القبيسيات.. الجذور الفكرية والمواقف السلوكية

القبيسيات.. الجذور الفكرية والمواقف السلوكية

القبيسيات.. الجذور الفكرية والمواقف السلوكية


09/05/2023

يقدم الباحث محمد خير عيسى، في ما يشبه الدراسة المعلوماتية، جماعة القبيسيات من منطلق أهميتها كونها، وفقاً للمؤلف، أول جماعة نسائية خاصة وخالصة، ويعتبرها الجماعة الدعوية النسائية الوحيدة التي شقت طريقها بعيداً عن الجماعات القائمة. ويشير الكاتب إلى أن القبيسيات لم تقتصر على الدولة السورية في انتشارها وإنما هي جماعة دعوية نسائية عابرة للحدود وصنعت لنفسها مكاناً بدءاً من بلاد الشام ودول الخليج ومصر، مروراً بتركيا، ووصولاً إلى أوروبا وأمريكا الشمالية. وينطلق الهدف الأساسي من الكتاب إلى استجلاء بعض من الغموض الذي يلف الجماعة من جانب، وإنتاج دراسة منصفة بعيدة عن الأحكام المسبقة؛ في محاولة لتقييم التجربة وتوضيح أبرز ملامحها.

 انطلاقاً من الكتابات السابقة كان هذا الكتاب

المنهجية الرئيسية التي اعتمد عليها الباحث هنا هي جمع كل ما كُتب عن القبيسيات، ويقول إنه يزيد على 900 صفحة، وقراءتها قراءة نقدية. ويرى أن جُل ما كتب هو في الواقع مناقشة لموقفهن السياسي بعد الثورة السورية أو كتابات بها تحيزات مسبقة أو كتابات مليئة بالاتهامات. ومن ثم يكتب المؤلف هنا بعيداً عن هذه المثالب، ويقول إنه اعتمد على تمحيص كل ما كُتب عنهن، ثم اعتمد على الشهادات الحية من داخل الجماعة، وذلك عبر التواصل المباشر مع أكثر من 25 من العضوات الحاليات والسابقات، منهن مَن في الصف الأول، وقام بإعداد مجموعة متنوعة من الأسئلة وطرحها عليهن، ثم قام بفحص وتحليل الإجابات بصورة نقدية.

قسَّم المؤلف الكتاب إلى 12 فصلاً؛ تنوعت بين معلومات حول التأسيس وآلية الاستقطاب وهيكل الجماعة وكذلك المرتكزات الشرعية لها، والعلاقة التي جمعت مؤسِّسة الجماعة الآنسة منيرة، وطالباتها. ثم عرج الكتاب إلى علاقة الجماعة بالنظام السوري عبر سنوات حكم الرئيس حافظ الأسد، ثم علاقتها بالرئيس بشار الأسد قبل الثورة السورية وبعدها. وقد قسَّم المؤلف حال القبيسيات بعد الثورة إلى مرحلتَين؛ الأولى تتعلق بالسنوات الأولى للثورة، والثانية ما بعدها ومساندتهن بشار. كذلك يناقش الكتاب مواقف القبيسيات من أبرز التيارات والجماعات؛ ومنها السلفية و”الإخوان المسلمين”.

 البداية.. منيرة قبيسي

منيرة قبيسي فلسطينية دمشقية، ابنة تاجر فلسطيني استقر في دمشق حيث ولدت عام 1933، اهتم بتعليم ابنته تعليماً حكومياً وتخرجت في كلية العلوم جامعة دمشق، وعملت في التدريس؛ ما أتاح لها الوصول إلى شرائح متنوعة من الفتيات. في بداياتها، انضمت إلى جماعة كفتارو المنتمية إلى النقشبندية، وسرعان ما انسحبت منها وتحولت إلى حضور مجالس الشيخ عبدالكريم الرفاعي، الذي يُنسب إليه النهضة المسجدية، وخلال هذه الفترة التحقت بكلية الشريعة في جامعة دمشق؛ حيث احتكت بعلماء من الإخوان المسلمين، ومنهم مصطفى السباعي.

يبدو التنوع في المشارب الفكرية لمنيرة جلياً؛ حيث تعرضت إلى الصوفية الطرقية على يد كفتارو، ثم الصوفية العلمية على يد الشيخ عبدالكريم، ثم الأكاديمية الحركية بدراستها في كلية الشريعة. هذا التنوع ينفي ربط القبيسيات بأي من هذه الجماعات بصورة تامة، ومن ثم هي ليست امتداداً لأي منها.

مع انقلاب حزب البعث في الستينيات بدأت في الظهور مدارس العمل الدعوي؛ حيث اقتنع العلماء أن حزب البعث يهدف إلى سلخ المجتمع عن هويته الإسلامية. رأت الآنسة منيرة أن الجماعات الموجودة تفتقر إلى وجود جماعة نسائية، ومن ثم بدأت في تشكيل جماعة نسائية متخصصة في الدعوة في الوسط النسائي من منطلق منهجها الخاص المتمايز عن الجماعات الأخرى سالفة الذكر.

وبدأت الجماعة في الانتشار ببطء، وعُرفت بالقبيسيات؛ نسبةً إلى منيرة قبيسي، غير أن المنتميات إلى الجماعة يرفضن الاسم ويصررن على أنهن بنات “الدعوة”. وتمكنت الجماعة من الانتشار في عدد من الدول العربية والعالم.

 سمات الجماعة

يفصل الكاتب عدداً من السمات الخاصة بهذه الجماعة؛ منها:

الاعتماد على استقطاب الجامعيات؛ ما طبع الجماعة بطابع العلم والثقافة، لكنه من جانب آخر جعلها جماعة نخبوية.

الاعتماد على تزوج القبيسيات من كبار الدعاة وقادة العمل الإسلامي والأثرياء والتجار، ومن أمثلة ذلك أن زوجة الدكتور محمد سعيد البوطي، أميرة العرجا، كانت من القبيسيات. ومن قادة العمل الإسلامي الكبار الذين تزوجوا من قبيسيات يوسف ندا، أحد رموز جماعة الإخوان المسلمين في مصر؛ حيث تزوج آمال الشيشكلي. مثل هذه الزيجات حققت للقبيسيات عبوراً قوياً إلى الفضاءات الإسلامية.

ليست جماعة سرية وليس لديها هيكل تنظيمي ولا لوائح داخلية أو آلية تصعيد للقيادات بصورة محددة؛ لكن هناك مراتب من الأعلى للأدنى: الآنسة الحجة وهو لقب اختصت به منيرة؛ وهي بذلك وكأنها المرجع الأكبر للجماعة. ثم الآنسات الكبيرات؛ وهن مجلس قيادة الجماعة، ولهن حجاب أسود للتعرف عليهن، وهناك الآنسات المشرفات ويرتدين الكحلي، وطالبات الحلقات الخاصة ويرتدين الحجاب الأبيض.

نظام الترفيع يعتمد على اجتياز اختبارات المناهج الشرعية والتربوية.

الاجتماع في حلقات بهدف تعزيز الولاء وغرس منطلقات الجماعة الفكرية.

تبني “القطعة”؛ وهو مصطلح استخدمته الجماعة للدلالة على توقف سير الحلقات، وقد حدث كثيراً في الثمانينيات إبان مواجهات نظام حافظ الأسد مع الإخوان المسلمين. والمخول باتخاذ القرار هو الآنسة منيرة ومجلس الآنسات الكبيرات. 

 المرتكزات الفكرية للقبيسيات

ترتكز القبيسيات في البنيان الفكري على الجمع بين المدرسة الصوفية العلمية التقليدية والمدرسة الحركية، وتهدف إلى بناء تصورات الفتيات نحو الدين والإيمان والكون والحياة وعلاقة المسلم بذلك كله، بالاستناد إلى القرآن والسُّنة وتمتين العلاقة مع الجيل الأول من الصحابة. لتحقيق ذلك أقرت الآنسة منيرة ومجلس الآنسات الكبيرات منهجاً ينفذ في عموم الحلقات يجمع بين حفظ القرآن، وتجويده، وعلوم الفقه والعقيدة والتفسير والسير، وبعض كتب الأدب. وفي الفقه كان الكتاب المعتمد “فقه العبادات” للحاجة “درية العيطة”، وكانت من آنسات الجماعة، وفي التفسير اعتمد “مختصر تفسير ابن كثير للصابوني”، وفي الحديث كان “منهج النقد في علوم الحديث” للدكتور نور الدين عتر. وفي العقيدة، تحولت الجماعة من “كبرى اليقينيات الكونية” للدكتور محمد سعيد البوطي، إلى الكتاب الذي ألفته الآنسة سعاد ميبر “عقيدة التوحيد من الكتاب والسُّنة”.

ومن الكتب الأخرى التي اعتمدت عليها الجماعة، “فقه السيرة” للبوطي، و”رجال حول الرسول” لخالد محمد خالد، و”ربانية لا رهبانية” لأبي الأعلى المودودي. وفي بعض الدول خارج سوريا كان يتم توجيه الطالبات إلى بعض كتب سيد قطب ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي.

من الدعوة في المنازل إلى المساجد 

ينفي الكاتب السرية عن الجماعة، ويقول: “الحديث عن سرية القبيسيات في ظل نظام أمني بامتياز كنظام الأسد هو من النكات المضحكة.. فالنظام الأخطبوطي أمنياً لا يمكن أن يقبل بنمو جماعة أو نشاط بعيداً عن أنظاره”. من جانب آخر، كان الدعم الذي حصلت عليه القبيسيات من قِبل العلماء والدعاة الذين لهم موضع ثقة عند النظام، له دور بالغ التأثير في السماح للجماعة بالعمل في المنزل ثم بعد ذلك الانطلاق إلى المساجد.

استمرت الدروس في المنازل حتى عام 2005، وبعد حراك قاده محمد سعيد البوطي لدى الأجهزة الأمنية، ومحمد حبش في مجلس الشعب، تحولت الدعوة إلى العلنية؛ حيث أكدا أن الجماعة عملها مستقيم ووطني وليست فيه أية شائبة، وأن لا علاقة لهن بالسياسة ومن ثم مُنحن حق التدريس في المساجد.

يقول الكاتب إن واقع الأمر هو أن الآنسة منيرة لم تكن راغبة في انتقال الدعوة إلى المساجد وأنها كانت تفضل المنزل. ومع انتقالهن إلى المسجد؛ فإنها كانت سمة القبيسيات في سوريا، بينما ظل النشاط المنزلي سمة الجماعة في بقية البلدان.

ترتَّبَ على الانتقال إلى المسجد الامتثال إلى الدعاء للرئيس بشار الأسد في نهاية كل درس، والالتزام بتعليمات وزارة الأوقاف، ومن ثم مُنعت بعض منهن نتيجة أنهن زوجات لمنتمين إلى الإخوان؛ لكنها من جانب آخر انفتحت على شرائح أكبر في المجتمع.

 القبيسيات وبشار الأسد ما قبل الثورة

في رمضان عام 2005، عام تحول القبيسيات إلى المساجد، عُرض مسلسل يتطرق إليهن، وهو “عصي الدمع”؛ يقدم القبيسيات باعتبارهن شريحة لا يمكن تجاهلها في المجتمع، لكن مع التركيز على انغلاقها وتطرفها ورفضها للآخر، ثم في العام التالي عرض مسلسل “المارقون” الذي أكد الفكرة ذاتها. وفي 2010 هاجم مسلسل “وما ملكت أيمانكم” القبيسيات بشراسة، وتعرض إلى هجوم من الإسلاميين؛ لكن القبيسيات فضلن الصمت كحالهن دوماً أمام أي هجوم يتعرضن إليه. التعامل الحكومي لم يتوقف على تشويه الجماعة عبر الأعمال الدرامية، ومن ثم محاولة حشد رأي عام ضدها؛ لكن الأمر امتد إلى إجراءات مثل منع النقاب وحملات اعتقالات طالت عدداً من القبيسيات.

القبيسيات وموقف مرتبك من الثورة وما بعدها

لم تكن القبيسيات عبر تاريخهن الطويل في موقف أشد إرباكاً، وفقاً للكاتب، من موقفهن في أولى سنوات الثورة. وحاولن تجاوز الإرباك عبر التعميم على حلقات الجماعة بضرورة عدم التدخل في السياسة والصمت. لكن يبدو أن هذا الصمت الرسمي قاد إلى ظهور ما يشبه الخروج على هذا الإجماع من قِبل بعض الآنسات؛ حيث دعمت بعضهن الثورة، ودعمت بعضهن بوضوح الأسد.

ويروي المؤلف اللقاءَ الأول للقبيسيات مع الأسد في نهاية عام 2012، والذي أدى إلى إثارة المجتمع الثوري ضدهن، ويذكر أن القبيسيات أكدن أنهن لم يكنّ على علم مطلقاً بأن اللقاء مع بشار الأسد وأن الدعوة كانت للقاء وزير الأوقاف؛ لكن القبيسيات التقين مجدداً الأسد في 2014 وكن على علم باللقاء، ويبدو أنهن بعد تعرضهن إلى الاغتيالات والاعتقالات قررن الانحياز الهادئ للأسد، ومن جانب آخر يبدو القرار مرتكناً على تعيين سلمى عياش، من آنسات القبيسيات الكبيرات، في منصب معاون وزير الأوقاف.

 علاقة القبيسيات بالجماعات الإسلامية الأخرى

تبدو علاقة القبيسيات بالجماعات الأخرى متباينة؛ فمن موقف سلبي أو تنافسي تجاه جماعة كفتارو التي لها فرع نسائي، مروراً بموقف إيجابي من جماعة زيد التي أسسها الشيخ عبدالكريم الرفاعي، إلى الصمت المطبق من الإخوان المسلمين داخل الجماعة في سوريا؛ “فمَن يجرؤ على ذكر الإخوان في ظل حكم الأسد الأب أو الابن”. وأما خارج سوريا فكان موقفهن من الإخوان إيجابياً؛ فكثيرات من القبيسيات التحق بحلقاتهن نساء من الأخوات في لبنان والأردن والسعودية والكويت. أما “السلفية” فنظرتهن إلى القبيسيات بالغة السلبية؛ باعتبار أنهن جماعة صوفية وأنهن فرقة باطنية.

عن "كيوبوست"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية