تردّي الأوضاع الاقتصادية يدفع سكان غزة إلى أفران الطين

تردّي الأوضاع الاقتصادية يدفع سكان غزة إلى أفران الطين


12/11/2020

تحت مظلّة مصنوعة من القماش لتقيها من أشعة الشمس الحارقة، تجلس السيدة الريفية، وداد الهندي (45 عاماً)، أمام فرن قديم شيّدته بيدَيها قبل 12 عاماً، من الطّين الأحمر، لإعداد الخبز البلدي وطهي الأطعمة المتنوعة، وذلك للتخفيف من معاناتها المعيشية، وتقليل اعتمادها على أنابيب غاز الطهي وشبكة الكهرباء، التي تثقل كاهلها بمصاريف مالية كبيرة.

أفران الطين كانت قبل عدة سنوات المواقد الوحيدة المتوافرة في المنازل لطهي المأكولات وإعداد الخبز البلدي، وكذلك كان يستخدم في عمليات التدفئة خلال الشتاء

وتضيف الهندي، من بلدة خزاعة شرق خانيونس، جنوب قطاع غزة، وهي أمّ لثمانية أبناء، خلال حديثها لـ "حفريات"، وقد تصبّب عرقها واكتوت وجنتاها بالنيران التي تعلو فرن الطين، أنّها "اعتادت منذ صغرها على ممارسة الأعمال الشاقة، وما تزال تمارسها، رغم تقدّمها بالعمر، دون كلل أو ملل، مبينة أنّ "أفران الطين تعدّ جزءاً أساسياً وتراثاً مهمّاً للعائلات الريفية والمتعففة في غزة".

أفران الطين تعدّ جزءاً أساسياً وتراثاً مهمّاً للعائلات الريفية والمتعففة في غزة

وبحسب وزارة التنمية الاجتماعية بغزة؛ فإنّ نسبة انعدام الأمن الغذائي في صفوف سكان القطاع بلغت 70%، كما أنّ نسبة الفقر والبطالة وصلت، خلال العام 2019، إلى ما يقرب من 75%، في حين أنّ 33,8% يعيشون تحت خطّ الفقر المدقع.

اقرأ أيضاً: لماذا لا تستطيع مزارعات غزة الوصول إلى أراضيهن؟

ووفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني؛ فإنّ 68%من أُسر القطاع، لا تستطيع تغطية نفقاتها الشهرية (مستلزمات البيت الأساسية من غاز، وفاتورة الكهرباء والماء، والمأكل، والملبس)، وتعود الأسباب للأزمات المركبة التي تعيشها غزّة.

ووصفت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، عام 2020، بالأسوأ في غزة، لا سيما بعد أن باتت الأوضاع أشدّ صعوبة، بعد أن شدّدت (إسرائيل) حصارها على القطاع، وأوقفت دول مانحة كثيرة دعمها لسكان غزّة، وقلّصت المؤسسات الدولية من مشاريعها التشغيلية، وزاد الطين بلّة الإغلاق الشامل في القطاع بعد تفشي كورونا.

ضرورة ملحّة

وبيّنت الهندي، وهي تقلّب أرغفة الخبز الناضج بقضيب حديدي؛ أنّ "فرن الطين أصبح ضرورة ملحة لجميع السكان في غزة، في ظلّ تردي الأوضاع الاقتصادية وانقطاع التيار الكهربائي، للتخفيف من الأعباء المالية عليهم؛ نظراً لاعتماده بشكل أساسي على الأخشاب والأوراق والأقمشة البالية، وذلك لطهي كافة أنواع الأطعمة والمخبوزات، بأقلّ وقت وجهد، ودون تكلفة مالية، ليصبح مشروعاً اقتصادياً مهمّاً داخل المجتمع".

68%من أُسر القطاع، لا تستطيع تغطية نفقاتها الشهرية

وتتابع: "العائلات الريفية التي تسكن بالقرب من المناطق الحدودية الشرقية لقطاع غزة ما تزال منذ عدة أعوام تتمسّك بإعداد الخبز التقليدي وطهي الطعام والحلويات على أفران الطين؛ وذلك لتمتّعها بمذاق لذيذ يختلف عن مثيلاتها التي يجري طهوها على مواقد الكهرباء الحديثة"، مبينة أنّ "عائلات كثيرة أصبحت تخصّص ركناً خاصاً في ساحات منازلها لبناء أفران الطين القديمة، كمظهر جمالي، وللتغلب على الانقطاع المستمرّ للكهرباء والمحروقات".

السيدة الريفية وداد الهندي لـ "حفريات": اعتدت منذ صغري على ممارسة الأعمال الشاقة، وما زلت أمارسها، رغم تقدّمي بالعمر، دون كلل أو ملل

وتوضح الهندي، والبسمة ترتسم على وجهها رغم مشقّة عملها؛ أنّها "تعمل أيضاً في إعداد الخبز وطهي الطعام على فرن الطين لعدد من زبائنها، بمقابل مادي، لتأمين لقمة العيش لعائلتها، بعد توقّف زوجها عن عمله مع تفشي وباء كورونا في القطاع؛ حيث يساعدها أبناؤها في تنظيف أرغفة الخبز باستخدام قطعة من القماش لإزالة الرماد وبعض الشحوم الناتجة عن الأخشاب والأقمشة المحترقة، للحفاظ على لون الأرغفة الذهبي".

مجابهة الأوضاع الاقتصاديّة الصعبة

وأمام موقدها المشيّد من الطين، تراقب المسنّة صبحة أبو شعر ( 65 عاماً)، من قرية وادي السلقا، وسط قطاع غزة، بحذر، أرغفة الخبر داخل الفرن، لتحافظ على نضوجها ولونها الجذاب وسط النيران الملتهبة، وتقول لـ "حفريات": " لقد اعتدنا منذ عدة أعوام استخدام أفران الطين كجزء من ثقافتنا وعاداتنا الريفية، لطهي أشهى المأكولات الشعبية الفلسطينية، حتى في حال توافر أفران الغاز والكهرباء الحديثة".

تفضّل بعض العائلات تناول الأطعمة والخبز الذي يتمّ طهيه بواسطة فرن الطين

وتستعين أبو شعر بأحفادها لجمع أغصان الأشجار الجافة والأخشاب والورق المقوّى بواسطة عربة يجرّها حمار، لإيقاد أفران الطين، ولتخزين بعضها، لاستخدامها خلال فصل الشتاء، موضحة أنّ عائلتها تفضّل تناول الأطعمة والخبز الذي يتمّ طهيه بواسطة فرن الطين، لمذاقه الجذّاب، الذي يختلف عن مثيله المعدّ بالماكينات المتطورة".

اقرأ أيضاً: طيور السِمان تقطع آلاف الأميال لتقع في شباك صيادي غزة

وتحاول أبو شعر، من خلال اللجوء لفرن الطين، التغلّب على سوء الأوضاع المعيشية لها؛ حيث عزفت لأعوام عديدة بشكل كامل عن استخدام الأدوات الكهربائية والمحروقات لطهي الطعام وإعداد الخبز، مبينة أنّ "الجلوس أمام فرن الطين يتطلب ارتداء ملابس قديمة وبالية، نظراً للرماد وللأدخنة السوداء التي تنبعث منها عند إشعالها".

استخدامات متعدّدة

وبيّنت أنّ "أبرز ما يميّز أفران الطين التقليدية؛ هو تجمّع النسوة والفتيات حولها، مع ترديدهنّ بعض الأهازيج والأغاني الشعبية والتراثية الفلسطينية، موضحة أنّ "المواقد الطينة لم تعد تستخدم للطهي وإعداد الخبز فقط، بل يمتدّ استعمالاتها لتسخين المياه للاستحمام، وكذلك كوسيلة للتدفئة خلال فصل الشتاء؛ حيث يسهل نقل تلك الأفران من مكان لآخر داخل المنازل، في حال تمّ بناؤها بالطرق الصحيحة".

بل يمتدّ استعمالاتها لتسخين المياه للاستحمام، وكذلك كوسيلة للتدفئة خلال فصل الشتاء

وأكّدت أبو شعر أنّ "أفران الطين كانت قبل عدة سنوات المواقد الوحيدة المتوافرة في المنازل لطهي المأكولات وإعداد الخبز البلدي، وكذلك كان يستخدم في عمليات التدفئة خلال الشتاء"، مبينة أنّه "رغم غزو الأجهزة الإلكترونية والحديثة بداخل المجتمع لسهولة استخدامها وأسعارها المتدنية في بعض الأحيان، إلا أنّ فرن الطين القديم ما يزال يقاوم الاندثار، ويحافظ على التواجد في منازل الغزيين، خاصة القرويين منهم، باعتباره جزءاً من عاداتهم وتقاليدهم".

مهنة متوارثة

وفي ساحة خصّصها في منزله، ينهمك مصطفى أبو طير، من سكان بلدة الفخاري شرق خانيونس، جنوب قطاع غزة، في صناعة أفران الطين، في مهنة ورثها عن والده منذ 17عاماً، موضحاً أنّ الإقبال على شراء هذه المواقد القديمة ازداد بشكل متزايد خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، في ظلّ تفاقم أزمة انقطاع الكهرباء بغزة.

اقرأ أيضاً: لماذا أضحى جيل التسعينيات في غزة جيلَ التعساء والمنكوبين؟

وعن كيفية صناعة الأفران الطينية؛ يبيّن أبو طير( 35 عاماً)، خلال حديثه لـ "حفريات"؛ أنّ "البداية تكون ببناء قاعدة خرسانية دائرية الشكل، يبلغ سمكها خمسة سنتيمترات، ومن ثمّ يتمّ إحضار أفضل أنواع الطين الأحمر والقشّ الناعم، المعروف محلياً "بالتبن"، الذي يستخدم كطعام للحيوانات، ويخلط جيداً باستخدام الماء حتى يصبح خليطاً متماسكاً، ومن ثمّ يتمّ بناؤه بأشكال مختلفة نصف دائرية أو مربعة وبأحجام مختلفة، مع ضرورة ترك تجويفين بداخله؛ أحدهما لإيقاد النار والآخر لإعداد الخبز وطهي الطعام".

يتراوح سعر الموقد من 80 إلى 100 شيكل (22 إلى 30 دولاراً أمريكياً)

ولفت أبو طير إلى أنّه "بعد الانتهاء من بناء الفرن يوضَع لمدة خمسة أيام تحت أشعة الشمس حتى يجفّ ويصبح جاهزاً لإعداد الخبز وطهي الطعام"، مشيراً إلى أنّه يبيع شهرياً ما يزيد عن 10 مواقد طينية، ويتراوح سعر الموقد من 80 إلى 100 شيكل (22 إلى 30 دولاراً أمريكياً)؛ حيث تعدّ هذه الصناعة مصدراً أساسياً لدخله لتأمين أدنى متطلبات عائلته المعيشية في ظلّ الظروف الاقتصادية المتردّية".

اقرأ أيضاً: نساء من غزة في صالات كمال الأجسام بحثاً عن الجمال

وتابع بأنّ عمله "لا يقتصر على صناعة الأفران الطينية فقط؛ بل يمتدّ أيضاً إلى صيانة الأفران المهترئة منها، وكذلك صناعة المواقد الطينية الصغيرة، التي تستخدم في شواء اللحوم، والتي تعرف محلياً "بالمندي""، مبيناً أنّ "زبائنه هم من الأغنياء والفقراء؛ فغالبية السكان في غزة مهتمون باقتناء الأفران الطينية، التي تعدّ معلماً تراثياً لكلّ منزل، لمنظرها الجذّاب ومكوّناتها المتواضعة".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية