تفكيك الخريطة المُربكة للتنظيمات الإسلامية في ليبيا

تفكيك الخريطة المُربكة للتنظيمات الإسلامية في ليبيا


03/05/2020

محمد العربي

يتجاوز تعقيد المشهد الليبي الذي تهيمن عليه الحرب الأهلية المندلعة منذ ٢٠١٤ الانقسام بين حكومة الوفاق بقيادة فائز السراج والجيش الوطنـي الليبـي بقيادة المشير خليفة حفتر. حيث تشهد ليبيا تفاعلات أكثر تركيبًا من مجرد الصراع على إعادة تأسيس السلطة السياسية. ويعبر انتشار الحركات والجماعات الإسلامية عبر البلاد عن تداخل العوامل الفكرية والجغرافية والسكانية، وتلك المتولدة نتيجة استشراء العنف واقتصاد الحرب، فضلاً عن محاولة تدخل القوى الدولية للتأثير على مسارات الصراع القائمة.

تمكنت القبضة الأمنية لنظام القذافى إلى حد بعيد طيلة أربعين عام من تقليل أثر التيارات الإسلامية التـي تصاعد تأثيرها منذ السبعينيات علي الداخل الليبـي. ومع ذلك شهدت البلاد حلقة صراع قصير الأمد بين النظام والجماعة الإسلامية المقاتلة وقوامها مقاتلون ليبيون عرب قاتلوا في صفوف المجاهدين الأفغان. ونجح النظام في القضاء على الجماعة باستخدام القوة المفرطة أثناء مواجهات الجب الأخضر في متتصف التسعينات، واعتقال العديد من المنتمين لها، في الوقت الذي انضم الفارون منها إلى تنظيم القاعدة، وعلى رأسهم أبو يحى الليبـي، أحد منظري القاعدة. وفي ٢٠٠٨، اتجه النظام إلى إجراء مصالحة مع معتقلي الجماعة بعد إجرائهم “مراجعات فكرية” تقتضـي التخلص من الأفكار التكفيرية.

إلا أن اندلاع التمرد المدعوم إقليميًّا ودوليًا ضد النظام في فبراير ٢٠١١، منح هؤلاء فرصة للعودة إلى “ميدان الجهاد” وانخرط الكثير منهم في المليشيات المقاتلة ضد النظام، وعلى رأسهم عبد الحكيم بلحاج الذي سرعان ما ترأس المجلس العسكري لمدينة طرابلس. إلا أن الجماعة لم تعد إلى عنوانها القديم، وتشعب المنتمون لها بين جماعة أنصار الشريعة التـي أعلنت ولاءها للقاعدة، وأدت غارتها على السفارة الأمريكية ببنـي غازي في ٢٠١٢، إلى تنبيه العالم إلى تصاعد المخاطر الجهادية في ليبيا في ظل تعثر عملية الانتقال السياسـي. كما انبثق عن الحرب حزبان، هما حزب الوطن بقيادة عبد الحكيم بلحاج وحزب الأمة الوسط بزعامة سامي السعدي، في الوقت الذي برز فيه اسم تيار الإخوان المسلمين المدعوم إقليميًا من حزب البناء والعدالة. ولم تحقق هذه الأحزاب وغيرها أية نجاحات سياسية بسبب ضعف قاعدتها الانتخابية والاجتماعية. إلا أنها امتلكت القدرة في التأثير على مجريات الأمور بسبب خبراتها القتالية، والدعم الخارجي الذي تلقته. وكان إصرار المنتمين إلى هذا التيار في الحفاظ على بنية السلطة، ورفض نتائج انتخابات المجلس التشريعي في مارس ٢٠١٤، هي الشرارة التـي أطلقت الحرب الأهلية الدائرة رحاها حاليًا.

منذ ذلك الحين، تعقدت خريطة الحركات والتنظيمات الإسلامية في ليبيا، وأصبحت أكثر إرباكًا للمراقبين مع تضافر العوامل المحلية والإقليمية في تعقيد الوضع على الأرض. نستعرض في هذا التقرير أهم التيارات المشكلة للمشهد الإسلاموي في ليبيا، وعوامل التداخل والتركيب في هذا المشهد.

القوة المتصاعدة للسلفية المدخلية:
من غير المعروف على وجه التحديد لمن ستكون الغلبة في الصراع السياسـي والعسكري في ليبيا، إلا أنه من المؤكد أن ليبيا التـي ستخرج من ركام الحرب الأهلية ستخضع للتأثير المتزايد للحركة السلفية المدخلية شرقًا وغربًا. يعبر هذا التأثير المتصاعد للحركة السلفية المدخلية، نسبة إلى الداعية السعودي ربيع بن هادي المدخلي، عن حقيقة أن الصراع في ليبيا يتجاوز ثنائية الصراع بين “الجيش المدني” و”التيار الإسلامي”، فالحركة متغلغلة على خطوط الصراع المختلفة ويناصر الجزء الأكبر منها الجيش الوطنـي، فيما يعمل جز ء آخر مع حكومة الوفاق وإسلامييها ضمن حالة التشظي العام.

لن يقتصر تأثير السلفية المدخلية على النقاشات المعتادة حول دور الدين في المجتمع وحدود المجتمع المدني وطبيعة دور المرأة وحرية الاختلاف الثقافي والفكري، على الأرجح أيضًا سيكون للحركة نفوذ واضح في وضع القطاع الأمنـي، الجيش والشرطة والاستخبارات، نظرًا لدور المداخلة الفعال عسكريًّا على في جبهتي الصراع.

يعود تأثير السلفية المدخلية المتصاعد في ليبيا إلى عدة عوامل، منها، الدعم الذي تلقاه أفراد الحركة من نظام القذافي منذ التسعينات لمحابهة نفوذ جماعات الإسلام السياسـي، خاصة الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، وكذلك التكوين القبلي للمجتمع الليبـي الذي يتلاقى في بعض أجزائه مع الاعتقاد المدخلي الجامي بضرورة طاعة ولاة الأمر الشرعيين أولى القوى، وإن كانت السلفية المدخلية تتعارض مع النزعة الصوفية العميقة الواضحة في المجتمع الليبـي. لذا، كان التحالف بين السلفية المدخلية وقوات الجيش الوطني طبيعيًّا على خلفية صعود تأثير جماعة الإخوان المسلمين والحركات الجهادية خاصة تلك المرتبطة بتنظيم القاعدة وداعش. وكان اغتيال العقيد كمال بظاظا المنتمي إلى التيار والمسؤول بإدارة الأمن ببنغازي في العام ٢٠١٤ على منتمين للإسلام السياسـي في الوقت الذي تزايدت فيه عمليات اغتيال الضباط السابقين بالجيش الليبـي إيذانًا بالتحالف بين الطرفين، وبعمل القوات التابعة للسلفية المدخلية تحت مظلة عملية الكرامة.

انضم سلفيو بنغازي في البداية إلى قوات الصاعقة التـي قادت تطهير المدينة من الجهاديين، إلا أنهم شكلوا القوات الخاصة بهم الموالية للمشير حفتر، ومن الملاحظ زيادة تأثيرهم في خطاب الجيش الوطنـي، وكذلك سيطرتهم على المؤسسات الدينية في شرق ليبيا. وعلى الرغم محاولات تهميش وجودهم، لدعم سردية الجيش المدني بقيادة حفتر في مقابل المقاتلين الإسلاميين الموالين للوفاق في الغرب، تعتبر مقاتلي السلفية المدخلية قوة برية ضاربة للجيش الوطنـي حيث نجحت في ضم مناطق واسعة لسيطرة حكومة طبرق حيث استطاعت أن تستولي على الجفرة مركز القاعدة الجوية للجيش في وسط ليبيا، وعلى مناطق واسعة من فزان في بداية العام ٢٠١٩.

تتمثل أهم كتائب السلفية المدخلية في كتيبة التوحيد ذات الدور البارز في عمليات بنغازي، وأسسها القيادي السلفي أشرف الميار، وتعرف حاليا بالكتيبة ٢١٠ مشاة بعد تفكيكها وإعادة إدماجها بعد محاولة من المشير حفتر نزع الطابع الدينـي عنها. أما لواء طارق بن زياد، فقد التحق بحملة الجيش الوطنـي على سبها (مارس ٢٠١٨)، وعلى فزان في يناير ٢٠١٩. وتسيطر السلفية المدخلية على الكتيبة ٣٠٢ بقوات الصاعقة، ويقودها محمد القابسـي من أجدابيا، وعلى القوات الخاصة البحرية كذلك . وتتحدث تقارير عن انقسام داخل دائرة ضباط الجيش الليبـي حول ضرورة تحجيم أثر السلفية المدخلية في العموم، إلا أن الاتجاه الحالي، خاصة مع احتدام معركة طرابلس منذ أبريل الماضـي يتجه نحو ضرورة الحفاظ على التحالف معهم.

في الغرب، تتمثل أهم تنظمات السلفية المدخلية في قوة الردع الخاصة التـي تأتي على رأس مليشيات طرابلس. تأسست القوة في منطقة سوق الجمعة ويقودها عبد الرؤوف كارة المعروف ب”الشيخ الملازم” نظرًا لارتباط المجموعة بتيار السلفية المدخلية. وارتبطت اسم المجموعة بمكافحة الجريمة وعمليات التهريب والجماعات الجهادية وتجارة المخدرات والخمور والسيطرة على السجون. لم تتحالف المجموعة مع تيار الإسلام السياسـي الذي سيطر على المدينة بعد انتقال مجلس النواب إلى طبرق، بل أصبحت مع عداء مع مفتـي الجماعات الإسلامية المعزول صالح الغرياني. وتسيطر المجموعة على منشآت حيوية أهمها مطار معيتيقة. حاولت حكومة الوفاق ربط المجموعة، التي يبلغ حجمها ١٥٠٠ مقاتل، بوزارة الداخلية، إلا أنها رفضت الانخراط في الحرب ضد قوات الجيش الوطنـي حتى يوليو ٢٠١٩. واشتبكت عناصر منها مع قوات الجيش في المعركة الأخيرة حول طرابلس. ومع تصاعد وتيرة التدخل التركي، اتهمت قيادة الجيش المجموعة بالتخلي عن مطار معيتيقة لصالح الأتراك.

إسلاميو الغرب المتحالفون مع حكومة الوفاق
وهو تيار إسلامي واسع التأثير تغيرت نواته عبر سنوات الحرب الأهلية. تمثل هذا التيار بداية من يوليو ٢٠١٤ في قوات ما يعرف بفجر ليبيا التـي كان تمردها على سلطة البرلمان المدني المنتخب والذي انسحب إلى مدينة طبرق في الشرق، بداية الحرب الأهلية التـي تدور رحاها حاليًا. يغلب على هذا التيار الانتماء إلى “الإخوان المسلمين”. وعلى الرغم من ضعف تأِثير الجماعة على سائر المجتمع الليبـي، إلا أن الإطاحة بنظام القذافي، واقتراب الجماعة أكثر من الرعاية القطرية التركية، وارتباطها بخطوط اللعبة الإقليمية ساهم في تضخيم دورها في الداخل الليبـي. حاليًا، تعبر مليشيات مصراتة، والمليشيات المسيطرة على مفاصل الحركة في طرابلس عن هذا التيار. إلا أن المؤشرات تتضارب حول حقيقة “الانتماء” الإسلاموي لمعظم هذه المليشيات خاصة مع تشظيها، وعدم وجود انتماء “أيديولوجي” واضح لحكومة الوفاق التـي يقاتلون من خلفها. والأهم في هذا الصدد هو ارتباط معظم هذه المليشيات بأنشطة اقتصاد الحرب التـي ترتكز على أنشطة التهريب وفرض الإتاوات.

مليشيات مصراتة
استطاعت مصراتة أن تجعل من نفسها بعد إسقاط نظام القذافي أقوى مدينة في غرب ليبيا، وتسيطر عناصرها السياسية والعسكرية على مفاصل العاصمة. حيث طورت المدينة في عهد القذافي برجوازية تجارية صناعية معتبرة. وفي أعقاب سقوط النظام تحولت لملاذ التنظميات الإسلامية ذات العلاقات السياسية والمالية القوية بتركيا وقطر. ومع الانقسام السياسـي الذي تلى سقوط حكومة المؤتمر الوطنـي، وإطلاق عملية فجر ليبيا، أصبحت المدينة هي مركز الثقل السياسـي في الغرب الذي يناصب حكومة طبرق وعملية الكرامة العداء. وعلى العكس من مدن الغرب والشرق التـي تضررت الحياة والتجارة فيها بسبب الفوضـى الأمنية والسياسية، ازدهرت مصراتة تجاريًّا. تحتوي مصراتة على العديد من المليشيات التـي تتراوح بين تلك المتطرفة والمعتدلة، إلا أنها تسعى للإبقاء على مصراتة كـ”مدينة دولة” تسيطر علي طرابلس من خلال شخصيات مثل فتحي باشأغا وزير داخلية الوفاق الحالي ومحمد حداد آمر لواء الحلبوص السابق وقائد المنطقة المركزية. كما تتمتع مصراتة بوجود قاعدة جوية بكلية الطيران المدني، ومنها انطلقت ضربات الطائرات المسيرة ضد الجيش الوطني وبعض المواقع بطرابلس في المعركة الأخيرة.

لا يوجد إحصاء دقيق لعدد مليشيات مصراتة، خاصة أن العديد منها يعمل في طرابلس ويتداخل مع المليشيات المذكورة أعلاه، ولكن يقدر حجم قوات مصراتة ب١٨٠٠٠ مقاتل يتوزعون على مليشيات مختلفة أبرزها:

البنيان المرصوص: وهي أكبر مليشيات مصراتة وتتحدث تقارير عن وجود ٦٠٠٠ مقاتل في صفوفها. واسميًّا تخضع لقيادة المنطقة المركزية في طرابلس، ويقودها اللواء بشير القاضـي، وكان نشاطها يمتد من سرت إلى طرابلس ومصراتة.

لواء المحجوب: ويتشكل من حوالي ٨٠٠ مقاتل من ضواحي مصراتة، وكان له دور فاعل في طرد تنظيم داعش من سرت في ٢٠١٦.

الكتيبة ١٦٦: وشاركت سابقًا في القتال ضد تنظيم الدولة، وهي مسلحة جيدًا وتعمل تحت قيادة الأركان بطرابلس.

كتائب الصمود: ويقودها صلاح البادي منذ ٢٠١٥. ويعرف بادي بطموحه السياسـي وتغير ولائه بين جهات عديدة؛ إلا أن توجهاته الإسلامية واضحة حيث كان من أكبر الرافضين لانتخابات ٢٠١٤ التـي أطاحت بالإسلاميين، وشكل كتائب الصمود في ٢٠١٥ لتعمل لصالح حكومة الإنقاذ الوطني  تحت قيادة الإخواني خليفة الغويل. ونجحت مليشيات الوفاق في طرد قوات بادي من المدينة في ٢٠١٧، وهو ما دفعه للتحالف مع عشيرة الكانيات بترهونة لاستعادة العاصمة، إلا أنه هزم، واضطر لتغير ولاءه لصالح حكومة الوفاق.

أما بالنسبة لـ”مليشيات طرابلس” التـي تعمل “تكتيكيًّا” مع مليشيات مصراتة للدفاع عن طرابلس وحكومة الوفاق، فيتمثل أبرزها في:

لواء النواصـي: ويقوده مصطفى قدور، وارتبط اسمه بتأمين وصول حكومة الوفاق من تونس إلى طرابلس في مارس ٢٠١٦. ويعمل اللواء كوحدة أمن ومخابرات خاصة، ويبلغ تعداد مقاتليه ٧٠٠ مقاتل، ويرتكز في منطقة أبو ستة بالقرب من ميناء طرابلس، وهو مقر حكومة الوفاق. وكان وزير الداخلية السابق عبد السلام عاشور قد نجح في إلحاق اللواء اسميًا بوزارة الداخلية. إلا أن التقارير تتحدث عن نشاط اللواء في عمليات التهريب والنهب ضمن عمليات ما يسمى ب”كارتل طرابلس” حيث يسيطر على مواقع التفتيش، إلى جانب حصوله على اعتمادات مالية من مصرف ليبيا المركزي. وتتحدث تقارير أخرى عن التحاق هاربين من “مجاهدي درنة” بالتنظيم.

كتيبة ثوار طرابلس: وتعود جذورها إلى التمرد المسلح على نظام القذافي في ٢٠١١. تتركز الكتيبة في منطقة سوق الجمعة، وتسيطر على مناطق تواجد الوزارات والشركات المملوكة للحكومة بشرق طرابلس، وهو ما يسهل حصولها على نصيب وافر من “الإتاوات”، وهو ما يجعلها من أكثر المليشيات تأثيرًا على الأرض. ويبرز اسم هيثم التاجوري كآمر للكتيبة، ويعتبر من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في طرابلس. وقد انضم للكتيبة مقاتلون من جبل نفوسة ونالوت.

الكتيبة ٣٠١: واشتهرت سابقًا باسم لواء الحلبوص، وهي حاليا تتبع الأركان العامة لوزارة دفاع الوفاق ويقودها عبد السلام الزوبي. وتسيطر عناصر مصراتة على الكتيبة وتنتشر في جنوب وغرب طرابلس، ويبلغ تعدادها ١٥٠٠ مقاتل. وتعتبر الكتيبة من أهم الكتائب المقاتلة في المعركة الحالية حول طرابلس وأكثرها تعدادًا وتجهيزًا حيث تلقت الدعم الخارجي من تركيا. وكان قائدها السابق محمد الحداد، والمكلف من قبل السراج بقيادة المنطقة العسكرية الوسطـى، قد تعرض للاحتطاف في مصراتة، قبل أن يظهر مرة أخرى مع شن الجيش الليبـي عملية “طوفان الكرامة” في أبريل الماضـي.

اللجنة الأمنية بأبو سليم: وهي مليشيات “غنيوة” عبد الغني الككلي، وكانت أحد أهم عناصر عملية فجر ليبيا التـي قادتها التنظيمات الإسلامية في طرابلس، واستهدفت بالأساس طرد كتائب ثوار الزنتان (القعقاع والصواعق والمدني) من طرابلس، بعد أن أعلنت الأخيرة تأييدها لعملية الكرامة التـي أطلقها اللواء حفتر في أبريل ٢٠١٤، وأدت هذه العملية إلى تدمير مطار طرابلس الدولي وإيقافه عن العمل حتـى اليوم، لتتحول حركة الملاحة إلى مطار معيتيقة ومطار مصراتة. يبلغ حجم هذه المليشيا ذات التوجهات الإسلامية حوالي ٧٠٠ مقاتل، وتتركز في منطقة أبو سليم جنوب طرابلس، وتنتسب اسميا لوزارة داخلية الوفاق.

تمثل كتائب الزنتان التـي تتوحد حول مجلس الزنتان العسكري بقيادة أسامة الجويلي وعماد طرابلسـي، القيادة العسكرية الفعلية الموكلة لها التنسيق بين هذه المليشيات والتنظميات خاصة مع احتدام معركة طرابلس منذ أبريل ٢٠١٩. وتعرف هذه الكتائب بعدم انتمائها الأيديولوجي وقوة انتمائها الجهوي. وهو ما يضيف بعدًا آخر لتركيب المشهد الليبـي، الذي يلعب فيه الولاء للمدينة دورًا كبيرًا.

تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا
بدأ ظهور التنظيم في ليبيا بالتزامن مع صعود نجم التنظيم الأم في العراق والشام. وشق كبير من جهاديو التنظيم في ليبيا مقاتلون أجانب، حيث تم استغلال الانشقاق السائدة لتأسيس إمارة إسلامية في ليبيا، وتمكن التنظيم من السيطرة على مدينة سرت ذات الأهمية الاستراتيجية؛ إلا أن طرد التنظيم من المدينة في ديسمبر ٢٠١٦، على يد القوات التابعة لحكومة الوفاق، أدى إلى تراجع كبيرفي قدرته على الحشد، وتحوله إلى خلايا صغيرة تبحث عن مواطئ قدم لها في الجنوب، وهو ما عرض هذه الخلايا لعمليات ملاحقة من قبل الجيش الوطنـي الليبـي، باستخدام قوات قوامها عناصر من السلفية المدخلية والتنظيمات القبلية المحلية.

ومع ذلك، لم تعن هذه العمليات، التـي جذبت أيضًا تدخلاً ودعمًا من بعض الدول الغربية خاصة الولايات المتحدة التـي أسندت قوات الوفاق جويًا في عملية سرت، وفرنسا التـي تدعم قوات الجيش الوطنـي في الجنوب، حرصًا منها عى قطع الصلات بين مجاهدي ليبيا، والتنظميات الإسلامية في الساحل الأفريقي، لم تعن نهاية وجود التنظيم في ليبيا؛ حيث أعلن مسؤوليته عن العديد من الهجمات المسلحة ضد المدنيين خلال الثلاث سنوات التـي تلت سقوط سرت، وقام بعمليات خطف، ونصب نقاط تفتيش حول الطرق المؤدية إلى سبها والجفرة.

بشكل عام، أصبح تنظيم الدولة في ليبيا يعاني من ضعف شديد وتشتت في بنتيه التنظيمية وموارده، بسبب انقطاع خطوط اتصاله مع التنظيم الأم الذي تعرض للتصفية في سوريا والعراق بين العامين ٢٠١٧ و٢٠١٩. كذلك تمكن الدول المجاورة لليبيا، والجيش الليبـي، من قطع السبيل أمام المقاتلين الأجانب خاصة القادمين من تونس ومصر للانضمام إلى التنظيم، فضلاً عن معاناة التنظيم من أزمات تمويلية مع ابتعاده عن الشمال الغنـي بالموارد النفطية، ونجاح القوات المناوئة له من تجفيف مصادر التمويل من فرض ضرائب على شبكات التهريب عبر الصحراء وجمع الفدى من عمليات الخطف.

إلا أن خطر عودة السلفية الجهادية إلى الواجهة مرة أخرى في ليبيا لم يعد يأت من ممثلي تنظيم الدولة مباشرة بل من خلال التدخل التركي لإنقاذ حكومة الوفاق.

جهاديو تركيا في ليبيا
يمثل المقاتلون السوريون المتحالفون مع أنقرة أحد ركائز تركيا في التدخل المنظم في ليبيا، بعد توقيع اتفاقي التعاون الأمنـي وترسيم الحدود البحرية مع حكومة السراج في ديسمبر الماضـي. بلغ عدد هؤلاء المقاتلين منذ مطلع العام الجاري حتـى وقت كتابة التقرير حوالي ٤٧٠٠ مقاتل، بالإضافة إلى ٢٠٠٠ مقاتل في طور تلقي التدريب في أنقرة. ينتمـي هؤلاء المرتزقة إلى جماعات سلفية جهادية قاتلت مسبقًا مع أنقرة ضد الجيش السوري والقوات الكردية في شمالي سوريا. بعضهم انتمى سابقًا إلى “جبهة النصرة” وربما “داعش” ومن بينهم منتمون إلى جماعات أصغر مثل “لواء صقور الشمال” و”فرقة السلطان مراد” و”الحمزات” و”سليمان شاه” وغيرها.

أثار هذا التدخل وتدفق المجاهدين الأصوليين المخاوف من منح “داعش” و”القاعدة” فرصة جديدة لتوسيع وجودها في ليبيا، من خلال توسيع القاعدة الجهادية من المقاتلين الأجانب، أو تقوية الفصائل الإسلامية الأصولية في الائتلاف المقاتل مع حكومة الوفاق. إلا أن هذا الاحتمال يبقى غير أكيد لأسباب عديدة. فمن ناحية، سرعان ما اتضح العبء الذي يمثله هؤلاء المقاتلون على كل من حكومة الوفاق، التـي تتعرض صورتها للتآكل باعتبارها حكومة معترف بها دوليًّا ومضطرة للتعامل مع منتمين لجماعات أصولية وإرهابية، وحكومة أنقرة. كذلك اتضاح عدم كفاءة هؤلاء المقاتلين، زهيدي التكاليف، على أرض المعارك في ليبيا، مع زيادة عدد القتلى والمصابين منههم، وعدم قدرتهم على تغيير موازين القوة على الأرض إلا قليلاً. فضلاً عن وجود تقارير عن تبرم بعض هؤلاء المقاتلين نتيجة عدم حصولهم على مستحقاتهم، وعودتهم إلى تركيا. من ناحية أخرى، تبدو الغالبية العظمى من الشعب الليبـي، خارج نطاق التنظمات سالفة الذكر المتحالفة مع أنقرة، غير راغبة في وجود هؤلاء المقاتلين الذين ينظر إليهم كأدوات لاحتلال تركي جديد.

ومع ذلك، يبقى هذا الخطر قائمًا، وربما يتحول إلى تهديد إلى دول الجوار الليبـي خاصة تونس والجزائر ومصر. خاصة مع فشل المجتمع الدولي، في مؤتمر برلين (١٩ يناير الماضـي) ومساراته، عن وقف تدفق المقاتلين والأسلحة إلى ليبيا. وهو ما يعنـي ضرورة تكاتفها لدرء التدخل التركي، والدفع نحو الوصول إلى حل ينهي الحرب الأهلية ويستوعب كافة مكونات الشعب الليبـي.

خاتمة
هناك قصور في القراءة الأيديولوجية لخريطة الحركات الإسلامية في ليبيا، فالتنظمات الإسلامية لا تنتمى  إلى طيف واحد وهناك تشظي في وسط التيار الواحد، فضلاً عن ضعف التقاليد الفكرية المؤسسة للحالة الإسلامية في ليبيا، بسبب سياسات نظام القذافى غير المتسامحة مع هذه الحركات في طورها الأول، والطبيعة المحافظة التقليدية للمجتمع الليبـي؛ أي الانتماء للقبيلة والمدينة في مقابل الانتماء للهياكل التنظمية الأيديولوجية.

كذلك يصعب فهم هذه الحركات بعيدًا عن حالة العنف واقتصاد الحرب السائدين في البلاد منذ العام ٢٠١١. فكثير من هذه الحركات والتنظمات أصبح لها دوافع للانخراط في الصراع تتجاوز مجرد التأثير الفكري أو السيطرة على المجتمع أو إقامة مجتمع الشريعة، حيث ينخرط الكثير منها في عمليات التهريب وفرض الضرائب على الجماعات المحلية، والنهب. ويرتبط بهذه الصعوبة وجود سيولة في تصنيف وتحديد انتماءات العديد من الجماعات المقاتلة في ليبيا، إذ أن خطاب المواجهة يستدعي خطابًا دينيًّا يناسب حالة الاستقطاب والصدام، ويساعد على الحشد وجذب التأييد.

من ناحية أخرى، ينبغي للمتعاطين مع الحالة الليبية إدراك أن كثيرًا من هذه الحركات تعبر عن حساسيات ومصالح واسعة ومركبة في المجتمع الليبـي على اتساعه الجغرافي وامتداده السكاني، لذا من الصعب إخراجه من أية معادلة للحل السياسـي، على سبيل المثال التأثير المتصاعد للسلفية المدخلية. مع ضرورة توجيه الجهد لتحييد وطرد جماعات تنظيم الدولة والقاعدة والمقاتلين الأجانب المرتبطين بالمصالح الأجنبية.

عن "مركز الإنذار المبكر"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية