انهيار لبنان: ماذا يعني وكيف يحدث وماهي آفاقه؟

انهيار لبنان: ماذا يعني وكيف يحدث وماهي آفاقه؟


07/08/2021

إسلام أبو العز

تمر الذكرى الأولى لانفجار مرفأ بيروت، 4 أغسطس 2020، وسط مناخ انفجاري تشهده الساحة اللبنانية على مختلف المستويات السياسية والاجتماعية والأمنية وبالطبع الاقتصادية؛ فحادثة المرفأ التي أتت كذروة لانهيار آخذ في التسارع على مدار السنوات العشر الماضية، وذلك وفق محددات داخلية وخارجية تحكمت بوتيرة هذه الانهيار وتوجيهه والاستثمار فيه وتوظيفه كأمر واقع، قد وصلت أفق تفاديه على مدار السنوات القليلة الماضية لطرق مسدودة، والتي تمثل معظمها في تسويات ومواءمات داخلية لا تزال في رحلة البحث عن حوامل إقليمية ودولية، تشكل رافعة لحكومة مستقرة قادرة على نزع فتيل انهيار اجتماعي وأمني حتمي لاحق للانهيار الاقتصادي، يحدث بالتوازي مع استغراق الطبقة السياسية في لبنان في أنماط متشابكة سمتها توظيف هذا الانهيار في صراعاتهم التقليدية، وكذلك التي باتت داخل المكون الاجتماعي/السياسي الواحد، والتماهي مع احتراف التأزيم كركيزة للاستمرار في مواقعهم الطبقية والسياسية.

في السطور التالية نحاول الإجابة عن تساؤلات أولية خاصة بالانهيار: ماذا يعني وكيف يحدث وتفاعلاته على مستويات اقتصادية واجتماعية وسياسية، وكذلك موقعه من صراعات المنطقة، ومحددات تحديده كأولوية ضمن أولويات القوى الإقليمية والدولية، مع محاولة استشراف الأنماط المستقبلية لإبقاء الانهيار أو الحيلولة دون تفاقمه لانهيار الاجتماع اللبناني ككل وليس فقط اتفاق الطائف، وابقاءه تحت سقف إدارة أزمة طويلة الأمد تلتحق بباقي الازمات المزمنة المتعلقة بلبنان، واستقراء أدوات التعاطي معها محلياً وإقليمياً.

ماذا يعني ومتى بدأ.. وماهي صيغته اللبنانية؟

لا يتلاءم تاريخ وتعريفات انهيار الدول، سواء كدولة أو كانهيار، مع لبنان؛ فحالة الاجتماع السياسي هناك منذ نشأة الكيان اللبناني في القرن السابع عشر وحتى اتفاق الطائف 1990، كانت ولا تزال ردة فعل على متغيرات خارجية، تُفرض على لبنان، ومن ثم تكيّف اجتماعها السياسي/الطائفي معها، وهو ما جعل فكرة تماسك الدولة ومحورية مؤسساتها والأهم دورها في حياة اللبنانيين غير ذات أهمية إذا ما قورنت بالانتماء العائلي/العشائري/الطائفي/الجهوي، وهو ما جعل الاجتماع السياسي هناك يدور في فُلك أنماط أشبه بالعصور الوسطى بواجهة حداثية في طريقها للوصول دائماً لشكل الدولة، دون تحقق ذلك بل وابتعاد إمكانية تحققه حتى كتابة هذه السطور.

وعطفاً على ما سبق، فإنه يصعب تحديد نقطة بداية الأزمة الجارية في لبنان؛ فحسب كل فريق من فرقاء الداخل فإنها مسؤولية الأخر وبدأت بسببه ، ولكن بالتماهي مع هذه الجدالات الاستقطابية نجد أن نقطة البداية قد تكون -وعلى نفس المنوال- اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية ولكنه كرس الاجتماع السياسي المتخلف كسقف لا يمكن تجاوزه، أو ربما حتى منذ استقلال لبنان 1943. أي أنها باختصار مُخل أزمة بنيوية تفاقمت مضاعفاتها وكذلك وتيرتها كنتيجة للتمادي في الاستثمار فيها وتوظيفها على مختلف المستويات سواء من الداخل أو الخارج.

ولهذا وأكثر، يمكن فقط تحديد محطات في مسيرة انفجار هذه الأزمة المزمنة وتسارع الانهيار المصاحب لها، والتي بدأ إدراكها تدريجياً منذ أزمة النفايات 2015، والتي كانت تجلي مُخجل لكوارث متراكمة وبنيوية متعددة المستويات بما في ذلك المستوى الخدمي وانهياره، وتوظيف هذا الانهيار سياسياً كالمعتاد في معركة اختيار رئيس الجمهورية وقتها، حيث دخلت لبنان فترة شغور رئاسي ما بين 2014 لـ 2016، وهو أمر معتاد بمعايير السياسة اللبنانية.

وبخلاف الفساد المزمن والمستشري في بنية الاقتصاد والاجتماع والسياسة في لبنان، فإن وتيرة الانهيار الحالي أخذت في التسارع على نحو غير مسبوق، حتى بالمعايير اللبنانية، عشية احتجاجات 17 تشرين 2019، والتي زاد من زخمها ليس فقط تردي الأوضاع الاقتصادية بدافع من الفساد وتراكم الديون التي ترجع لسنوات الحرب الأهلية، ولكن أيضاً حزم العقوبات الاوربية والأميركية التي شكلت الدفعة التي عجلت وسارعت بالانهيار على مدار أعوام 2015 و2018، وكذلك 2020، الذي شهد الربع الأخير منه انفجار مرفأ بيروت، والذي سرعان ما تحول موضوع التحقيق فيه -كالمعتاد- لورقة مواءمات ومساومات وتصويب كل فريق على الأخر وليس محاسبة المتسببين بهذا الحادث الجسيم.

هنا نجد أن تعريفات انهيار الدول والمجتمعات قد لا تناسب بشكل كبير ما يحدث في لبنان، سواء لطبيعة الانهيار الحادث حالياً هناك وتفاعل المعنيين به في الداخل والخارج، وأيضاً كونه كذلك ليس مرحلة انتقالية مؤقتة، تشبه نماذج الدول والمجتمعات التي دخلت في اقتتال أهلي لعقود ومن ثم انتهاءها يعني تأسيس جديد لدولة ومجتمع؛ فالحالة اللبنانية وبالحد الأدنى منذ 1990 تمت هندستها لإبقائها تحت سقف الدولة وما يصحبها من مفاهيم كالسيادة والاستقلال والمؤسساتية.

كيف يحدث الانهيار اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً؟

اقتصادياً: كانت اخر محطات هذا الانهيار أتت قبل 3 أسابيع، مع اعتذار رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، سعد الحريري، عن تشكيل الحكومة بعد 9 أشهر عسيرة من مشاورات التأليف، التي لم تفضي إلا إلى  إعادة تدوير الانهيار ولكن بوتيرة أسرع، خاصة أنها أتت بموازاة تمديد الإدارة الأميركية حزمة عقوباتها على لبنان لعام أخر يعاد النظر فيها أواخر 2022، وكذلك تلويح مسؤولين أوربيين وفرنسيين بحزمة عقوبات جديدة على الزعماء السياسيين في لبنان، الذين بدورهم احترفوا تدويرها وإعادة انتاجها وتحميلها للشعب بغض النظر عن الانتماءات السياسية وحتى الطائفية.

كمثال يوضح السابق؛ سجل الدولار الأميركي الأسبوع الماضي متوسط 4200 ليرة لبنانية حسب السعر الرسمي في البنوك، ولكن في الواقع فإن السعر الفعلي للدولار يقترب يتراوح عند سقف 20 ألف ليرة، وهذه الفجوة الكبيرة في اقتصاد دولاري بالأساس تعني فقدان معظم اللبنانيين القدرة على تأمين حد أدنى من القدرة المعيشية من حيث الأساسيات كالوقود والكهرباء والعلاج؛ فبخلاف تهريب وفساد بمليارات الدولارات بالقطاع المصرفي على مدار العامين الماضيين فقط، فإن قرارات المصرف المركزي بالامتناع عن صرف العُملة بقيمتها الحقيقية وكذلك حجب الدولار أو على أفضل الأحوال صرف حد أدنى منه لصغار المودعين والمتقاضين رواتبهم بالعملات الأجنبية بالقيمة الرسمية لا الفعلية لليرة.

السابق يجعل المداخيل وسلل الغذاء والخدمات الأساسية تهوى لما هو أقل من الحدود الدنيا من الاكتفاء، وفي نفس الوقت بتكلفة فلكية لا يستطيع أكثر من نصف اللبنانيين تحملها، ناهيك عن كون الخدمات الأساسية -الكهرباء كمثال- تعاني أصلاً من فساد مزمن، انهاؤه أو حتى تقليصه لدواعي إنسانية على وقع الأزمة غير ممكن، وذلك بسبب تفشي مافيا السلع والخدمات، مثل كارتيل الأدوية، الذي امتنع عن إقرار أي إجراءات من شأنها تخفيف حدة الأزمة، بل والاستمرار في تحميلها لمن هم في أسفل الهرم الاجتماعي، بشكل عابر للاعتبارات الطائفية أو الجهوية.

سياسياً: تتلقف الطبقة السياسية هذه الأزمات كاستثمار معتاد تعتاش عليه؛ فحتى وإن كان التعجيل بالانهيار اقتصادياً جاء عبر العقوبات الخارجية، فإن البيئة الخصبة التي وفرتها الطبقة السياسية في لبنان على مدار 30 عام، جعلت العملية السياسية في لبنان عبارة عن توظيف دائم لأزمات كل فريق من جانب الفريق الأخر، وهو ما تدهور خلال العقد الماضي لمستويات شخصية وفردية، لا تجد لها عائل إقليمي وراعي خارجي لاجتراح وخلق أزمات “معتادة” كطريقة شبه وحيدة لممارسة السياسة في لبنان، وهو ما جعل الدفع بمزيد من التعطيل والتأزيم والاستثمار في الانهيار وتسريع وتيرته وزيادة حدة آثاره، وذلك خلال السنوات القليلة الماضية، بمثابة طوق نجاة لمعظم زعماء هذه الطبقة، الذين بدون الاستمرار في الأزمات واستثمارها سياسياً يفقدون دورهم الوظيفي المحمول على نعرات طائفية وجهوية، تستخدم فقط كواجهة لنمط تصدير الأزمات للأخر.

هنا يأتي الارتهان لهذه الحافة واللعب على من يندفع نحوها اولاً من قبل الفرقاء اللبنانيين باستقطابيتهم المعتادة، طائفية كانت أو سياسية على غرار 8 آذار و١٤ آذار، كسقف للاشتباك الداخلي حالياً، وذلك في ظل متغيرات إقليمية سرعة وتيرتها فاقت استيعاب وتعاطي الطبقة السياسية اللبنانية بمختلف فرقائها؛ حيث تهالك وتكلس واستنزافية مكونات وشبكات مصالح هذه الطبقة وارتفاع كُلفة الإبقاء عليها كجماعات وزعامات – تجربة السعودية مع الحريرية السياسية لربع قرن كمثال- سياسياً واقتصادياً من رعاة إقليميين أو دوليين.

ماذا عن الخارج؟

خارجياً، دأبت القوى الإقليمية والدولية المعنية بلبنان على التعاطي مع الانهيار بمستوياته  من زاوية الاستثمار فيه وتوظيفه وفق سلم أولويات يختلف من دولة لأخرى وعلى رأسها الولايات المتحدة؛ فسواء تعلقت هذه الأولويات بلبنان بشكل مباشر مثل حالة اندلاع مواجهة عسكرية بين حزب الله وإسرائيل وما ينسحب على مسألة العقوبات الأميركية، أو بملفات إقليمية يُعد لبنان أحد مكوناتها، أو بحد أدنى أحد ساحتها المحتملة مثل صراعات شرق المتوسط ومستقبل خطوط الطاقة في المنطقة وإعادة الإعمار في سوريا وأفق المفاوضات النووية، وما ينسحب أيضاً من منظور أوسع على مستقبل الصراع بين إيران والسعودية، وخاصة في ظل حالة من المقاربات الايجابية الحثيثة بين البلدين في الفترة الأخيرة، والتي لم يحتل لبنان أولوية فيها بعكس ملفات مثل الحرب في اليمن والعراق.

ويفسر هذا انحدار الصراع السياسي الداخلي في لبنان لحسابات سياسية قائمة على اعتبارات وخلافات شخصية، معظم مكوناتها أو افرادها في حالة انتظار لما ستؤول إليه التموضعات الدولية والإقليمية التي هي قيد التغير حالياً، وموضع لبنان على سلم أولويات القوى الفاعلة على نفس المستويين؛ حيث يتقزم الانهيار في لبنان بجوار ملفات مثل الانسحاب من افغانستان على مستوى دولي، ويلتحق كمحور ثانوي على اقصى تقدير في صراعات شرق المتوسط والاتفاق النووي ومستقبل العلاقات بين إيران والسعودية.

يعد المتغير السابق الدافع الرئيسي لتمطيط الأزمة والتسريع بالانهيار في لبنان، ومن ثم سيادة مناخ توظيف الانهيار والاستثمار فيه بل والتحضير لمفاقمته واستمراريته من جانب مكونات الطبقة السياسية هناك، وذلك يرجع أنهم، وعلى مدار عقود مضت، كانت أدوارهم ومواقعهم في هذا البلد الصغير أحد أدوات ومكونات معادلات الصراعات الإقليمية، وهو ما تغير بشكل متسارع خلال السنوات القليلة الماضية سواء فيما يخص موقع وترتيب لبنان في خارطة السياسة الخارجية للقوى الإقليمية، أو إعادة هيكلة بعض من هذه القوى لأدواتها وأولوياتها الخارجية.

 فاقم السابق من تجليات الأزمة البنيوية للطبقة السياسية اللبنانية، والتي بدورها تعاطت مع الانهيار على مستويات سياسية واجتماعية واقتصادية بإفساد معتاد، جعل وطأة الانهيار هي الأعنف منذ الحرب الأهلية، والتي منذ انتهائها باتفاق الطائف باتت الأزمات اللبنانية تجلي دوري لهذه الأزمة البنيوية، تختلف وطأته وكلفته حسب عوامل ومواءمات خارجية متغيرة.

 أما الأن، ومع سيولة إقليمية ودولية تتغير معادلات وأدوات القوى المؤثرة فيها، مقابل جمود وتكلس نمط السياسة الداخلية في لبنان، الذي اعتاد القائمين عليه العيش على الأزمات واستمرارها، فإن الانهيار الراهن يقع ما بين قوى خارجية غير مهتمة أو توظف جزء منه وفقاً لأولويات -مثل نزع سلاح حزب الله- ليس من ضمنها سلامة وأمن وعيش المواطن اللبناني، وطبقة سياسية مأزومة، اعتادت مكوناتها الالتحاق والتطفل والعيش على أزمات وصراعات داخلية وخارجية؛ فسواء سُميَ ما يحدث انهياراً او فراغ رئاسي او تعطيل حكومي او مخاض سياسي الخ من معجم السياسة الداخلية في لبنان، فإنه بالنسبة للساسة اللبنانيين انعكاس لتحولات خارجية، على القوى الإقليمية والدولية الاضطلاع بحلها أو إدارتها.

تجدر الملاحظة هنا أن هناك اتجاه إقليمي ودولي يطرح مساراً ثالثاً وإن كان مؤقتاً وليس كاستراتيجية طويلة الأمد لحل أو حتى إدارة أزمات لبنان المزمنة، وهو اتجاه تمثله كل من القاهرة وباريس، حيث العمل على إبقاء الانهيار تحت سقف الفوضى الشاملة، وفي حدود الاستجابة لدواعي إنسانية متعلقة بتداعيات وباء كورونا وتوفير اللقاح والاحتياجات الأساسية لمختلف قطاعات الدولة اللبنانية، وما ينسحب على ذلك في الإبقاء على حدود دنيا من شكل الدولة ومؤسستها الأبرز، الجيش اللبناني، بعيداً عن القوى السياسية التقليدية التي باتت تواجه خطر عقوبات فرنسية وأوربية بدعوى الفساد وغيرها، وهو ما يأتي من جانب كل من فرنسا ومصر كتحسب لأن يتحول لبنان في حالة انهياره التام، ووسط محيط إقليمي يمر بحالة سيولة غير مسبوقة، لبؤرة صراعات أهلية وإقليمية جديدة، تغير لخطورتها واستثنائيتها من معادلات في ملفات خطوط الطاقة والموانئ، هي بالأساس قيد التكون تحت مظلة التموضعات الأميركية الراهنة في المنطقة والعالم، واستجابة الأطراف السابقة وغيرهم معها.

محصلة واستشراف

يُكمل مؤتمر باريس لمساعدة لبنان في دورته الثالثة، والذي يأتي برعاية فرنسية وأممية في الذكرى الأولى لانفجار ميناء بيروت، الصورة العامة لمحددات الازمة اللبنانية في المستقبل القريب، حيث إعلان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أن “لا شيكات على بياض” للطبقة السياسية في لبنان، التي وصفها في عدة مناسبات بـ”الفشل” و”الفساد”، وهو ما توافق مع جُل خطابات الخارج تجاه الأزمة في لبنان على مدى العاميين الماضيين، حيث تقديم الإعانات والمساعدات الإنسانية بشكل مباشر بعيد عن الطبقة السياسية الفاسدة في لبنان، وتوجيه هذه المساعدات وفق معايير إنسانية بعيداً عن الاستقطاب السياسي الداخلي وروافده الإقليمية.

تشير تفاصيل هذه الصورة العامة إلى أن هذه المساعدات التي تقع في مدى الإغاثة الإنسانية، مرهونة بما تقدم عليه الطبقة السياسية في لبنان من مواءمات قد تؤدي لتشكيل حكومة، وهو السمت العام طيلة العاميين الماضيين وحتى اعتذار الحريري عن تشكيل الحكومة، وقبول نجيب ميقاتي بها، على أرضية المضي قدماً في توفير حد أدنى من عملية سياسية تجنب الفوضى الشاملة وكذلك تجذب المساعدات الخارجية، وهو ما يعني أن خروج هذه الحكومة للنور لا يعني توقف الانهيار خاصة إذا لم تحظى بغطاء دولي وإقليمي وازن، ولكن كبح وطأته وتقليصها لمرحلة تسمح للداخل بالتحضير للانتخابات البرلمانية، وللخارج بأن لا يتحول الانهيار في لبنان لمسرح جديد يستخدم للتصعيد في صراعات خارجية وإقليمية، قد يصبح لبنان محورها في مرحلة متقدمة، خاصة إذا حدث اشتباك عسكري مع إسرائيل.

هنا يمكن النظر إلى احتمالية تعطيل الانتخابات البرلمانية، عبر مسارات داخلية وخارجية، وكذلك عدم الاستقرار الحكومي، كذروة الانهيار الحالي بمستوياته السياسية والاجتماعية، والذي قد يفضي حسب تقديرات لدوائر بحثية ودبلوماسية متنوعة الاتجاهات، انهيار الاجتماع السياسي اللبناني سواء عبر تحلل اتفاق الطائف 1990 ، أو ما هو أفدح لانهيار الاجتماع اللبناني ككل كما عُرف منذ 1943، وما يتبع ذلك من سيناريوهات معتاد ترديدها عن “الفدرلة” كبديل حتمي عن الطائف.

وفيما بدا أن الغالب على الطبقة السياسية في لبنان، ومكوناتها الفاعلة، مرهونين بحالة تجمع بين الارتباك الداخلي والاستثمار في الأزمة، ولكن وفق معادلات قد تغيرت بالفعل خلال السنوات العشر الماضية، وهو ما يعني بالنسبة لهم حال استمرار الانهيار أو إيقافه عبر تمرير تشكيل الحكومة واجراء الانتخابات البرلمانية، تغير معادلة الاجتماع السياسي في لبنان وإعادة هيكلتها بما يتجاوز اتفاق الطائف والتعديلات التي أجريت عليه طيلة ثلاثة عقود، ودخول مكونات جديدة لها على أرضية غير طائفية، حيث ظهور ما يمكن وصفه ببوادر تكتلات سياسية مستحدثة خلال هذه الفترة مثل المجتمع المدني و”المستقلين” ونشطاء 17 تشرين، والذين قد لا يكونوا بحجم القوى التقليدية، ولكنها قد تصبح مؤثرة كترجيح أغلبية برلمانية أو ائتلاف حكومي.

أما على مستوى سقف الخارج وقواعد اشتباكه وعلاقة لبنان بها حتى كتابة هذه السطور، فيظل الأخير محطة تتقاطع فيها ملفات وأزمات إقليمية ودولية كبرى، وإن كان الفارق أن لبنان ليس محورها الرئيسي -باستثناء اندلاع حرب مع إسرائيل- ولكن أحد أدوات إداراتها المحتملة دائماً إن لم تكن المفضلة، فمثلاً تركيا استعاضت عن الاشتباك في حقل الألغام اللبناني وتوظيفه ضمن نمط الأردوغانية كبطاقة متعددة الاستخدامات في ملفات مثل شرق المتوسط وسوريا، بإحياء الملف القبرصي، الذي يعد أكثر أماناً وفاعلية من حسب منظور أنقرة وسياساتها الخارجية خلال السنوات الأخيرة، وذلك بعد اضطلاع مصر وغيرها بعملية تحوط في الفراغ السعودي بلبنان، والذي كانت أخر مظاهره مشروع تطوير ميناء طرابلس.

وبالتبعية نجد أن باقي القوى الإقليمية المعنية بلبنان اخذت في إعادة حساباتها وعلاقاتها بلبنان على حسب تموضعات إقليمية وداخلية، او حتى تجميدها -كما فعلت السعودية- كجزء من كل يتعلق مثلاً بأفق المداورة الثلاثية بين واشنطن وطهران والرياض، والتي يتأخر موقع لبنان فيها عن ملفات مثل الاتفاق النووي وحرب اليمن وأمن الخليج ومستقبل العراق، حتى وإن كانت المداورة هذه في إطار التصعيد عبر انتقال حرب السفن والمنافسة على الموانئ نحو برميل البارود اللبناني، وليس التهدئة والحوار.

وبالتالي فإن تحقق سيناريوهات حلحلة الأزمة ووقف الانهيار، تتساوى مع تحقق سيناريوهات استمرار الازمة والانهيار كحالة مزمنة، تتعاطى معها الاطراف الاقليمية والدولية كاستثناء “معتاد” كانت عليه لبنان قبل الطائف، وأصبح الأن مجرد حالة اعتيادية ومزمنة بجوار ما يحدث في ليبيا وسوريا واليمن.

وإزاء هذه الوضع الحرج، فإن حادثة خلدة  تأتي كمجرد استشراف طفيف لما قد يؤدي له انفجار هذا الوضع المحتقن في لبنان، وهو ما يذكر بحادث عين الرمانة 1975 الذي شكل شرارة الحرب الاهلية. وكذلك كإشارة لما ستكون عليه الازمات الامنية في لبنان في المستقبل القريب، وفق محددات جديدة لا تقتصر على الاستقطاب السياسي التقليدي هناك، بل تفعيله عبر الاستثمار في احتقان هوياتي وجهوي دون طائفي حتى، يحيد عن معالجة فساد طبقة اعتاشت على الأزمات وتصديرها للأخر وللخارج، الذي في هذه الحالة ماهو إلا مستفيد من مختلف المقاربات، والتي أقصاها الدفع نحو اقتتال أهلي، ومن ثم العودة لمربع صفر في الصراع بين الرياض وطهران خاصة بعد تعثر مبادرات الحوار بينهم، وما يتبع ذلك من تحول لبنان لساحة حروب إقليمية بالوكالة، وما يلتحق بذلك من أولويات أميركية وإسرائيلية لتحقيق أهداف مثل تقييد ونزع سلاح حزب الله.

عن "مركز الإنذار المبكر"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية