علاقات تركيا مع السودان: تاريخ من الاستغلال

السودان

علاقات تركيا مع السودان: تاريخ من الاستغلال


13/01/2020

ما من سوداني -عدا الإخوان المسلمين ومن يحملون فكرهم- ينظر إلى تركيا بغيرِ ريبة وشك، فالسودانيون بقيادة محمد أحمد المهدي كانوا المبادرين بين رفاقهم ممن كانوا تحت الاحتلال العُثماني على مقاومتهم ودحرهم وتحرير البلاد من قبضتهم العام 1885، بل، وأكثر من ذلك كان المهديون يعتبرون الأتراك "كُفاراً صرحاء"، وإلاّ كيف لمسلمٍ أن يأتي بلاداً بعيدة ليستعمر مسلمين مثله، وينشر تجارة الرقيق وينهب الثروات خاصة الذهب ويسخرها لمصالحة الخاصة ويأخذ الشباب بالقوة القهرية إلى الجُنديّة بين صفوفه؟

عبد الله حميدان: الذاكرة الجمعية السودانية لا تحمل سوى الإحساس بالضيم والجور إزاء الأتراك

وتعود العلاقات السودانية التركية إلى أكثر من أربعة قرون؛ حيثُ احتل العثمانيون جزيرة سواكن الاستراتيجية العام 1557، وألحقوها بما كان يعرف حينها بسلجوقية الحبشة مضافة إلى ميناءَي؛ مصوع وحرقيقو، في أريتريا الحالية، ثم لاحقاً  في العام 1566 أرسل الأتراك حملة برية من مصر لاحتلال السودان بحجة الحصول على الذهب والرقيق، وقد جابهها السودانيون بشجاعة وبسالة، إلا أنّ الآلة العسكرية العثمانية المتقدمة حسمت المعركة ووقعت أجزاء كبيرة من البلاد تحت الاستعمار التركي.
وقد زار الرحّالة الاسكتلندي جيمس بروس - مكتشف منابع النيل – جزيرة سواكن إبان الحكم العثماني، ووصف أحوال الناس قائلاً: "كسدت التجارة وانتشرت الأمراض وعانت البلاد من فقر شديد، وضرب الطاعون المنطقة، ولم يكن لدى الأتراك أية نظم صحية لمساعدة السكان، فتركوهم يلقون حتفهم".

 

نشر الجهل والتخلف
اتسم التاريخ العثماني للسودان، بنشر الجهل والتخلف، فلم يكن معنياً بإنشاء المدارس والمعاهد، بقدر ما كان معنياً بجمع الضرائب وسلب الخيرات والاتجار بالبشر واضطهاد المواطنين، الأمر الذي جعلهم ينضمون لجيش الثورة المهدوية ويقاومون الأتراك ببسالة وشجاعة قل نظيرهما إلى أن حرروا البلاد منهم العام 1885.

حميدان: التقارب في ظل نظام البشير لم يكن بين بلدين بل بين جماعتي الإخوان في السودان وتركيا

هذا الإرث الثقيل، لم ينسه السودانيون، فقد انقطعت صلتهم بالأتراك منذ خروجهم من البلاد، إلى ما يقارب مئة عام؛ حيثُ شهد العام 1981 أول زيارة لرئيس سوداني (جعفر النُميري) إلى تركيا، لكن ما لبثت العلاقة أن تقهقرت مرة أخرى، ولم تشهد تحسناً ملموساً حتى بعد مجيء الإخوان المسلمين إلى السلطة عبر انقلاب حسن الترابي/ عمر البشير العام 1989، إلى أن تولى رجب طيب أردوغان رئاسة الحكومة التركية 2003، حيث صار هنالك رابط آيدولوجي/ عقدي بين نظامي الحكم في البلدين، جعل الإخوان السودانيين يهرولون إلى تركيا بترتيبات من التنظيم الدولي للجماعة، حتى وصل الأمر بالصحافة التركية ممثلة في (وكالة الأناضول) بأن تصف زيارة أردوغان إلى السودان العام 2017 وحلوله ضيفاً على جزيرة سواكن الاستراتيجية بأنّه جاء "مقتفياً خطى أجداده الذين حكموا المدينة أيام الخلافة"، الأمر الذي أثار سخط وحنق السودانيين.
علاقات الذهب والرقيق
في هذا السياق، يقول الباحث السوداني في الشأن  التركي  عبد الله حميدان لـ "حفريات"، إنّ "الذاكرة الجمعية السودانية لا تحمل سوى الإحساس بالضيم والجور إزاء الأتراك، رغم أنّ العلاقات معهم تمتد إلى أكثر من 400 عام منذ حلولهم بجزيرة سواكن لأول مرة".

اقرأ أيضاً: من السودان إلى تركيا.. شبكة تنقل "الإخوان وأسرهم وأموالهم"
وأوضح حميدان أنّ العثمانيين لم يسهموا في إحداث أي نقلة لو في حدها الأدنى في مستوى المواطنين التعليمي أو الثقافي أو الاقتصادي، بل ضاعفوا من تدهور الأوضاع ونهبوا ثروات البلاد ومارسوا تجارة الرقيق في أبشع صورها، وقد أشار إلى ذلك الرحالة الألماني كرمب، حيثُ ذكر أنّهم كانوا "يبيعون الرقيق من النساء، في بلدان أخرى، كمصر والهند، فضلاً عن أنّهم كانوا يفحصونهن فحصاً دقيقاً أثناء علميتي البيع والشراء، فيفحص الفم والأسنان وسائر الجسد".

 


ويشير حميدان إلى أنّ السودانيين قاوموا الاستعمار التركي، كما لم يقاموا نظيره البريطاني، "لأنّ الفرق بين الاثنين على سوئهما كان جليّاً وواضحاً، فالإنجليز منعوا تجارة الرقيق ونشروا التعليم وأسسوا للبنية التحتية من سكة حديد وطرق معبدة، وافتتحوا مشروعات اقتصادية ضخمة وأنظمة ري حديثة كمشروع الجزيرة وسدّي سنار والروصيرص، علاوة على تأسيس خدمة مدنية راقية، أما الأتراك فلم يفعلوا شيئاً، بل أوقفوا التطور الطبيعي للتنمية الاقتصادية والتعليم حيث نهبوا الثروات وأطاحوا بالتدين الصوفي المتسامح وجلبوا الدين الرسمي (المؤسسي) الذي لم يكن معروفاً في السودان، وهذا كان المدخل الرئيس لكافة حركات الإسلام السياسي لاحقاً".

 

اقرأ أيضاً: السودان يصفي تركة الإخوان
ويضيف حميدان أنّ العلاقة بين تركيا والسودان لم تتطور "فما حدث من تقارب في ظل نظام البشير، لم يكن بين بلدين، وإنّما بين جماعتي الإخوان في السودان وتركيا، والهدف منها لم يكن لمصلحة المواطن السوداني، وإنما لمصلحة التنظيم الدولي للإخوان، ولولا إطاحة الثورة الشعبية السودانية بنظام الإخوان، لكانت جزيرة سواكن على أقل تقدير تابعة الآن لأردوغان وحزبه، ولا أقول تركيا".
عبث بالسودان وجره إلى صراعات أيدولوجية
من جهته، وصف المحلل السياسي المهتم بالشأن التركي قسم السيد حامد لــ "حفريات" ما يجري بأنّه "عبث بالسودان وجره إلى صراعات أيدولوجية ومذهبية ولعبة محاور مفخخة تبعده عن محيطة الطبيعي (مصر والسعودية) ودول الجوار الأخرى التي تربطه بها صلة وثيقة ومصالح اقتصادية قوية"؛ موضحاً أنّ مئات الآلاف من السودانيين يعملون في المملكة العربية السعودية ودول الخليج ويقيم مثلهم في مصر، فيما لا يتجاوز عدد السودانيين في تركيا بضع عشرات جُلّهم من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، "فضلاً عن الأطماع التركية الواضحة في موانئ السودان وثرواته، والتي أراد أردوغان مثل أسلافه العثمانيين الحصول عليها دونما مقابل".

اقرأ أيضاً: تغلغل الحركة الإسلامية في السودان لا يمنع تفكيكها
ويدلل حامد على ما ذهب إليه بزيارة أردوغان الأولى والأخيرة للسودان العام 2017، ومعه 200 من رجال الأعمال؛ حيثُ تم التوقيع على 12 اتفاقية من بينها إعادة بناء وتفعيل ميناء سواكن، "لم ينفذ منها شيء، وكانت محض دعاية إعلامية لا أكثر ولا أقل، فحجم التجارة بين البلدين لم يتجاوز 153 مليون دولار طوال فترة حكم الإخوان، فيما يتخطى حجم التجارة بين تركيا واسرائيل 14 مليار دولار".  

 

مشروعات وهمية
يواصل حامد حديثه قائلاً: في الواقع لم تنبنِ العلاقات الإخوانية بين تركيا والسودان على المصالح المشتركة للدولتين والشعبين، بل كانت علاقة غير متكافئة تسيِّرها العقيدة الإخوانية التي تتخذ من مبدأ الولاء والطاعة أساساً لها، فكل الاتفاقيات التي تم توقيعها كانت حبراً على ورق، لكن أردوغان كان مهتماً بأمرين فقط؛ تولي إدارة جزيرة وميناء سواكن ونشر اللغة التركية في السودان؛ حيث التقت وزيرة التعليم العالي في نظام عمر البشير، سُميّة أبو كشوة، بالسفير التركي إلى السودان حينها عرفان نذير أوغلو، وتباحثا حول إمكانية تدريس اللغة التركية في المؤسسات التعليمية السودانية، فيما صرح السفير السوداني السابق لدة أنقرة الإخواني المتشدد يوسف الكردفاني بأنّ تركيا ستزيد من المنح الدراسية للسودانيين لتصل إلى 200 منحة سنوياً، الأمر الذي تم استهجانه من خبراء التعليم السودانيين، ووصفه بعضهم بأنّها محاولة فجة وفاشلة لتتريك بعض السودانيين، لكنها شحيحة وبخيلة في نفس الوقت. 

اتسم التاريخ العثماني في السودان بجمع الضرائب وسلب الخيرات والاتجار بالبشر على حساب التعليم والرفاه

ويستغرب حامد، كيف لحكومة البشير أن تؤجر أرضاً زراعية بمساحة 780 ألفاً و500 هكتار لتركيا لمدة 99 عاماً بدعوى زراعة الكانولا والقطن والأفكادو والمانجو والأناناس بشرط أن ترسل هذه المنتجات إلى تركيا بسعر أقل من السوق العالمي، والأغرب من ذلك، وفق تعبيره، أن يخصصوا 10 ملايين دولار فقط كرأس مال لهذا المشروع الضخم.
ويتابع: ورغم ذلك لم نرَ شيئاً على الأرض حتى اللحظة، وهكذا بالنسبة لكافة المشروعات التي وقعت عليها حكومتا أردوغان والبشير، كانت محض سراب تبخر مباشرة بعد أن رفعت الأقلام الإخوانية عن الأوراق التي تم التوقيع عليها.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية