تصفية حسابات تفصيلية بين مصر وقطر

تصفية حسابات تفصيلية بين مصر وقطر

تصفية حسابات تفصيلية بين مصر وقطر


03/04/2023

محمد أبوالفضل

يمكن فهم المناوشات الإعلامية التي حدثت أخيرا بين مصر وقطر على أنها جزء من تصفية حسابات تفصيلية بين البلدين، حيث دخلا في مصالحة سياسية دسمة من دون تنقية الأجواء تماما وعلاج الأسباب الحقيقية التي أدت إلى التوتر، وارتضى كلاهما القفز على هذه النقطة والدخول مباشرة في تطبيع العلاقات بينهما.

طبقت القاهرة والدوحة الطريقة العربية الشهيرة “عفا الله عما سلف” بلا توقف كبير أمام القضايا التي عكرت الصفو ومحاولة إيجاد سبل العلاج اللازمة، وكان البلدان مدفوعين وقتها بمصالحة عربية دشنتها قمة العلا الخليجية في السعودية، لكنها لم توفر لأي منهما الفرصة للتفكير في اتخاذ الخطوات الوجوبية لعدم تكرار ما حدث.

جرى تجميد الملفات ولم يدخل الطرفان إلى سبل حلها، إذ يعلم كلاهما أن التجاوب مع مطالب إلى آخر يعصف بمصالحة كانت تحبو خطواتها الأولى بعد حوالي سبع سنوات شهدت فيها العلاقات الكثير من ملامح التوتر السياسي والأمني والإعلامي.

وقتها تعاملت الدوحة مع عدم الاستجابة للشروط المصرية على أنه انتصار سياسي، بينما نظرت القاهرة إلى الأمر على أنه تهدئة لطوفان الإعلام وفرملة لعناصر الإخوان وإحكام للسيطرة على جماعات متطرفة على علاقة بالدوحة، وهي مكاسب تمكن مصر من إعادة ترتيب الأوضاع في الداخل بلا منغصات قطرية وأنها لا تريد الانتقام، كما أن الدوحة أبدت رفضا للتخلي عما تملكه من أوراق تدخرها ليوم آخر.

مضت الأمور بوتيرة سريعة ومريبة في التهدئة كجزء من خطة إقليمية، كل طرف يعتقد أنه حقق جزءا من أجندته، وظلت العقد والإشكاليات الرئيسية مؤجلة على أمل أن يطول التأجيل ويدخل عالم النسيان ويجبّ التعاون المشترك ما قبله من سيئات.

كشفت هزة إعلامية حدثت الأيام الماضية عن أهمية ارتكان المصالحة السياسية بين الدول إلى قواعد متينة، وأن تجاهل تسوية العوامل التي أدت إلى التوتر سيقود إلى تفجيره في أي لحظة باستخدام سلاح الإعلام الذي تدعي قطر أنه مستقل مع أنه أهم أسلحتها الفتاكة، ولن تعدم مصر توظيف الحجة نفسها وإن كان إعلامها أقل تأثيرا.

لم تكن العبرة هنا في درجة التأثير، فتوجيه انتقادات من هنا أو هناك يكفي للتدليل على وجود توجيهات رسمية بإعادة الحياة إلى الآلة الإعلامية في البلدين وضخ الدماء في عروقها لتستأنف ما حسب كثيرون أنه جرى تجاوزه.

عادت معزوفة الاتهامات دون أن يتحرك المستوى السياسي في مصر أو قطر، وكأن النغمة التي طفت فجأة تريد التذكير بأن الأزمة لم تنته وأن إمكانية تجددها واردة، في إطار من المناوشات التقليدية، حيث يعتقد كل طرف أن الإعلام أفضل وسيلة لممارسة الابتزاز والوصول إلى الأهداف والحد من تطلعات الطرف الآخر وردعه.

أخطر ما نجم عن تجدد الأزمة، أنه وكما يقال لا توجد عداوات دائمة بل هناك مصالح دائمة، ويمكن عكس العبارة إذ لا توجد مصالح دائمة وهناك عداوات دائمة، فإذا لم تتمكن الدولتان من تسوية الأزمات بينهما من جذورها فسوف يظهر العداء سريعا.

ربما لم تصل العلاقة بين مصر وقطر، وقد لا تصل، إلى المرحلة التي قبعت في ظلها نحو سبع سنوات عجاف، لكن مؤشرات عديدة يمكن أن تعيدها إلى سيرتها السابقة، فكل ما حدث من تجميد أو تسكين يمكن التخلي عنه، وسط حزمة من الهواجس تخيم على حسابات الطرفين، ورهانات ترى أن ثمة فرصة كبيرة في الوصول إلى الأهداف من خلال الهدوء أفضل من التسخين المستمر.

خسر الإعلام في مصر واحدة من معاركه مع الخارج عندما انتقل من تصوير قطر كشيطان إلى ملاك ولم يحافظ على حد معقول من المهنية في حالتي الشيطنة والملائكية، ولذلك عندما ظهرت معالم توتر مؤخرا وعاد الإعلام المصري يمارس دوره في النيل من قطر خسر جزءا مما تبقى في معركة المصداقية.

في حين عندما صعد الإعلام القطري عبر شبكة الجزيرة وأخواتها والمواقع التي تدور في فلكها حيال مصر كانت خسارته أقل نسبيا، لأنه لم يحول شيطنة مصر إلى دولة ملائكية واكتفى بأن غض الطرف عن مسألة الشيطنة من دون تطرق إلى الملائكية، والتي تولدت في خيال بعض المصريين من مجرد كف الأذى عن بلدهم.

احتفظت الدوحة بمساحة للرجعة، تزيد أو تقل أحيانا، لكنها لم تضع كل البيض في سلة التجميد، وكانت من وقت لآخر تنفخ بحذر في بعض الأزمات من منطلق مزاعم تنطق بالتمسك بالمهنية، لكن الأيام أثبتت أنها تريد القبض على العصا من منتصفها.

سعت الدوحة لتبني صيغة مصالحة في إطار جزئي من نقد يساعدها على عدم التخلي عن ماء وجهها أمام المعارضة في مصر، ويمكنها من الحفاظ على دورها السياسي في استحقاقات تنتظر القاهرة، أبرزها انتخابات الرئاسة المصرية المتوقع أن تجرى منتصف العام المقبل.

يصعب أن تحافظ الجزيرة على برودها الإعلامي في محك بحجم انتخابات الرئاسة، وحاولت إحياء سننها في التسخين مبكرا لتعرف حجم الرفض، وقد وصلتها رسالة القاهرة بشكل أشد سخونة، وعرف كل جانب الحدود التي يبلغها والتي يجب أن يتوقف عندها، فقد تعلمت مصر أن أي انتقاد أو تحريض يأتي من قطر ينطق عن الهوى.

يلزم القبول بالدخول في الهدنة كل طرف بالعودة إلى مربعه، وأن السعي لمبارحته سوف يكون وبالا عليهما، ويقود بسهولة إلى فض ما تحقق من تطورات سياسية أو هدم أجزاء رئيسية فيها، فلا تستقيم المصالحة مع المعارك الإعلامية، وإن حدث فهي بداية لعد تنازلي يؤدي إلى الخروج من المسار الذي قبلته القاهرة والدوحة طوعا أو قسرا.

بدا المشهد الإعلامي محاولة لجس النبض والتعرف على حدود القبول والرفض، وتبين أن الانسياق خلفه سيمثل مخاطرة كبيرة للجانبين، إلا إذا ارتضى أحدهما أو كلاهما دخول المغامرة مرة أخرى، وتأكد أن التهدئة غير مجدية لتطلعاته وتجاوزها مسألة ضرورية، فالنتائج التي تمخضت عنها لم تحقق التطلعات المرجوة منها.

يشير الحفاظ على الود الرسمي على أعلى المستويات في البلدين إلى حرص على فض الاشتباك سريعا بين الإعلام، حيث تيقنت قطر أن مصر لن تبلع الانتقادات والاتهامات التي ستوجه لها، وستبادلها بالمثل على الفور، وهو ما يضاعف من أزمة الإعلام القطري وقد يعيد شبكة الجزيرة إلى مشاكساتها التي حققت لها انتشارا واسعا، حيث بدأ ينزوي قليلا مع تراجع معاركها على الساحات العربية.

حققت القناة شهرتها من السخونة التي لجأت إليها، والكف عنها ثبت أنه يمثل خسارة كبيرة للجزيرة كوسيلة إعلامية وقطر كدولة لها أجندة سياسية خاصة بها، ما يعني أن كليهما يتغذى على التوتر، والهدوء بات كابحا لهما.

عن "العرب" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية