المفيدة في دفع التنمية والتقدّم، فقد تصاعدت التحذيرات حول أخطار الذكاء الاصطناعي؛ وكأنّ كارثة رهيبة توشك أن تحلّ بالعالم.

لا يكف انطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة، عن التحذير من آثاره المدمّرة على مستقبل الإنسانية، وقال إنّ استخدام الأسلحة النووية قد يصير يوماً تحت سيطرة الذكاء الاصطناعي؛ لا قادة الدول، في الوقت نفسه يرى آخرون أنّ تطبيقاته هي الحل السحري للمشكلات الحياتية والتنموية، يتيح فرصاً لم تعرفها البشرية في تاريخها؛ فإلى أي فريق تميل الكفة؟!

الإجابة ليست سهلة؛ إذ تعيش البشرية بداية عصر إبداع تكنولوجي، بأوسع مما يمكن للعقل أن يتصوره؛ يذيب الحواجز بين طبيعة الإنسان والكائنات غير الحيّة، ويبشّر بعالم جديد يقوده الروبوت أو الإنسان الآلي مع تفوّق الذكاء الاصطناعي على ذكاء البشر؛ لتصبح إحدى أكبر مشكلات الإنسان المعاصر هي كيفية التعامل مع دراما التغيّر التكنولوجي التي تتخطّى كل توقّع. إنّ التغيّر ظاهرة ملازمة لتاريخ الجنس البشري؛ نجح الإنسان في تطوير (تطوره) نفسه؛ صار يورّث منجزاته الحضارية ويستغني بها عن تعديل مادته الوراثية، يبتكر الملابس والمنازل؛ ليستغني بها عن شعر كثيف يحمي جسده من تقلّبات الطقس، بدلاً من تحوير مادته الوراثية الذي يحتاج إلى زمن طويل، بالمنطق نفسه اخترع الآلات واستخدمها... وخلال العقود الأخيرة، شغلت فكرة "الذكاء الاصطناعي" أذهان كتّاب ومفكّرين؛ ظهرت روايات خيال علمي وأفلام سينمائية ودراسات تطرح تساؤلات عمّا إذا كانت التقنيات الفائقة الذكاء (سوف ترث الأرض) وتحلّ محلّ الإنسان؛ اليوم أصبحت تطبيقاته جزءاً من حياتنا اليومية، وتنخرط "القوى الكبرى" في سباق محموم حول تكنولوجيات المستقبل؛ مَنْ يحتكر الذكاءَ الاصطناعي اليوم يحتكر السلطة والثروة في العالَم غداً، أما القابعون في مقاعد المتفرّجين فقد لا يعيشون هذا المستقبل.

الثورة الرقمية

 مبدئياً، يمكن تعريف "الذكاء الاصطناعي" بأنّه قدرة الآلات والحواسيب الرقميّة على القيام بِمَهام مُعينة، تُحاكي تلك التي تقوم بها الكائنات الذكيّة؛ كالقُدرة على التفكير أو التَعَلُّم من التجارب السابقة وغيرها من العمليات الأُخرى التي تتطلّب مُمارسات ذهنية.

وقد أخذ الذكاءُ الاصطناعي يغيّر كل شيء، يقلب الحياة الإنسانية رأساً على عقب؛ عبر الإنترنت والحواسيب والهواتف الذكية وغيرها من الأجهزة والتطبيقات التي أخذت تحتل شيئاً فشيئاً كل الأنشطة، وتغيّر عاداتنا، تحوّلات عميقة في المجال التجاري والخدمي والتعليم والثقافة والإعلام، إنّ تلك التغيّرات تشمل أيضاً مجالات أخرى، كتلك التي لها علاقة بالدولة والإدارة والاقتصاد والمجال الجيوسياسي والحضري.

يرى البروفيسور ريمي ريفيل في كتابه "الثورة الرقمية"، أنّ الإنسانية تمرّ بثورة صناعية ثالثة ورابعة، تتمظهر في تطوّر تكنولوجيا الإعلام والتواصل، بعد ثورة صناعية أولى "ارتكزت إلى تطور الآلة البخارية والسكة الحديد، ثم ثورة ثانية اعتمدت على استغلال الكهرباء والبترول، وحالياً تدخل المجتمعات في مرحلة ثالثة بفضل الإلكترونيات والإعلام والإنترنت". ثورات متغايرة، لكنها تشترك بسمات عدة؛ "ففي كل مرّة نلاحظ ظهور شبكات موسّعة: سكة الحديد، الكهرباء، الإنترنت، مع ظهور شخصيات مبتكرة: جيمس وات وآلته البخارية، توماس أديسون وإمبراطوريته الصناعية، بيل غيتس مع مايكروسوفت، فتلك التطورات التكنولوجية التي خلخلت في الوقت نفسه طرق الإنتاج والاستهلاك، تقترن كذلك بظهور تصور يبدو أنّه يعزز ميلاد إنسانية جديدة".

إلى وقت قريب، نُظر بإعجاب إلى تسخير التكنولوجيا لتحقيق مصالح الناس، لكنه بات إعجاباً ممزوجاً بالارتياب؛ من تعاظم سطوة "الذكاء الاصطناعي" وانحسار دور الإنسان الذي يصبح بالتدريج تابعاً لا متبوعاً. يمتدح المتفائلون "الحالة الرقمية"، وولوج الدفق اللامحدود للأخبار والمعلومات والعلاقات على الشبكة العنكبوتية، عن طريق "كبسة زر" أو "ضربة كيبورد"، أما المتشائمون فإنّهم يطالبون بمقاومة "الانسياق التكنولوجي ومنطقه الفرداني، من أجل الخروج من التنويم الرقمي الذي سننغمس فيه، مع الابتعاد عن العبودية الطوعية والأجهزة التجارية".

 الوضع البشري 

 تؤثر تكنولوجيا المعلومات والإعلام في معارفنا وأنشطتنا وهوياتنا وعلاقاتنا، تتنوّع صورها وأنماط تأثيراتها في حياة البشر، على نحو لا يُصدّق، المعلومات والثقافة والتكنولوجيا دوائر متداخلة، باب للأمل والخطر، الوعد والوعيد في آن معاً؛ ذهب راي كورزويل، وهو مفكّر أميركي مهتم بالدراسات المستقبلية، إلى أنّ التطور التكنولوجي سيضاعف معدّلات تسارعه؛ وسوف يفوق بنهاية القرن الحالي بمراحل ذكاء الإنسان؛ النتيجة أنّه خلال عقود قليلة سوف تستوعب "تكنولوجيا المعلومات" كل المعارف والقدرات البشرية، وتتمتع بالذكاء العاطفي والأخلاقي الذي هو أحد أهم خصائص الجنس البشري، تقدّم تكنولوجي لا نهائي، ربما يفضي إلى (تمزيق نسيج التاريخ البشري) تماماً. لمست الفيلسوفة حنه آرندت تلك المفارقة، في كتابها "الوضع البشري"، قائلة: إنّه "في حين يزداد شعور الإنسان بالقوة لاعتماده على الكشوف التكنولوجية والبحث العلمي، تتضاءل قدراته على التحكّم بنتائج أفعاله؛ ما يعني تقلّص دوره في حياة المجتمع، كما تتضاءل حرّيته السياسية، وهذه مأساة الإنسان في المجتمع التكنولوجي المعاصر".

الخطير أنّه في الوقت الذي يهتم فيه العلم بالتقدّم المادي، يحدث إغفال لقيم إنسانية، فلا شيء مؤكّداً عمّا ستكون عليه هذه القيم في عالم الغد؛ نتيجة التقدّم الهائل في مجال الآلات الذكية التي تتجاوز قدرات الإنسان؛ يؤدي إمكان تفوق الذكاء "الاصطناعي" على "البشري"، إلى اضطرابات في أساليب العلاقات وطبيعتها بين البشر أنفسهم، وبينهم وبين عناصر الكون من ناحية أخرى. تثبت التطورات العاتية في قوة الحوسبة وتخزين البيانات والإنترنت أننا أمام لحظات تحوُّل مفصلية تصعد فيها تقنياتٌ: الروبوتات والذكاء الاصطناعي، وعلم الأحياء، وتكنولوجيا النانو، والطباعة الثلاثية الأبعاد، مسبِّبةً تغييرات مفاجئة وعميقة. تقول فايفاي لي، رئيسة مختبر ستانفورد للذكاء الاصطناعي في كاليفورنيا: "نعيش اليوم في عالم يختلف- إلى حدّ مثير للدهشةـ عن العالم الذي عاش فيه آباؤنا، الأمر نفسه سيحدث بكثافة مع أبنائنا وأحفادنا". تغيّر منتجات العلم والتكنولوجيا كل شيء، بوتيرة أسرع من أن يلاحقها التطور الوراثي البطيء؛ نحيا في بيئة لم تكن موجودة منذ قرن مضى، فهل علينا أن نتحور لنلائمها، هل سيلزم هذا أن يتحوّر الذكاء حتى يمكنه أن يتعامل، لا مع الطبيعة كما خلقها الله، وإنما مع ما صنعه الإنسان؟. تساءل فرانسيس فوكوياما، في مؤلفه الذائع "نهاية الإنسان وعواقب الثورة البيوتكنولوجية": هل من الممكن أن نسرّع التطور الوراثي؟ يُخشى أنّ الهندسة الوراثية قد تستطيع، تختصر الزمن، زمن التطور، زمن التحور الوراثي، فيظهر معنا إنسان "فائق" كان المفروض أن يظهر بعد مئات أو آلاف السنين من التحور الطبيعي البطيء، إنسان آخر نحيا معه مثلما كان إنسان نيانديرتال الفنان يحيا مع البشر، نحيا معه بضعة أجيال ثم ننتهي- ينتهي الإنسان كما نعرفه- مثلما يبدو أمام البشر؟.

فهل ينجح الإنسان في مواجهة تحدّيات بيئته الجديدة أم يخفق؟!.

ذاك حديث آخر...

عن "النهار" العربي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية