"الشهيد" في نشيده العالي: قراءة تحليلية في لوحة

"الشهيد" في نشيده العالي: قراءة تحليلية في لوحة

"الشهيد" في نشيده العالي: قراءة تحليلية في لوحة


20/06/2023

الفرادة التي تحوزها لوحة "نشيد الشهيد" للفنان محمد نصر الله (1963- عمّان)، لا تتأتى من موضوعها بما ينطوي عليه من قداسة وتبجيل، وهو الموضوع الذي احتلّ مكانة ً خاصةً وأثيرة في الفنون التشكيليّة، رسماً ونحتاً وصروحاً تذكاريّة، وإنما تتأتى من إمكاناتها المفتوحة على بثّ الدلالات التعبيريّة الراشحة من توليفات النسيج البصري بين الإيقاع والتكوين.

النشيدٌ العالي

اللوحة بدايةً، ليست موشومة بأيٍ رمزٍ من شأنه أن يبيّن لنا هويّة الشهيد، أو يشي بقضيته. لكنّ الدلالات التعبيريّة التي تشعّ بها اللوحة وتشيعها عِبر نسيجها البصري، بإيماءاتها وإشاراتها وتلميحاتها، تضعنا مواجهةً أمام تلك الصورة التي يصير معها الشهيد نفسه، رمزاً دالاً على تمثيلات هويّته وقضيّته. شهيدٌ يتلفّع بنور وجه القمر وينغمس في إشراقاته. قمرٌ يتمثّل وجه الشهيد ويتقمّص استدارته. وجهان مكشوفان متعالقان بالرفعة والوهج، ويكادان يقْمران الأرض والسماء وما بينهما.

وفي الجانب المحايث للشهيد، يطالعنا المشيعون المغايرون لمألوف التشييع؛ مشيّعون مقنّعون  تحت ضوء القمر. مشيّعون يمشّطون الأرض، ويكنّسون بوجهتهم غمرة الظلام، فيما أطرافهم تلتحم بالأرض وتذوب في طينها. وفي الجانب المتعالي من المشهد نفسه، تواصل المسافة انحسارها بين القمر والشهيد في اتجاهين مشدودين بجاذبية الإشراق والنور؛ علو الشهيد من على أكتاف المشيعين باتجاه نورانيّة القمر المتكوّر في كبد السماء، وهبوط القمر مسحوباً بانعكاس إشراقته على جثمان الشهيد، وتطوافه فوق الجسد المسجىّ بامتدادٍ يوازي امتداد خط الأفق بين الأرض والسماء.

شهيدٌ ومشيعون وقمرٌ. كلٌ له موقعه ودوره في المشهد. وحين يتبادلون الأدوار بين الأرض والسماء، يستحيلون إلى رموز قارةٍ ودالةٍ على الهويّة التي إليها ينتمون. إنها هويّة الشهيد في نشيده العالي.

المدخل ونسق الإنشاء

إلى جانب موضوعها، لا تقدم لوحة "نشيد الشهيد" نفسها، إلا بوصفها نصّاً بصريّاً متعيّناً، ودالاّ بذاته على ذاته. تعيّن نتعرّف إليه، إبتداء، من تلك "الوحدات الغرافيكيّة" التي تتحرك وتنتظم بكيفيّات متنوّعة على سطح التصوير والتعبير. وليست الكيفيّة التي تنتظم بها تلك الوحدات (بما هي أجزاء مترابطة  ومتمايزة من العناصر الأوليّة؛ الخط واللون والكتلة والفراغ) سوى الأسلوب الذي يحيلنا على فاعلية اللوحة باعتبارها، فاعليّة بصريّة تحدث في المكان.

الفنان محمد نصرالله رسم لوحة "نشيد الشهيد" كنصّ بصريّ متعيّن

تعتمد درجة الاقتراب من فاعليّة اللوحة، على طريقة القراءة التي تستهدفها بوصفها نصّاً دالاً بمواده وعلاقاته الناظمة لعناصرها. وهو ما يستدعي معاينة نسق "الإنشاء" الذي تكتسب معه اللوحة صيرورتها البصريّة والتعبيريّة.

ولأغراض الوصف والمعاينة والتحليل، يمكن تعيين خمسة عناصر رئيسيّة للوحة تشكّل أعمدة الإنشاء والتكوين. وهي عناصر "غرافيكيّة" تترابط فيما بينها بعلاقات تشيّد نظام اللوحة وبنيانها، وهي: (السماء، والقمر، والشهيد، والمشيعون والأرض). وقياساّ عليه، يمكن مقاربة عناصر هذه المجموعة، بعناصر البنية الرياضية Mathematical structure ، حيث تقود العلاقات بين عنصرين أو أكثر من عناصر المجموعة الرياضية، إلى معرفة خصائص تلك العناصر وتتبع آلية عملها ضمن إطار البنية التي تنتمي إليها.

شهيدٌ يتلفّع بنور وجه القمر وينغمس في إشراقاته. قمرٌ يتمثّل وجه الشهيد ويتقمّص استدارته. وجهان مكشوفان متعالقان بالرفعة والوهج

معاينة السياقات البصريّة التي تنتظم بها تلك العناصر، تتيح التعرّف على روابط العلاقات التي تشكل النّسق التعبيري والدّلالي في اللوحة. وذلك اعتماداً على خصائص العلاقات نفسها، وما تبثّه من دلالاتٍ بصريّةٍ وتعبيريّةٍ، من شأنها أن تفتح المجال أمام قراءة اللوحة قراءاتٍ احتماليٍّة متنوعةٍ بتنوع أدوات المعاينة ومنطلقاتها.

يضاف إلى عناصر هذه المجموعة (السماء، والقمر، والشهيد، والمشيعون والأرض)، عنصران آخران يتقاطعان ويتحدان معها، وهما عنصرا(الكتلة والفراغ)؛ الكتلة بوصفها الحيز الذي تتجسّد فيه معالم كل عنصر من العناصر الرئيسية، والفراغ  بوصفه الحيز الذي يحتضن الكتلة ويحدّد معالمها وإطار حركتها، وهو الذي يمنح  الكتلة حضورها وفاعليّتها ضمن مجال علاقاتها مع عناصر اللوحة. 

وعليه، فإن الكتلة في عنصر "المشيّعين" تنبثق من الكتلة في عنصر "الأرض" وتتبعها. والكتلة في عنصر "الشهيد" تتبع الكتلة في عنصر "المشيّعين" وتتحرك معها. والكتلة في عنصر "القمر" تنبثق من الكتلة في عنصر "الليل" وتقيم فيها، وهكذا، ضمن سلسلة تعاقباتٍ تترابط وتتوالد من بعضها بعضا. إنه الترابط الذي تنفتح بفعله تلك العناصر على سلسلة العمليات التي تمنح "الكتلة" صيرورتها في "الفراغ" الذي يحتضنها على سطح التصوير.

سِعة الإشراق والقتامة

وبالاقتراب من طبيعة العمليات وسلسلة الحدوثات التي تنشأ بين مجموعة عناصر اللوحة، فإننا نتعرّف في المستوى "الأفقي" على عدد من الثنائيات المتقابلة والدّالة التي يحيل بعضها على بعض، وهي: الشهيد وقمره، بدلالة (سعة الإشراق/ الانفتاح)، المشيّعون وليلهم، بدلالة ( سعة القتامة/ الانغلاق)، التحليق في السماء، بدلالة (اتصال الشهيد بالقمر)، التجذّر في الأرض، بدلالة (التحام المشيعين مع الأرض).

        أما المستوى "العامودي" لتلك الثنائيات، فنتعرف إليه من خلال الإيحاءات المصاحبة لتلك العناصر، من حركة وصوت وسكون، وهي: السكون الذي نتعرّف إليه بوصفه غياباً للحركة، بإيحاء من جسد الشهيد. والصوت بإيحاء من الصدى الجنائزي. والحركة، بإيحاء من الترداد الإيقاعي للمشيّعين.

لا تستدعي تلك الثنائيات، بتقاطعاتها واتحاداتها unions and intersections، التوقف عند إحالاتها التي تتبدّى عليها في وهلتها الأولى، بل تستدعي التوجه نحو اكتناه قوى العلاقات فيما بينها، ومعاينة ما يبطنه التعارض من تناقض، بوصفه مصدراً من مصادر فاعليّة عمل العلاقات نفسها.

مقطع من لوحة "نشيد الشهيد": حضور الليل

استبطان خصائص قوى العلاقات، يُفضي إلى الكشف عن أعمدة المواجهة في بنية اللوحة، ليس فقط عبر التعارضات الثنائية بين عناصر اللوحة، وإنما من خلال تتبع آليات عمل البناء الذي تشيّده العلاقات بين تلك العناصر. وهو تشييدٌ لا يتحقّق بمعزلٍ عن "الطاقة التعبيريّة" التي تتحكّم بوحدة إيقاع اللوحة، عِبر الانطباعات الحسيّة، والإيحاءات "الصوتيّة" والإيقاعات "الحركيّة" والتي تشيعها تلك العناصر وترسّخها على سطح اللوحة وفي فضائها التصويري.

"الصوت" في اللوحة، ليس سوى إيحاءات مكتومة، مبطّنة وعميقة، إيحاءات متحدّرة من الإيقاع الحركي للمشيّعين، والتي تتحوّل إلى (همهمات) جنائزيّة، تماماً كما في أي مشهد جنائزي يُراقب عن بعد. فـ "الصوت" ينتج من تردّد الحركة وتتابعها من دون أن يتطابق معها بالضرورة. فهو يعمل على تنظيم صياغة الحركة وإعادة توزيعها، وبالتالي تأكيد حضورها في مجالها الحركي. بينما "الصوت" هنا، كامنٌ، ومتحفّزٌ ومختزلٌ في الحركة التي تمور بالإيحاءات المبطّنة والمتجهة الى السمع مباشرة.

موكب "خط الأفق"

مع التعيّنات الرئيسيّة التي تشكل آليات نسق اللوحة، يطالعنا مباشرة، الشهيد والقمر، باعتبارهما عنصرين رئيسيين من عناصر اللوحة الخمسة. إذ تنتظم مجمل عناصر اللوحة وتتحرّك في مدار اللون (الإشراقي/ الناري) بين الشهيد والقمر الذي يتموضع في المنتصف العلوي من اللوحة، بينما يتوسط الشهيد منتصف اللوحة تماماً، فاصلاً الأرض التي يتجذّر فيها المشيّعون، عن السماء التي يسبح فيها القمر فوق موكب "خط الأفق" للشهيد.

بالانتقال من مركزيّة اللوحة التي يتوسطها الشهيد والقمر،  نتوجّه إلى أطراف العلاقة المركبة بين "المشيّعين والليل والأرض"؛ علاقة من ثلاثة عناصر تتقاطع مع العنصرين السابقين "الشهيد والقمر" بوصفهما مصدر الانفتاح على المجال البصري لعناصر اللوحة كافةً. نتعرف مع "المشيّعين وليلهم وأرضهم" على الرابط "اللوني" الذي يلظم العلاقة بين العناصر الثلاثة، ومن ثم رابط "التشكّل" للمشيعين وتضاريس الأرض وسعة القتامة على امتداد سواد الليل.

الأرض بالنسبة للمشيّعين، ليست سوى نقطة الارتكاز التي يرفعون من عليها الشهيد الذي قضى لأجلها. وهي المكان الذي يحتضن حيواتهم قبل الفعل وبعده

يقوم الرابط اللوني الأحادي (المونوكرومي) الذي هو مزيج بين اللونين البني والرمادي، بتحريك العناصر الثلاثة "المشيّعون والأرض والليل" باتجاه تفكيك مكوناتها واختزال ملامحها "التشبيهيّة" ومن ثم توزيعها أفقياً وعامودياً، لتصبح الحاضن والمستقر للشهيد وقمره المنير. فنحن لا نرى تفاصيل الملامح التمثيليّة للمشيّعين، بل نرى إيحاءات تُبطن التفاصيل وتحجبها عِبر حركة اللون التي تغذّيها الانطباعات التعبيريّة وتمثّلاتها التخييلية.

تماهٍ وانعتاق

الأرض بالنسبة للمشيّعين، ليست سوى نقطة الارتكاز التي يرفعون من عليها الشهيد الذي قضى لأجلها. وهي المكان الذي يحتضن حيواتهم قبل فعل التشييع وبعده. إنها الفضاء الحقيقي لفعل الحياة وصيروتها. تجذّر المشيعين بالأرض، وذوبان أطرافهم فيها، يُحيل إلى شكلٍ من أشكال التماهي "الصوفي" مع تضاريسها ومنعرجاتها. أنّه تماهي الأجساد الحية الملغومة والمنذورة للانعتاق. فالمشيّعون يمثلون حلقة الوصل بين الشهيد والأرض على مستويين متناوبين: المستوى الأول من خلال التحامهم مع الأرض، والمستوى الثاني من خلال تمثّلهم للشهيد؛ تمثلٌ يشير إلى أنّ المشيّعين أنفسهم، ليسوا سوى "مشاريع" لفعل الشهادة. وليست الأقنعة التي يتقنّع بها المشيّعون، سوى حالة من حالات الحجب التي تحول دون تشخيص قدسيّة الشهادة أو تمثيلها.

أما حضور عنصر "الليل" فيبدو للوهلة الأولى، حضوراً عابراً وثانوياً، بالأحرى، لا يغدو حضوره سوى كونه خلفية محايدة لمجمل عناصر اللوحة. إلا أنه على المستوى الفاعليّة البصريّة والتعبيريّة، لا يمكن تجاهل حضوره وسطوته التي تغطي جلّ مساحة اللوحة، باعتباره حاضناً لعناصرها، وسبباً لوجودها وفاعليتها. فالحضور الصريح لليل، هو الذي يعزّز من توهّج القمر وسطوعه على جثمان الشهيد، وهو من يخلع على المشيّعين شحنة التعبير الجنائزيّة، وهو من يضفي على الأرض لونها المتماوج بألوان سنابل القمح. فجميع عناصر اللوحة هي نسيج "الليل" وحدهُ، تعمل في حضرته، وتحت مظلته التي تظلل "الشهيد" في نشيده العالي.

مواضيع ذات صلة:

الفنان محمد نصر الله: المخيم علّم ألواني الحب والحرية

التشكيلي السوري لؤي كيالي: الرائي الذي اختطفته النيران




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية