الهالات النورانية.. للقصة أسباب أخرى

الهالات النورانية

الهالات النورانية.. للقصة أسباب أخرى


13/05/2019

تمثل الهالات النورانية التي تقترن بالقديسين في الأديان والحضارات القديمة، رمزية مهمة، تعكس نوعاً من القداسة، كما أنها ترمز إلى عدة صفات، تبتعد عن الآني والمباشر إلى ما هو أبدي؛ إذ تشير الأيقونات والرسومات التي تتوجها الدوائر الذهبية، بأشكالها المثلثة أو المربعة، وخلف ألوانها وخطوطها الفنية الداخلية، إلى بعض التضحيات والمعاناة التي تكبدها هؤلاء، أمام صور الاضطهاد والتعسف ضد إيمانهم وأفكارهم وعقائدهم.
أبطال وقديسون في التاريخ
تعود الهالات النورانية إلى فترة ما قبل المسيحية، وقد حفلت بها الحضارة اليونانية، فتنوعت الإشارات التي وثقت لوجودها، لتمييز الأبطال والشهداء، كما ورد في العديد من المصادر التاريخية، ومن بينها، الإلياذة للشاعر اليوناني، هوميروس، الذي روى قصة كفاح أحد الأبطال في أثينا فقال: "أخيل العزيز على زيوس نهض، وعلى كتفيه القويين وضعت أثينا درعها المهدب، وأحاطت الإلهة العظيمة رأس البطل بسحابة ذهبية، أضرمت عليها شعلة متألقة".

بحسب البحوث المعملية، فإنّ ظاهرة الهالات النورانية يمكن أن تتكون في حالات محددة، وتعد ظاهرة من ظواهر توليد الكهرباء

تجلت الهالة النورانية في الفن المسيحي، كصفة ومصدر للنور، وأحياناً، كصفة إلهية، تحوط رؤوس القديسيين، بعد أن كان يجري رسمهم بأكاليل الغار، في الأزمنة والقرون الأولى للمسيحية. بيد أن هذه الدائرة النورانية، ظلت في الفترة الأولى للمسيحية، مخصصة فقط للمسيح، والأقانيم الثلاثة، ثم استعملها الرهبان كأداة تعليمية، لبعض ما ورد في الإنجيل من قصص دينية، تروي سير الشهداء والأبطال، وخاصة لمن لا يتقن القراءة والأميين، فيما تطورت لتشمل كل من بذل نفسه في سبيل ما يؤمن به، وجسد بتضحياته سبيلاً لخلاص الآخرين، وتحول من خلال هذا الفن كأحد صور الفداء والتضحية.
نار القديس إيلمو

الهالات النورانية بين الأسطورة والعلم
وبخلاف المعاني الدينية المستقرة حول الكرامات والتقوى والمعجزات، التي ترافق ظاهرة النور المنبعث حول رؤوس بعض البشر، يظل ثمة سؤال حول أصل ونشأة هذه الظاهرة، التي استلهم منها الفنانون تلك الصورة، وشحذوا بها خيالهم الفني، خاصة وأن هالة النور مثلما تجلت حول رأس الإنسان، طافت حول قباب الجبال والمرتفعات، وصواري السفن، والنباتات، ورؤس الحيوانات.

اقرأ أيضاً: وبَطُل السِّحر "المقدس"!
وفي كتابه "محيطنا الفضائي"، يروي العالم الروسي، كولويكوف، أنّ مجموعة من متسلقي الجبال الروس كانوا في طريقهم إلى إحدى قمم جبال تيين شان، ثم بدأ الجو يكفهر، والغيوم تتراكم، وضوء الشمس يحجب، والبرق يبرق، والرعد يزمجر، وعندئذ صاح أحدهم محذراً الآخر: "احترس.. النار تمسك برأسك!".
ومن خلال هذه الحادثة المفتاحية يبدأ العالم الروسي في الإسهاب، وشرح الأسباب التي تكمن وراء ظهور تلك الأضواء والومضات، التي اعتقدوا أنها نار، وبدأت تقفز وتنبعث من بين ثنايا شعر أحد أعضاء الرحلة، حيث بدأت الظاهرة تتكرر حول آخرين، وتلبست الرؤس هالة متوهجة، ليس فقط حول رؤوسهم وإنما من بين أصابعهم أيضاً، حيث بدأ الشرر يقفز من بينها، وكأنما هي تضئ ولو لم تمسها النار.
القديس "إيلمو"
وقعت تلك الحادثة في العام 1960، كما يروي كولويكوف، حيث كانت هناك جماعة من متسلقي الجبال، بقيادة العالم الروسي رانيسك، وعلى ارتفاع يربو من 3800 متر، فوق سطح البحر، ولاحظوا أن قمم الصخور تحوطها هالات من نور، وعندما وصلوا بالقرب منها، بدأت تنتقل الظاهرة لهم ولأفراد رحلتهم، بصورة أثارت خشيتهم ومخاوفهم واستغرابهم، لكنهم سموا تلك القمة التي وقعت عليها الظاهرة بـ"قمة إلكترو"، وتعني قمة الكهرباء.

لا ينفي التفسير العلمي لظاهرة الهالات الشغف الديني والإيمان الروحاني بقدر ما يفسر الظاهرة ويكشف عن قوانينها وعواملها

ومن خلال التسمية التي أطلقها هؤلاء العلماء، فقد تجنبوا التفسيرات الماورائية، وغير العلمية، بينما وردت التسميات في بعض المراجع باسم "نار القديس إيلمو"، وتعود التسمية إلى رواية البحار الإيطالي، أنطونيو بيجافيتا، في يومياته التي دونها، العام 1520، وهو أحد أعضاء بعثة ماجيلان الشهيرة في المحيط الهادي، حيث حكى أنه خلال رحلته ظهر جسم القديس إيلمو فوق السفينة، وتجلى لهم على هيئة نار في ليلة حالكة الظلام، أعلى الصاري الأساسي للسفينة، وبعث ذلك الحدث في نفوس أعضاء البعثة بطمأنينة، وكأنه تعزية لهم في رحلتهم، وبشارة بأنّ سفينتهم لن تغرق أبداً، إذ يعتبر القديس إيلمو بحسب صاحب اليوميات "حارس بحارة البحر الأبيض، ومنجيهم من الموت".

اقرأ أيضاً: التاريخ إذ يتعالى على الزمكان فيغدو مقدساً!
والقديس إيلمو كما يشرح البحار الإيطالي، هو شخصية دينية مسيحية عاشت في إيطاليا، حوالي العام 300 ميلادياً، وله كنيسة شهيرة تحمل اسمه في روما، وعلى قبة تلك الكنيسة تظهر الهالة النورانية كلما تهيأت الظروف الجوية لذلك.
هالات وأيقونات

الكهرباء الجوية
وبحسب البحوث المعملية، فإنّ تلك الظاهرة يمكن أن تتكون في حالات محددة، وتعد ظاهرة من ظواهر توليد الكهرباء الساكنة أو الاستاتيكية، التي تشحن بها جزيئات الهواء، وقد تتلامس جزيئات الهواء مع إنسان معزول عن الأرض؛ كأن يكون مثلاً جالساً، أو يقف على لوح خشبي، أو مرتدياً لحذاء عازل، فتتجمع الشحنات فيه، حتى تصل لدرجة يظهر وكأنما تشتعل فيه النار أو يشع منه النور.

اقرأ أيضاً: "الزي المقدس".. لماذا أوقفت "الأوقاف" المصرية داعية غنّى لأم كلثوم؟
وكما يشير علماء الفيزياء فإنّ الغلاف الهوائي يعمل بمثابة مولد للكهرباء، ولكن توليد الكهرباء الجوية، والتخلص منها أمر شديد التعقيد والصعوبة، حيث تظهر في صور متفاوتة، وأحياناً على صورة برق أو في هيئة الظاهرة النورانية، حيث الكرات المضيئة، بأحجامها وأشكالها المتفاوتة.
وبحسب البروفيسور تويبلر، أستاذ الظواهر الجوية، فإنّ هذه الكرات المضيئة والنارية، تبقى معلقة في الهواء لعدة دقائق، وأحياناً تتحرك، ولا يبدو أنها ضارة على الإطلاق، حيث تبين أنّ قوة تيارها أقل من واحد أمبير، وأنها إذ انفجرت فلن تحدث صوتاً، إنما تحدث بسبب تفريغ التوصيل الكهربائي بداخلها.
وعلى كل حال، لا ينفي التفسير العلمي الشغف الديني والإيمان الروحاني، بقدر ما يفسر الظاهرة، ويكشف عن قوانينها، وعواملها، ودلالتها، كما أنّ حالات التدين التي يعبر إليها المتصوفة والرهبان، لها شروطها الخاصة، وحقائقها الداخلية، التي يعرج العلم على إشاراتها الواقعية والخارجية، التي ساهمت في منحهم بعض عناصرها، فنهلوا من أحداثها ووقائعها التي عاشوا داخلها في عصر ما قبل العلم.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية