بهلوانية أردوغان: يؤيد حماس ولا يُغضب إسرائيل وأمريكا

بهلوانية أردوغان: يؤيد حماس ولا يُغضب إسرائيل وأمريكا

بهلوانية أردوغان: يؤيد حماس ولا يُغضب إسرائيل وأمريكا


كاتب ومترجم جزائري
23/11/2023

ترجمة: مدني قصري

"لم يعد نتنياهو شخصاً يمكن التحدث إليه. لقد حذفناه من اتصالاتنا": يمثل تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم 3 تشرين الثاني (نوفمبر) التغير في موقفه فيما يتعلق بالصراع بين حماس وإسرائيل.

في الواقع، وبعد أن أعربت تركيا في البداية عن عزمها تأكيد نفسها كوسيط في الصراع، كما أوضح جان ماركو في كتابه "مفاتيح الشرق الأوسط" في 20 تشرين الأول (أكتوبر) فإنّ تصعيد الردّ العسكري الإسرائيلي - وكذلك الضغط السياسي الداخلي – قد دفعه إلى معارضة السلطات الإسرائيلية بحزم وشدّة.

وهذا التصلب في الموقف التركي ضد إسرائيل يسير جنباً إلى جنب مع خطابه إزاء "الغرب" بمفهومه السياسي وليس الجغرافي. ففي سياق ارتفاع حدة انتقادات الرئاسة التركية، وخاصة ضد حلفاء إسرائيل تم تسجيل مظاهرات في الأيام الأخيرة في تركيا ضد الولايات المتحدة، ولا سيما أمام القاعدة الجوية التركية في "إنجرليك" في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) والمعروفة باحتوائها على معدات عسكرية أمريكية بما في ذلك الرؤوس الحربية النووية.

يسعى هذا التحليل إلى عرض تطوّر الموقف التركي وتصلب الخطاب السياسي ضد إسرائيل، من خلال توضيح  تطور التوترات إلى حدّ ذروة الأزمة التي يمر بها البلدان. لكن، بعيداً عن الخطابات العامة، يجب شرح الديناميكيات الداخلية والدولية الجارية حالياً.

1. تصلب الخطاب التركي تجاه إسرائيل

إنّ إعادة تموضع تركيا فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني جاءت بشكل أساسي ابتداءً من الانفجار الذي وقع في المستشفى الأهلي في غزة في 17 تشرين الأول (أكتوبر)، والذي تسبّب في عدد غير محدّد من الوفيات. بالفعل، ففي اليوم نفسه كانت أنقرة لا تزال تُظهر رغبة في الوساطة، حيث نشر هاكان فيدان، وزير الخارجية التركي الجديد، "خطة سلام" صمّمتها أجهزته لحلّ الأزمة الحالية. لكنّ الإعلان عن الانفجار في المساء غيّر هذا الوضع بشكل جذري.

وزير الخارجية التركي الجديد: هاكان فيدان

في الواقع، فإذا لم يتم حتى الآن تأكيد المصدر الدقيق للانفجار (إسرائيل؟ الجهاد الإسلامي؟ حماس؟) ولا طبيعته (صاروخ؟ ذخيرة أطلقت من طائرة؟) إلا أنّ حماس والمتعاطفين مع القضية الفلسطينية ينسبون مسؤولية صانع الانفجار إلى إسرائيل، مما تسبب في خروج العديد من المظاهرات في جميع أنحاء العالم، وفي حدوث موجة من الغضب في جميع أنحاء الشرق الأوسط ضد إسرائيل والدول التي تُعتبَر حليفة لها. وفي مساء اليوم نفسه والأيام التالية وقعت اشتباكات بين المتظاهرين الأتراك وقوات الأمن التركية أمام المكاتب الدبلوماسية الإسرائيلية والأمريكية في أنقرة واسطنبول ومدينة أضنة. وكانت كثافة هذه المظاهرات وعددها لافتة  لحدّ أنها، على سبيل المثال، دفعت الولايات المتحدة إلى الإعلان عن إغلاق قنصليتها في مدينة أضنة بعد يومين، وإصدار أمرٍ للمسؤولين الأمريكيين بعدم الذهاب إلى تركيا حتى إشعار آخر. كما أمرَ مجلسُ الأمن القومي الإسرائيلي (NSC) في 17 تشرين الأول (أكتوبر) جميع المواطنين الإسرائيليين بمغادرة تركيا في أسرع وقت ممكن خوفاً من وقوع هجمات ضدهم.

 

أردوغان يقوم بِعملٍ بهلواني يتمثل في التعاطف مع حماس من أجل حماية قاعدته الانتخابية، ومن ناحية أخرى، لا يدير ظهرَه بعزم لإسرائيل والولايات المتحدة

 

وعندئذ شدّدت السلطات التركية لهجتها بشكل كبير في إدانة إسرائيل؛ وأعلنت الرئاسة التركية على موقع التواصل الاجتماعي X  (تويتر سابقاً) أنّ "قصف مستشفى يجد فيه نساء وأطفال ومدنيّون أبرياء هو أحدث مثال على عدم احترام الهجمات الإسرائيلية للقيم الإنسانية". وعلى الرغم من أنّ الأحزاب السياسية التركية الحاضرة في البرلمان متردّدة تقليدياً في نشر إعلانات مشتركة إلا أنها تمكنت، بطريقة غير مسبوقة على الإطلاق، من الوصول إلى الاتفاق على بيان صحفي يستنكر "الهجمات المتزايدة والمتواصلة التي تشنها إسرائيل ضد سكان غزة، في انتهاك للقانون الإنساني الدولي. ونحن ندين هذه الهجمات التي تشكل جرائم ضد الإنسانية، بأشد العبارات الممكنة". 

فاللهجة ما انفكت تتصاعد وتشتدّ وتتصلب مع مرور الأيام. لقد أعلن دولت بهجلي، زعيم حزب الحركة القومية المتطرف والحليف الكبير للرئيس التركي، في 21 تشرين الأول (أكتوبر) أنه من "واجب" تركيا "التدخل في غزة" من أجل حماية السكان، بحكم "مسؤوليات تركيا التاريخية والإنسانية والدينية" تجاه الفلسطينيين. وبعد أيام قليلة، في 25 تشرين الأول (أكتوبر) أعلن الرئيس التركي، في خطاب ألقاه أمام البرلمان، أنّ "حماس ليست جماعة إرهابية، بل مجموعة محرّرين يدافعون عن أرضهم". وأضاف الرئيس التركي أنّ "هجمات إسرائيل على غزة، سواء بالنسبة له أو بالنسبة لمن يدعموه، ترقى إلى مستوى القتل والمّرّض العقلي". وفي اليوم التالي، عند سؤاله عن الوسائل التي تستخدمها تركيا لمساعدة سكان غزة قال رجب طيب أردوغان للصحفيين "سنواصل استخدام جميع الوسائل الدبلوماسية، والعسكرية إذا لزم الأمر". إلا أنّ وزارة الدفاع التركية لوَّنَتْ وتحفّظت على تصريحات الرئيس التركي، مؤكدة أنه كان يشير إلى "حشد الموارد العسكرية لإيصال المساعدات الإنسانية إلى سكان غزة".

2. …إلى الأزمة الدبلوماسية

كان يوم 28 تشرين الأول (أكتوبر) بمثابة بداية الأزمة الدبلوماسية الجديدة بين إسرائيل وتركيا. ففي ذلك اليوم نظم حزب العدالة والتنمية (AKP ) (الحزب الذي يتولى السلطة حالياً) اجتماعاً حاشداً للتنديد بالرد العسكري الإسرائيلي على هجوم حماس. ومع وجود عدة مئات الآلاف من المشاركين فقد حظيت هذه المظاهرة بتغطية جيدة بشكل خاص، وجعلت المنظمات تقول إنها "أكبر مظاهرة" في العالم يتم تنظيمها ضد الإجراءات الإسرائيلية في غزة. وتحدّث رجب طيب أردوغان في هذه التظاهرة، قبل يوم من موعد الذكرى المئوية للجمهورية التركية، واتهم إسرائيل بـ”جرائم حرب”، مشدّداً على أنّ “الدول الغربية” هي “المذنِب الرئيسي في مجازر غزة”، ومؤكداً أنّ هذه الدول “كانت بالأمس تتقاتل فيما بينها، وقد قتلت اليهود في غرف الغاز ومحت المدن من الخريطة بالقنابل الذرية... إننا نرى نفس العقلية في غزّة اليوم”. وفيما يتعلق بإسرائيل يؤكد الرئيس التركي أنّ هذه الأخيرة كانت مجرد "منظمة"، وهي طريقة لإنكار طابع الدولة لإسرائيل واستخدام تعبير تقليدي تستخدمه الرئاسة التركية لوصف الجماعات الإرهابية، وفي مقدمتها حزب العمال الكردستاني (PKK).

 زعيم حزب الحركة القومية المتطرف والحليف الكبير للرئيس التركي: دولت بهجلي

وفي اليوم نفسه أعلنت تل أبيب عن استدعاء موظفيها الدبلوماسيين المقيمين في أنقرة إلى إسرائيل من أجل “إعادة تقييم العلاقات بين تركيا وإسرائيل”. وفي 4 تشرين الثاني (نوفمبر) أعلنت أنقرة بدورها استدعاء سفيرها لدى إسرائيل، صقر أوزكان تورونلار، "للتشاور"، وهي لفتة سرعان ما انتقدتها بشدة وزارة الخارجية الإسرائيلية، التي أكد المتحدث باسمها، ليئور حيات، أنّ هذه "خطوة جديدة تثبت وقوف الرئيس التركي إلى جانب منظمة حماس الإرهابية". ومع ذلك أشار رجب طيب أردوغان، ليلة المقابلة التي أجريت معه وقال فيها إنه لم يعد يرغب في مناقشة الأمر مع نتنياهو، إلا أنه لا يريد قطع العلاقات تماماً مع إسرائيل، موضحاً أنّ رئيس المخابرات التركية سيظل على اتصال مع الجانب الإسرائيلي والجانب الفلسطيني على السواء.

3. ديناميات محلية ودولية خارج الخطب السياسية

ومع ذلك، فإنّ تصلب الخطاب التركي منذ انفجار المستشفى في 17 تشرين الأول (أكتوبر) لا ينبغي تحليله فقط من خلال منظور السخط على الرد العسكري الإسرائيلي على غزة. في الواقع، ينبغي أوّلاً التذكير أنّ الرئاسة التركية تلقّت الأمرَ مِن قِبل عشيرتها وحلفائها السياسيين - ولا سيما حزب الحركة القومية MHP وحزب الهدى بار  Hüda Par - منذ بداية الصراع، بإظهار المزيد من الحزم إزاء إسرائيل. وأصبحت حاجة رجب طيب أردوغان إلى تأكيد الموقف التركي بوضوحٍ أكثرَ إلحاحاً في ضوء تعيين أوزغور أوزيل على رأس حزب الشعب الجمهوري، بدلاً من كمال كيليتشدار أوغلو الذي تولى منصبه لأكثر من ثلاثة عشر عاماً. فالشخص المعني، هذا الذي أصبح في الواقع الشخصيةَ الرئيسية الجديدة للمعارضة في تركيا، سرعان ما تميزّ في 26 تشرين الأول (أكتوبر) بإعلانه أنّ حماس هي بالفعل منظمة إرهابية. فلا شك أنّ تصلب الموقف الرئاسي التركي ضد إسرائيل ولصالح حماس يسمح لرجب طيب أردوغان بإحداث الفَرق الواضح وبتهميش خصمه.

 

إذا كانت أنقرة وتل أبيب تمرّان بلا شك بأزمة دبلوماسية جديدة اليوم، فإنّ البراغماتية التقليدية لكليهما ستسمح لهما، ربما على المدى الطويل، باستئناف الاتصال رسمياً

 

كما أنّ أسباباً جيوسياسية دولية، ممزوجة بهذه المسائل الجيوسياسية الداخلية دفعت الرئاسة التركية إلى تشديد موقفها ضد إسرائيل. وفي كثير من النواحي أثبت فشلُ اقتراح الوساطة التركية - رغم نجاحه العام الماضي بين روسيا وأوكرانيا- أنه فشل حاسمٌ. في الواقع شهدت الأشهر التي سبقت اندلاع هذه الحلقة الجديدة من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني تقارباً لا يمكن إنكاره بين تركيا وإسرائيل، وهو جزء من الإطار الأوسع لديناميكية مماثلة تشاركت فيها تل أبيب مع العديد من دول المنطقة. ففي أذار (مارس) 2023 زار الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ تركيا، وهي الزيارة الأولى للرئاسة الإسرائيلية منذ 14 عاماً. وبالتالي فإنّ الاعتدال الأصلي في أقوال الرئاسة التركية فيما يتعلق بالصراع في إسرائيل، وكذلك اقتراح الوساطة، يندرجان ضمن هذا الإطار.

أصبحت حاجة أردوغان إلى تأكيد الموقف التركي بوضوحٍ أكثرَ إلحاحاً بعد تعيين أوزيل على رأس حزب الشعب الجمهوري

ومع ذلك، فقد مرّ اقتراح الوساطة هذا دون أن يلاحظه أحد نسبياً – لقد طمسه جزئياً اقتراحُ مصر التي نظمت "منتدى للسلام" في القاهرة في 21 تشرين الأول (أكتوبر)، وبخاصة اقتراح قطر – مع وساطتها بين حماس والولايات المتحدة التي أثار رئيسُها جو بايدن، الذي قام بجولة في الشرق الأوسط في منتصف تشرين الأول (أكتوبر) غضبَ أنقرة لعدم توقّفه في تركيا. وكان لا بد من  الانتظار حتى يوم 6 تشرين الثاني (نوفمبر) حتى يقوم مسؤول أمريكي، ممثَّلا في شخص وزير الخارجية أنتوني بلينكن، بزيارة البلاد. وعندما وصل في منتصف الليل إلى أنقرة لم يجد في استقباله أيّ مسؤول على المدرج، بعد أن أشار الرئيس التركي إلى أنه لن يغيّر جدوله لِاستقبال الدبلوماسي الأمريكي. وكما وضّح الصحفي التركي فهيم تستكين لصحيفة لوموند الفرنسية فإنّ “رجب طيب أردوغان كان يأمل في أن يتمكن من الاستفادة من المرحلة الجديدة من الانفتاح مع إسرائيل، مع تجنب التوترات مع الولايات المتحدة، في ذات اللحظة التي تمر فيها تركيا بأزمة اقتصادية خطيرة. لكنّ ردّ فِعل إسرائيل غير المتناسب في غزة أدى إلى زيادة الغضب داخل قاعدة حزب العدالة والتنمية، وقلّل من المخاطر التي كان أردوغان يخشاها. فلأنه لم يحصل على الدور المنتظر منه كوسيط أصبح من غير المجدي الحفاظ على الاعتدال في أقواله”.

موقف بهلواني 

وبالتالي، فبدلاً من الدعم الحازم لحماس والرفض الحاسم لإسرائيل، يبدو الموقف التركي، كما هي الحال دائماً، أكثرَ تعرّجاً وانعطافاً. فبِصفته مؤيداً كبيراً للبراغماتية في علاقاته الدولية وبحكم دبلوماسيته "الانتقائية" يقوم الرئيس التركي بِعملٍ بهلواني يتمثل من ناحية، في التعاطف مع حماس من أجل حماية قاعدته الانتخابية وحلفائه السياسيين، في تركيا والخارج، ومن ناحية أخرى، في الحرص على ألا يدير ظهرَه بعزمٍ لإسرائيل والولايات المتحدة - كما تبيّنه لفتة رجب طيب أردوغان في 23 تشرين الأول (أكتوبر) المتمثلة في عرضه على البرلمان التركي طلب السويد لِعضوية الناتو. ويلخص سونر كاجابتاي، مدير الأبحاث في معهد واشنطن، هذا الموقف بشكل فعّال من خلال الإشارة إلى أنّ الموقف التركي أصبح الآن "مؤيداً لحماس، ولكن ليس معادياً لإسرائيل". 

🎞

إنّ تحقيق التوازن في الدبلوماسية فنٌّ صعبٌ للغاية، ولكي يصبح فعّالاً فإنه غالباً ما يتحوّل إلى إنكار الكلمة المعطاة. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتقن هذا الفن. ففي الأيام التي تلت الهجوم الوحشي الذي شنته حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) سعى رئيس الدولة وحزب العدالة والتنمية الحاكم إلى ضبطِ ووزنِ دعمِهما للقضية الفلسطينية بعناية، مع تجنب الإضرار بعلاقاتهما مع السلطات الإسرائيلية التي انخرطت معها في عملية تطبيع منذ بضعة أشهر فقط. وفي نهاية أيلول (سبتمبر) التقى رجل أنقرة القوي في نيويورك برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو للمرّة الأولى، بعد أكثر من عشر سنوات من التوترات.

إذا كانت أنقرة وتل أبيب تمرّان بلا شك بأزمة دبلوماسية جديدة اليوم، فإنّ البراغماتية التقليدية لكليهما ستسمح لهما، ربما على المدى الطويل، باستئناف الاتصال رسمياً فور تحديد المصالح المشتركة بينهما مرّة أخرى. وحتى ذلك الحين، وبينما يستمر الصراع في قطاع غزة فمن المؤكد أنّ تمرير الأسلحة سيظل هو المعيار، وسيزيد من إضفاء الطابع المؤسسي على الأزمة الجديدة التي يمر بها البَلَدان اليوم.

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

https://www.lesclesdumoyenorient.com/La-nouvelle-crise-israelo-turque.html



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية