صراع بين ولاية الفقيه والتّصوّف... الهروب من دين السّياسة إلى دين الرّوح

صراع بين ولاية الفقيه والتّصوّف... الهروب من دين السّياسة إلى دين الرّوح

صراع بين ولاية الفقيه والتّصوّف... الهروب من دين السّياسة إلى دين الرّوح


19/06/2023

يوسف بدر

دائماً ما يأتيني هذا السؤال: لماذا يضطهد النظام في إيران الجماعات الصوفية ويعتقل زعماءها ويهدم تكاياها وحسينياتها ومساجدها وأضرحتها؛ بينما كان الإمام الخميني نفسه، مؤسس الجمهورية الإسلامية له أشعار صوفية، كما أن التاريخ السياسي والحضاري لإيران يشهد أن المتصوفة ساهموا في تشكيله أيضاً؟!

والإجابة، وإن كانت تبدو بسيطة؛ لكنها في حاجة إلى تفصيل وحديث يجمع ما بين القديم والحديث؛ ولذلك علينا أن نَفصلَ أولاً بين اصطلاحين، هما العرفان والتصوف! وإن كان الفصل بينهما أيضاً يشوبه الكثير من الخلاف والتداخل!

فإن العرفان يتلخص في المعرفة الباطنية التي مصدرها فيض نور الله على القلب، أما التصوف فإنه لا يخلو من ذلك؛ لكنه يحتاج إلى الطريقة من أجل بلوغ هذه المعرفة. 

وهنا تبدأ المشكلة، فالنظام الإيراني الذي تشكلَ بعد ثورة 1979 وأسس الجمهورية الإسلامية على مبدأ نظرية "ولاية الفقيه"، يقلق من أي قراءة قد تعارض تفسيره للدين والإسلام، بخاصة أن الحوزات العلمية الدينية في إيران دارت في فلك هذه النظرية؛ فوجدنا معظم المُفسرين وعلماء الكلام والفلسفة يعيدون قراءة اللاهوت الشيعي بما يجعل من نظرية ولاية الفقيه والمهدوية الأساسَ لحركة الجمهورية الإسلامية نحو مستقبلها، وهنا يقلق النظام من ظهور مدارس دينية موازية قد تهدم منظومة الأفكار الدينية الرسمية وشبه الرسمية التي رسخها في المجتمع.

وبناءً على ذلك، لم نجد النظام يطارد "المفهوم النظري" للعرفان أو التصوف؛ لأن كليهما من مكوّنات الحضارة الفارسية بعد الإسلام، بوصفهما جانباً من الفلسفة الإسلامية؛ لكنه عارض "الجانب العملي" منهما، باسم حماية الشريعة وطريقة أئمة آل البيت في العمل بالواجبات وتجنب المحرمات من خلال النصوص الشرعية التي مصدرها القرآن والحديث وتفسيرات الأئمة لهما؛ فقد كان يقلق من تفسيرات أهل العرفان والتصوف التي تهدم مفهوم "الإسلام السياسي"، ويعتبر أنهما بنصوصهما الخاصة من أوراد وتفسيرات باطنية، يمثلان جانباً معارضاً للإسلام والشريعة!

ولذلك أمام إشكالية التداخل بين التشيع والتصوف والتاريخ الطويل لجذور التصوف في المكوّن الحضاري الإسلامي الفارسي؛ نجد إعلام النظام يضع فاصلاً بين مفهوم "العارف" و"الدرويش"، حينما يوجه سهام نقده نحو الصوفية وطُرقهم، الذين يَصفهم بالدراويش.

نقطة أخرى، وهي أن التشيع مثل أي جماعة دينية أخرى، قد ارتبط بسياقات تاريخية اجتماعية وسياسية وفكرية؛ ومنْ ثمَّ، فإن عقيدة "التولي والتبري" لدى الشيعة الإمامية من بعض الصحابة أو الحُكام، التي مثلتْ جانباً عقائدياً وسياسياً لديهم؛ مهددةٌ بالتقويض من جانب التفسير العرفاني أو الصوفي للدين، الذي يبحث عن العشق والحب بدلاً من الصراع السياسي والإنساني. 

ولذلك نجد في إيران، أن أوج صعود الجماعات الصوفية وانتشارها كان بمثابة رد فعل عكسي خلال العصور التي شهدت صراعات سياسية مليئة بالقتل والدم، مثل العصر السلجوقي أو المُغولي أو التيموري.

وهذا نفسه ما يقلق منه النظام الحالي؛ فإن عقيدة "التولي والتبري" التي وُظّفت ضد أعداء النظام باسم البراءة من أعداء آل البيت، والتي تمثل جانباً مهماً في تعبئة الشارع وراء هذا النظام؛ حيث تخرج التظاهرات وهي ترفع شعارات مثل "الموت لأميركا"، "الموت لإسرائيل"! يقضي المتصوفة عليها الآن؛ لأنه لا يشغلهم الصراع السياسي بقدر ما يشغلهم تجاهله والبحث عن السلام الداخلي والطمأنينة.

كذلك، مسألة "التولي" تمثل نقطة قلق أخرى لدى النظام؛ فإن الصوفي يبدي ولاءه لشيخ طريقته، ويتجاهل الولاء للولي الفقيه (المرشد الأعلى)، الذي فرضته منظومة الجمهورية الإسلامية؛ وهنا يتعامل النظام مع الجماعات الصوفية بوصفها جماعة معارضة أو متمردة؛ بينما واقعياً هي آثرت العزلة السياسية على الانخراط في صراعاتها.

بحثاً عن بديل!

تعامل النظام الإيراني مع نظرية ولاية الفقيه بوصفها نظرية أبدية حتى ظهور الإمام الثاني عشر الغائب (المهدي المنتظر)؛ بينما تمضي حركة المجتمعات على مدار التاريخ - في جانب من تفسيراتها - وفق الحركة الجدلية؛ فالجيل الجديد من الإيرانيين يبحث عن وجه جديد معارض لشكل النظام الحالي، الذي يتهمه بالسبب الأول في كل ما آلت إليه الأمور من سوء ووضع لا يعبر عن تطلعات المستقبل؛ ولذلك نجد جانباً من هذا الجيل قد ذهب إلى الإلحاد وآخر قد ذهب إلى أديان معاصرة بديلة أو إلى أديان فارسية قديمة أو إلى التصوف، بوصفها تحقق له الاطمئنان الروحي والداخلي على عكس الإلحاد، كما تمنحه الشعور بالتحرر من قيود السلطة الدينية السياسية (حكومة ولاية الفقيه)، وتعاليم الفقهاء الجافة والصارمة؛ فإن "النظام الأبوي" داخل الجماعة الصوفية أحياناً يقتصر على الجانب الروحي والأخلاقي وتأكيد جانب المحبة والسلام واحترام كل الأديان والمذاهب.

واستنتاجاً، فإن مَن اختاروا الارتباط بالتصوف في إيران؛ اختاروا الهروب من دين السياسية إلى دين الروح؛ ولذلك فإن تفسيرنا للحركة الصوفية على أنها مجرد مؤامرة دون البحث عن أسبابها ودوافعها يمثل نوعاً من الهروب من المسؤولية وإنكار للمشكلة، وهذا ما فعله المرشد الأعلى علي خامنئي الذي قال في فتوى له: "لا يجوز الاشتراك في مجالس الصوفية والقيام بأعمالهم من ذكرٍ والحضور في خانقاههم، ومَن يؤمن بأوامر ونواهي القرآن الكريم ويعتقد بالإمامة، يجب ألا ينضوي تحت جماعة خاصة!"، بينما على أرض الواقع، وإن كانت ليست هناك إحصائيات رسمية، فإن هناك جماعات صوفية كثيرة يتبعها الملايين من الإيرانيين، أشهرها الجنابادية (النعمة إلهيه) والذهبية وأهل الحق والخاكسارية. 

وكذلك نجد التصوف يقدم نفسه حلاً لمواطني الإثنيات التي تقع بين سندان المعارضة ومطرقة السلطة، مثلما نجد في المناطق الكُردية التي تنتشر فيها الحركات السياسية المعارضة والمسلحة في مواجهة السلطة المركزية في طهران؛ إذ يمثل التصوف ملاذاً آمناً لأهالي هذه المناطق، حيث يعزز من وحدتهم القبلية بعيداً من الصراع السياسي أو العرقي؛ فعلى سبيل المثال، نجد في إقليم كرمانشاه الكُردي جماعة اليارسانية أو الكاكائية أو أهل الحق، يمثل التصوف لهم سبيلاً للممارسات القبلية الجماعية من قبيل الغناء والعزف الجماعي في احتفالات ومناسبات آل البيت؛ بشكل يخالف الطريقة التي رسمتها السلطة المركزية في طهران. 

وجه آخر للمعنوي!

في وجه ما شهده الإنسان من تسلط باسم الجماعة؛ كانت هناك حالة نزوح نحو الليبرالية، وهو ما امتد إلى الدين والمعتقد أيضاً؛ ففي ظل التوجه نحو الحريات الفردانية والبحث عن دين مشترك جديد يحترم التعددية الدينية (Religious pluralism) وبالتالي التعددية الثقافية والعرقية؛ لم يعد من السهل أن يتقبل أبناء الجيل الجديد قيود الجماعة الدينية التي تلغي إرادته أو تقضي على نزعته المادية، أو تدفعه إلى الصراع مع الآخر ورفض التعايش معه. وهو ما أدى إلى ظهور وجه آخر للجماعة الروحية في إيران، تمثلَ في الحلقات الروحية التي لا يلتزم فيها الفرد بتقاليد السلوك الصوفي وأوامره وقواعده وضوابطه؛ بل فقط هو يذهب إلى الحلقة الروحانية لتفريغ ما يحمله من طاقة سلبية أو ليملأ روحه بنوع من الطاقة المعنوية، فنجد أنه في إيران تنتشر مراكز العلاج بالطاقة، مثل فن الريكي واليوغا والأيورفيدا وتعاليم أوشو والتنويم المغناطيسي وجلسات التأمل والعلاج بدق الوشم، إلى جانب أشكال جديدة من التصوف الجديد، مثل جماعة عرفان الحلقة أو الشعور الكوني (عرفان حلقه/شعور كيهاني) التي أسسها الإيراني محمد علي طاهري، وتنتشر في العديد من المدن الإيرانية، وأيضاً جماعة برنامج الـ12 خطوة التي تشبه جلسات الاعتراف للعلاج النفسي في المجتمعات الأوروبية.

وهي بالفعل لا تخلو من الاستغلال المادي؛ لأنها نتاج هيمنة معايير الرأسمالية والليبرالية على العالم، الذي إيران جزء منه؛ لكن طبيعة النظام الحاكم أيضاً هي سبب مباشر لبحث الأجيال الجديدة عن مصدر معنوي جديد بعيداً من المصادر الرسمية التي يتبناها هذا النظام، بعدما عانت تسلطه وهيمنة رجال دينه.

معظم الجيل الجديد، وبسبب يأسه من المستقبل؛ ليس من السهل أن يتقبل الأفكار الدينية التقليدية بوصفها طريقاً للأمل والمستقبل، فقد تربى في عالم مادي، ولن يُسلم للواجبات الدينية ما دام يشعر أنها غير فعالة في حياته الدنيوية. 

ولذلك عندما يلجأ إلى الأشكال الجديدة من الدين أو العرفان؛ فإنه يهرب من مبدأ الالتزام، فهو لا يتحرك على غرار ما أسس الصوفية القدماء أمثال مولانا الرومي بالصعود رأساً نحو السماء (الإله الواحد)، بل يتحرك في مسار أفقي تكون فيه "نفسه" أساس وجهته، فهو لا يسعى إلى مكان خارج الأرض، وهدفه من أشكال العرفان الجديدة هي معرفة نفسه معرفةً أفضل، أو منحها الطمأنية وإن كان حتى ملحداً.

عن "النهار" العربي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية