إعادة النظر في الثورة الروسية.. أسئلة السلطة والحرب

إعادة النظر في الثورة الروسية.. أسئلة السلطة والحرب


23/12/2018

ترجمة: محمد الدخاخني


من بين العديد من الكتب والمقالات التي نُشرت بمناسبة الذّكرى المئويّة الأولى للثّورة الرّوسية، عام 1917، يبرز كتاب س. أ. سميث، "روسيا في الثّورة: إمبراطوريّة في أزمة 1890-1928"، كواحد من أكثر الأطروحات شموليّة وغنىً بالمعلومات عن تلك الفترة. في هذا السِّفر الطّموح، ينطلق سميث، وهو مؤرّخ كبير ينصبّ اهتمامه على روسيا، شارحاً كيف انحطّت الثّورة البلشفيّة عام 1917، الّتي ألهمتها روح ديمقراطيّة راديكاليّة، إلى النّظام التّوتاليتاريّ الستالينيّ.

يقدّم الكتاب رؤية بانوراميّة ومعمّقة للأحداث الهائلة الّتي وقعت في روسيا، بين عامي 1890 و1928

يقدّم الكتاب رؤية بانوراميّة ومعمّقة للأحداث الهائلة الّتي وقعت في روسيا، بين عامي 1890 و1928. إنّه مسح تاريخيّ غنيّ يحيط بالأدبيّات القديمة حول الموضوع، وأيضاً بآخر الأبحاث العلميّة المستندة إلى الأرشيفات التاريخيّة التي توافرت في فترة ما بعد الاتّحاد السّوفيتيّ. وكما يشير المؤرّخ رونالد غريغور سني، فإنّ سميث "غالبَ الأحداث والشّخصيّات، السّياسة والسّياسة الجماهيريّة في الفترة من تسعينيّات القرن التّاسع عشر إلى عام 1928 ليخلق قصّة متماسكة وجذّابة حول دخول النّاس العاديّين إلى مسرح التّاريخ وانحدار روسيا الوحشيّ والعنيف إلى نظام دكتاتوريّ". وفي ضوء مادة الكتاب الهائلة، ستركّز هذه المقالة على القضايا والأحداث الّتي نوقشت على نطاق واسع في الجدالات السياسيّة.
الثّورة البلشفيّة عام 1917

خلفيّة لثورات 1917
مُستهلّاً عمله بالبنية الاجتماعيّة والاقتصاديّة للإمبراطوريّة الرّوسيّة مباشرة قبيل عام 1917، لا سيّما نظامها الطّبقيّ، يصف سميث مجتمعاً يسير نحو التّصنيع بأغلبيّة، 80 في المائة، سكّانيّة يشكّلها فلّاحون ما يزالون يحملون ذكرى مرارتهم بشأن الظّروف الاستغلاليّة لانعتاقهم عام 1861 على يد الإمبراطور ألكسندر الثّاني، خاصّة اضطّرارهم لدفع (الدّفع بأعلى من القيمة السّوقيّة) ثمن الأرض التي تحصّلوا عليها.

يقدّم سميث أيضاً رواية مُحدَّثة لثورة 1905، حين دخلت هذه الطّبقات التّاريخَ لاعبةً دوراً محوريّاً في تلك الانتفاضة

كما يصف طبقة عاملة متنامية في روسيا الحضريّة، ويشدّد على تركّزها الشّديد في المصانع العملاقة، وهو عامل سهّل، إلى حدّ كبير، عمليّة صوغ النّضال والتّضامن الطّبقيّين. ويشير أيضاً إلى العلاقة المسامية الموجودة بين هاتين الطّبقتين، حيث ينتقل الفلّاحون غالباً إلى شرائح الطّبقة العاملة في مصانع المدن الكبرى، خاصّة خلال الحرب العالميّة الأولى، بوصفها عاملاً مهمّاً في تطوير الوعي الثّوريّ في روسيا.
يقدّم سميث أيضاً رواية مُحدَّثة لثورة 1905، حين دخلت هذه الطّبقات التّاريخَ لاعبةً دوراً محوريّاً في تلك الانتفاضة. إنّ القمع القيصريّ الدّمويّ لمسيرة عمّالية في سان بطرسبرغ، بداية عام 1905، هو ما أشعل هذا التّمرّد. وكان العمّال قد قاموا برفع عريضة للقيصر تضمّ بضعة مطالب، مُصاغة بلغة متذلّلة ولكنّها راديكاليّة في مضمونها، من بينها حرّية تشكيل النّقابات، والحقّ في الإضراب، وتحديد ساعات العمل اليوميّ بثماني ساعات، وإنهاء مدفوعات استِرداد الأراضي. وفي انعكاس لمستوى تسييسهم المرتفع بالفعل، كانوا يطالبون أيضاً بحرّية التعبير والصّحافة وتكوين الجمعيّات، وفصل الكنيسة عن الدّولة.

اقرأ أيضاً: اهتمام أمريكي بمئوية الثورة البلشفية: الشمولية تبعث روسيا مجدداً
أدّت مذبحة العمّال إلى إضراب عامّ في المدينة، انتشر بعد ذلك في كافّة أنحاء الإمبراطوريّة متبوعاً بموجة ضخمة من عصيانات الفلّاحين في ربيع العام نفسه. وكان في سياق هذا التمرّد أنْ ظهرت السّوفيتات (مجالس العمّال التي انتخبَت قادتها مباشرة لتمثيلها في اللجنة التّنفيذيّة السّوفيتيّة على مستوى المدينة) كتعبير عن التّنظيم الذّاتي للعمّال. وقد انتشرت هذه السّوفيتات من سان بطرسبرغ إلى حوالي خمسين مدينة أخرى حيث ما هو أبعد من قيادة الإضرابات، وتأسيس المليشيّات، وطباعة الصّحف، قامت بتسيير وإدارة السّكك الحديديّة والخدمات البريديّة. هذا، وسُحِقَت الانتفاضة بعد عام.
يعزو سميث تلك الهزيمة إلى انعدام وجود قيادة وطنيّة موحّدة يمكنها تنسيق التّمرّد، والتّعاطي مع التّنازلات الممنوحة من قِبل القيصر - أي، حقوق مدنيّة، وجمعيّة تشريعيّة أو "دوما" تتأسّس على حقوق واسعة وإن كانت غير متكافئة، وغرفة تشريعيّة عليا - الّتي قسمت المعسكر المتمرّد بين دعاة الإصلاح السّياسيّ وأولئك الّذين كانوا يحاولون التّحرك نحو ثورة اجتماعيّة أكثر راديكاليّة. ويشير أيضاً إلى أنّه بالرّغم من الاضطّراب الكبير الّتي وقع في صفوف الجيش، إلّا أنّ القيصر كان ما يزال قادراً على الحفاظ على ولاء الجيش وقمع الثّوّار بشكل فعّال.

التّدخّل العسكريّ الحاسم من جانب السّوفيتات والحزب البلشفيّ نفسه هو الّذي دحر الانقلاب

من الحرب العالميّة إلى الثّورة إلى الحرب الأهليّة
هذه الفترة - الّتي تمتدّ من 1914 إلى 1920 - تُعدّ الجزء الأقوى في سِفر سميث. فهو يقدّم تحليلاً شاملاً للكارثة الّتي أُلحِقَت بالشّعب الرّوسيّ من جرّاء مشاركة روسيا في الحرب العالميّة الأولى، والكيفيّة الّتي مهّد بها هذا الأمر الطّريقَ لثورتيْ عام 1917 - أوّلاً الثّورة السّياسيّة، ثمّ الثّورة الاجتماعيّة الّتي قادها البلاشفة. لقد تسبّبت الحرب، كما يكتب سميث، في توقّف التّمرّد العمّاليّ مع انتشار النّزعة الوطنيّة في كلّ مكان. لكن بعد ذلك شرع الجنود في الشّكوى من ظروفهم البائسة في الجبهة، وما صاحب ذلك من حالات موت. ويقدّم سميث تقديرات حول 1.89 مليون حالة وفاة مرتبطة بالقتال، و2.25 مليون حالة إذا ضمّنَ المرء حالات الوفاة في الأسر وتلك النّاجمة عن الأمراض والحوادث.

يعزو سميث تلك الهزيمة لانعدام وجود قيادة موحّدة يمكنها تنسيق التّمرّد والتّعاطي مع التّنازلات الممنوحة من قِبل القيصر

لكن ما أوقع النّهاية بالقيصريّة، كما يكتب سميث، ليس - بالقدر الكبير - انخفاض الرّوح المعنويّة بين القوّات المسلّحة في الجبهة، وإنّما السّخط المتزايد في الدّاخل. ومع ذلك، وفي حيّز لاحق من الكتاب، يكتب أنّ "الجنود العائدين من الجبهة كانوا قناة رئيسة عبرت خلالها الأفكار السّياسيّة الرّاديكالية إلى الرّيف"، بما يشير إلى أنّ انخفاض الرّوح المعنويّة في الجبهة ربّما يكون لعب دوراً أكبر ممّا أفرده له في التّأليب من أجل الثّورة من خلال تسييس الجنود الفلّاحين في الخطوط الأماميّة. ومهما يكن واقع الأمر، فإنّ الحرب قد شوّهت سمعة القيصر وقلّة من الرّوس استمرّت في النّظر إليه باعتباره "الأبّ الصّغير" المعيّن إلهيّاً لشعبه.
يعزو سميث السّخط المتزايد في الدّاخل غالباً إلى الانهيار الاقتصاديّ للاقتصاد الّذي، من بين أمور أخرى، قضى على الزّيادات في الأجور الّتي كان العمّال قد تحصّلوا عليها في بداية الحرب. ويوضّح كيف قام الكفاح العمّالي الّذي انهار في بداية الحرب بالعودة عام 1915، بـ 1,928 إضراباً، وخاصّة عام 1916، بـ 2,417 إضراباً بمشاركة 1,558,400 عامل. وفي الفترة من كانون الثّاني (يناير) إلى شباط (فبراير) 1917، كان هناك 718 إضرباً بمشاركة 548,300 عامل. ومعظم تلك الإضرابات، كما يلاحِظ، كانت لأسباب اقتصاديّة. وإنْ كان يلاحِظ أيضاً أنّ رُبع إضرابات عام 1916 قد اشتملت على مطالب سياسيّة تُظهِر درجة كبيرة من تسييس الطّبقة العاملة.
وفي 8 آذار (مارس) 1917 (23 شباط (فبراير) في التّقويم الرّوسيّ القديم) اندلعت ثورة جديدة في روسيا. وعلى عكس ثورة 1905، سقطت القيصريّة في عام 1917، وقد حصل ذلك في أقلّ من اثني عشر يوماً. ثمّ قامت عدّة نُسخ من حكومةٍ مؤقّتة، قادها في البداية الكاديت المحافظون (الدّيمقراطيّون الدّستوريّون) ثمّ الأحزاب الثّوريّة الاشتراكيّة الإصلاحيّة والمنشفيّة، بإنجاز ما كان بلا شكّ ثورة سياسيّة حقّقت إصلاحات ديمقراطيّة كبيرة، تضمّنت العفو عن السّجناء السّياسيّين، وإلغاء الأوخرانا (الشّرطة السّياسيّة السّريّة القيصريّة المكروهة بشدّة)، وإبطال العمل بعقوبة الإعدام، وإنهاء التّشريعات التّمييزيّة ضدّ الأقلّيّات الدّينيّة والإثنيّة، والسّماح بحرّيّة الصّحافة وتكوين الجمعيّات.

هذه الفترة الّتي تمتدّ من 1914 إلى 1920  تُعدّ الجزء الأقوى في سِفر سميث

وممّا لا شكّ فيه أنّ الحكومة الجديدة لم تفعل شيئاً حِيَال القضيتين الرّئيستين الّلتين كانتا وراء التّمرّد الثّوريّ: الإصلاح الزّراعي وانسحاب روسيا من الحرب. كما أنّها تجنّبت مواجهة الصّراع المتصاعد بين أرباب العمل وموظَّفيهم الّذين كانت مطالبهم الرّاديكاليّة المتزايدة تروم ما هو أبعد من القضايا النّقابيّة المَرْسيّة هادفين بدلاً من ذلك إلى تحكّم أكبر في عمليّة الإنتاج نفسها.
وقد أدّى هذا الوضع إلى إعادة ظهور السّوفيتات. وكما جرى في عام 1905، بدأت السّوفيتات في العمل كمراكز بديلة للحكومة وبالتّالي وضعَت ديناميكيات السّلطة المزدوجة الّتي أصبحت أكثر رسوخاً مع تضاعف عدد السّوفيتات في كافّة أنحاء روسيا. ويشير سميث إلى وجود 700 منها في ربيع عام 2017، و1,429 بحلول تشرين الأوّل (أكتوبر) 1917، مع المشاركة المتزايدة للعمّال والفلّاحين والجنود. وهكذا، من بين السّوفييتات الـ 1,429 الّتي جرى تأسيسها في تشرين الأوّل (أكتوبر)، تضمّنت 706 ممثّلين منتخبين من العمّال والجنود، وتضمّنت 235 ممثّلين من العمّال والفلّاحين والجنود، وتضمّنت 455 ممثّلين من الفلّاحين، وتضمّنت 33 ممثّلين من الجنود فقط.

اقرأ أيضاً: نساء الكرملين: الحياة السرية لزعماء الثورة في الاتحاد السوفييتي
وإلى جانب التّدهور الاقتصاديّ النّاجم عن الحرب المتواصلة، أدّى نمو السّوفييتات ودورها الحكوميّ إلى تحقيق مستوى غير مسبوق من الرّدكلة للطّبقة العاملة، ساعد عليه ضعف اليمين الرّاديكاليّ، الّذي تبيّن أنّه أقلّ فعّاليّة ممّا كان عليه الوضع في عام 1905. ويكتب سميث عن العدد الكبير من النّساء العاملات، بما يتضمّن خادمات منازل وعاملات مطاعم ومغاسل، الّلواتي، على النّقيض من الأعراف الثّقافيّة والاجتماعيّة السّائدة، انضممن إلى النّقابات وأضربن شأنهنّ شأن العمّال الذّكور. وفيما كانت القوميّة تنمو في تعاظم بين الشّعوب غير الروسية في عام 1917، كما يضيف سميث، "لم يكن البروز الأكبر للهويّة الطّبقيّة في هذا الوقت موضع شكّ"، وكانت إحدى النتائج السّياسيّة لذلك هي الشّعبيّة الكبيرة للاشتراكيّة.

اقرأ أيضاً: الإرهاب في روسيا.. حصيلة عام 2018
على أيّة حال، كان الحدث الأهم الّذي دمغ مصير الحكومة المؤقّتة - الّتي كان يقودها في ذلك الوقت كيرينسكي، وهو اشتراكيّ ثوريّ سابق - هو عدم قدرتها على مقاومة الانقلاب العسكريّ اليمينيّ الّذي حاول الجنرال كورنيلوف القيام به في أواخر آب (أغسطس). إنّه فقط التّدخّل العسكريّ الحاسم من جانب السّوفيتات والحزب البلشفيّ نفسه هو الّذي دحر الانقلاب. ويخلص سميث إلى أنّ "تمرّد كورنيلوف بدا وكأنّه يؤكّد أن الاختيار الصّارم الّذي يواجه روسيا كان بين السّلطة السّوفيتيّة والدّكتاتوريّة العسكريّة". وقد أصبح "كلّ السّلطة للسّوفيتات" الشّعار الشّائع لهذا اليوم.

كيرينسكي
مستفيداً من ذلك الظّرف، دعا لينين، زعيم الحزب البلشفيّ، إلى استيلاء ثوريّ على السّلطة. وفي وقت الثّورة السّياسيّة لعام 1917، كان الثّوريون الاشتراكيّون والمناشفة هم الّذين حصلوا على دعم أغلبيّة السّوفييتات؛ كان البلاشفة قد خرجوا كأقليّة واضحة في مؤتمر عموم روسيا الأوّل للسّوفييتات الّذي احتُفِل به في حزيران (يونيو) 1917: فمن بين 822 مندوباً كان هناك 105 فقط من البلاشفة مقارنة بـ 285 من الثّوريّين الاشتراكيّين و248 من المناشفة و32 من الأمميين المناشفة.

اقرأ أيضاً: هل تتخلى روسيا عن علاقاتها بحزب الله؟
لقد تغيّر هذا مع عصيان كورنيلوف، عندما ازداد دعم البلاشفة بشكل كبير بسبب تدخّلهم الحاسم ضدّه. وهذا ما قاد لينين لاستنتاج أنّ الوقت قد حان للاستيلاء على السّلطة. وبالرّغم من المعارضة الدّاخليّة - فكامنيف وزينوفيف، وهما زعيمان رئيسان من البلاشفة، اعترضا علانية على الاستيلاء على السّلطة، وهي خطوة أثارت حنق لينين، الّذي طالب دون جدوى بطردهم من الّلجنة المركزيّة للحزب -، فإنّ الّلجنة المركزيّة قد وافقت على اقتراح لينين ولكن دون تحديد موعد لتنفيذه. وكانت الأحداث هي ما حدّد الموعد.
في ليلة 23-24 تشرين الأوّل (أكتوبر)، قامت الحكومة بمنع الصّحافة البلشفيّة. وردّاً على ذلك، استولت الّلجنة الثّوريّة العسكريّة بقيادة تروتسكي على السّلطة بعد يومين، في مساء يوم 25 عندما قاموا باحتلال القصر الشّتويّ، مقرّ الحكومة المؤقّتة، واعتقلوا أعضاء الحكومة. وبعد ذلك مباشرة، افتُتِح المؤتمر الثّاني للسّوفيت وصادق على استيلاء البلاشفة على السّلطة بتأييد 300 بلشفيّ من أصل 650 إلى 670 نائباً، بالإضافة إلى 80 إلى 85 نائباً من اليسار الثّوريّ الاشتراكيّ. وفي 17 تشرين الثّاني (نوفمبر) "وفق التّقويم القديم" شكّل البلاشفة واليسار الثّوريّ الاشتراكيّ حكومة ائتلافيّة.

 تروتسكي
إنّ الوصف الموجز السّابق للأحداث الّتي أدّت إلى الثّورة البلشفيّة عام 1917 كان واضحاً إلى حدّ ما؛ يثري سميث سرد تلك الأحداث ثمّ يتعمّق في العديد من الخلافات المتعلّقة بها، مقدّماً مراجعة شاملة لتلك الخلافات، أحياناً إلى جانب استنتاجاته الخاصّة. وتنطوي إحدى تلك النّقاشات على الاتّهام الّذي يشيع عادةً بحقّ الثّورة البلشفيّة بأنّها كانت انقلاباً تآمريّاً ضدّ حكومة ديمقراطيّة.

اقرأ أيضاً: مائة سنة على نهايتها: الحرب العالمية الأولى من خلال الرواية
مُقرّاً أنّ الاستيلاء على السّلطة قد تضمّن محدّدات انقلابيّة، يؤكّد سميث على أنّ الدّعوة للاستيلاء على السّلطة قد جرى تعميمها وتداولها بشكل علنيّ لبعض الوقت، وبالتّالي قُضي على محدّد مهمّ في تعريف الانقلاب - ألا وهو السّريّة - وأنّ الحكومة المؤقّتة لم تكن حكومة منتخبة ديمقراطيّاً.
على أنّه ثمّة محدّد آخر لم يُشر إليه: ينطوي الانقلاب أيضاً على عملٍ قامت به مجموعة صغيرة تمثّل نفسها، أو كحدّ أقصى الجيش بالتّآمر مع مجموعة تمثّل أقلّيّة، مثل انقلاب جيش بينوشيه في عام 1973 بالتّآمر مع الطّبقات العليا التّشيليّة. بيد أنّ الاستيلاء البلشفيّ على السّلطة قد حدث بدعم من حركة جماهيريّة متزايدة ومُردكلة من العمّال والفلّاحين وجرى تأكيده بأغلبيّة الأصوات في المؤتمر الثّاني للسّوفيتات الّذي احتُفِل به بعد فترة وجيزة. لم تكن الثّورة البلشفيّة انقلاباً بل انتفاضة.

اقرأ أيضاً: العرب في الحرب العالمية الأولى
ومع ذلك، يبدو أنّ سميث يرغب في لو أنّ الثّورة البلشفيّة عام 1917 قد جرى تجنّبها. فهو يجادل، على سبيل المثال، بأنّ المشاركة الرّوسيّة في الحرب العالميّة الأولى كان يمكن أن يوقفها الاشتراكيّون المعتدلون (المناشفة والثّوريون الاشتراكيّون) من سوفيت بتروغراد. فلو استلم هؤلاء السّلطة في آذار(مارس) 1917، عندما كانوا ما يزالون يتمتّعون بغالبيّة السّوفيتات، لكان بإمكانهم، كما يؤكّد، التّرويج لسياسة سلامٍ والتّفاوض بشكل مباشر مع حكومات كتلة الحلفاء بدلاً من استهداف تعبئة الحركة الاشتراكيّة الدّوليّة. بل إنّ تعليقاً للأعمال العدائيّة يتّفق عليه مباشرة مع حكومات الحلفاء كان ليسمح، كما يكتب، بإحراز تقدّم في معالجة مشكلات حيازة الأراضي والأزمة الاقتصاديّة، وإقامة اجتماع سريع لجمعيّة تأسيسيّة.

أدّت الحرب العالميّة الثّانية إلى نمو توقّعات واضطّرابات شعبيّة في كافّة أنحاء العالم
تكمن مشكلة هذه الحجّة في أنّها تفترض أنّ السّياسيّين (الإصلاحيّين منهم على وجه الخصوص لأنّهم ملتزمون بأيديولوجيّتهم) يمكنهم أن يتصرّفوا ضدّ تكوينهم السّياسي وخبرتهم و، كما يقول ماكس فيبر، "مصالحهم المادّيّة والمثاليّة". كان هؤلاء الّليبراليّون والدّيمقراطيّون الاجتماعيّون المعتدلون ملتزمين بسياسات قاعدتهم المعتدلة الّتي كانت معارضة للثّورة، وبأيديولوجيا، كما يقرّ سميث نفسه في حيّز لاحق من كتابه، تُعارِض استيلائهم بأنفسهم على السّلطة، لأنّهم، ظانّين بصواب منظورهم، "اعتقدوا أنّ 'البرجوازيّة' مقدّر لها السّيطرة على الحكم، واختاروا الموافقة على طلب كتلة الحلفاء شنّ هجوم في حزيران (يونيو) بالرّغم من معرفتهم بالرّغبة الشّعبيّة المكثّفة في التّحرر من حرب عصيبة وعقيمة".

اقرأ أيضاً: قرن على الحرب العالمية الأولى
إنّه ينتقد التّحوّل إلى الثّورة في خضمّ الحرب. مستشهداً بكاوتسكي، يكتب قائلاً "إنّ ثورة نشأت من الحرب لهي علامة على ضعف الطّبقة الثّوريّة" بصرف النّظر عن التّضحية والتّدهور الأخلاقيّ والثّقافيّ الّذي تحمله. ومع ذلك، يعبّر هذا النّقد المعياريّ عن تفكير رغبويّ.
يُظهر السّجلّ التّاريخيّ أنّ الحروب غالباً ما تشوِّه وتضعِف الطّبقات الحاكمة، خاصّة تلك الموجودة في البلدان الخاسرة، ممّا يفتح إمكانيّة الثّورة - كما في حالة الكارثة الرّوسية في الحرب العالميّة الأولى الّتي ساعدت على إحداث الثّورة الرّوسيّة عام 1917، والهزيمة العسكريّة الروسيّة أمام اليابانيّين الّتي عززت ثورة 1905، والهزيمة الفرنسيّة في الحرب الفرنسيّة-البروسيّة الّتي أنتجت كميونة باريس عام 1871 - أو التّغيير السّياسيّ العميق - حيث لعبت هزيمة الدّكتاتوريّة الأرجنتينيّة في حرب مالفيناس (فوكلاند) عام 1982  دوراً حاسماً في الإطاحة ربّما بالطّغمة العسكريّة الأكثر دمويّة في أمريكا الّلاتينيّة.
وبالمثل، أدّت الحرب العالميّة الثّانية إلى نمو توقّعات واضطّرابات شعبيّة في كافّة أنحاء العالم عزّزت الثّورات المعادية للاستعمار في فترة ما بعد الحرب. ومع ذلك، لا ينبغي أن يؤخذ هذا الكلام باعتباره دعماً للحرب لأنّها قد تسهّل الثّورة؛ في الواقع، كان البلاشفة من بين أكثر المعارضين المتشدّدين للحرب العالميّة الأولى.
تأتي الثّورات، الّتي على شاكلة الثّورة الرّوسيّة، من أزمة متأصّلة في النّظام الاجتماعيّ نفسه. ويبدو أن سميث يقبل الأزمة الاقتصاديّة بوصفها أزمة متأصّلة في ذلك النّظام؛ لكن ليس الحرب. إذا اعتبر الحرب جزءاً متأصّلاً من أزمات النّظام، لكان من الأصعب عليه انتقاد الثّورة معياريّاً لكونها قد ولدت من الحرب. علاوة على ذلك، بينما وصف سميث بإسهاب معاناة الشّعب الرّوسيّ أثناء الحرب، فإنّه لم يستخلص أنّ الثّورات عادةً ما تكون أحداثاً متطرّفة تستجيب لظروف وأزمات متطرّفة بدورها. والأهمّ من كلّ ذلك، أنّ الثّوّار لا يختارون الظّروف الكارثيّة الّتي تحدث في ظلّها الثّورات.
يتبع الجزء الثاني ...


المصدر: صامويل فاربر، جاكوبين، 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2018

الصفحة الرئيسية