فن الفهم

فن الفهم

فن الفهم


24/02/2024

"اللهمّ اجعلني مفهوماً". هذا أشدّ ما يَنشُده الكاتب الراغب في أن تصل أفكاره إلى الآخرين، كيلا يظلّ مثل عازف منفرد يتلو أحزانه في حانة معتمة.

وفي غمرة هذا التوق، ينهمك الكاتب في الإفصاح، ما أمكن، عن غاياته ومقاصده، فالأولويّة، لديه، تمرير المعنى لا للشجار مع الناطور. لكنّ النواطير كثرٌ وساهرون ليس على حراسة الكروم، وإنّما على إفزاع الطيور.

والقرّاء، غير المَهَرَة، هم الحرّاس المذعورون الذين يعتقدون كلّ حركة تهديداً يستوجب التأهّب، ولا يتركون لليل أن يسير على مهله.

ثم إنّ القرّاء غير المَهَرَة متطلّبون؛ إذ يعتقدون أنّ الكاتب مغنّ في عرس، ويلبي ما يطلبه المستمعون على اختلاف أذواقهم. بل عليه أن يلبي!

هؤلاء النفر من القرّاء يفتّشون لا عن المعاني الظاهرة في النص، بل عن المقاصد الخفيّة والسريّة في ذهن الكاتب، مستعيدين تاريخه واتجاهاته وميوله العقائديّة، وماذا يعمل وأين، وإلى أية "كتيبة" يتبع، مع أنّ هذه العناصر و"البيّنات" لا تُغني ولا تسمن من جوع. أمامك نصّ أيها القارىء الماهر وعليك التواصل الخلاق معه، أو فدعه، فلا يكلّف الله نفْساً إلا وسعها!

القرّاء، غير المَهَرَة، هم الحرّاس المذعورون الذين يعتقدون كلّ حركة تهديداً يستوجب التأهّب، ولا يتركون لليل أن يسير على مهله

هنا، نقف على مفترق طرق؛ القارىء الذي بنبش في لاوعي الكاتب كي يدينه ويصطاده، إنّما يفعل ما فعله "دونكيشوت" مع طواحين الهواء، بينما القارىء الخلّاق فيفتّش في النصّ عما يغنيه، ولا أقول عما يرضيه، لأنّ الهدف هو إثارة الجدل، وتشغيل العقل، واستفزاز المخيّلة، وإنعاش الذوق، وتنمية مهارة الاختلاف، ورمي متوالٍ للحجارة في المياه الراكدة.

لكنّ الاختلاف، لاسيّما في المجتمعات العربيّة، يتحوّل سريعاً إلى خلاف وشقاق ونزاع، فالقارىء، على الأغلب، يقرأ بتصوّراته المسبقة، أو يطالع برغائبه. هو يريدك أن تقول ما يؤمن به، وما يتطابق مع أفكاره، ويرغب، بشكل فظيع، في أن يجرّد الكاتب من أية مساحة ممكنة.

وقد طلب قارىء من كاتب أن يكتب مقالاً لا يعدو أن يكون "شعارات في مظاهرة". ولمّا جادل الكاتبُ القارىء (الذي يحمل رتبة أستاذ دكتور) ذكّره الثاني أنّ الوضع الراهن حسّاس، وأنّ الحرب على غزة لا تحتمل إلا قولاً واحداً، وأنّ أيّة محاولة لإثارة الجدل تصبّ في مستنقع الأعداء، وبالتالي فإنّ "طل سلاحي من جراحي" هو الصوت الوحيد الذي لا ينبغي أن يعلو عليه أي صوت!

لقد تحدّثت الماركسيّة عن "ديكتاتوريّة البروليتاريا" وهنا نشكو من "ديكتاتوريّة القرّاء" الذين يشاء بعضهم، لغاية في نفسه، أو سقم في فهمه، أن يتّهم الكاتب بأنه يدسّ السمّ في الدسم، وأنّ هذه الكتابة المسمومة تُخرج الكاتب، حُكماً، من فضاء "المثقف العضويّ" وتحيله إلى عميل للصهيونيّة!!

وإن شئنا أن نردّ هذه الإشكاليّة إلى جذرها الفلسفيّ العميق، فلا مندوحة أمامنا من اللجوء إلى فلسفة التأويل، أو "الهرمنيوطيقا"، وتحديداً ما يتصل بـ"الفهم"، إذ تصدّى لهذه المعضلة فلاسفة كثرٌ (دلتاي، هوسرل، هيدجر، جادامر، ريكور..) بحثوا في النظرية التأويليّة الحديثة، وكان شلايماخر، الفيلسوف المثاليّ اللاهوتيّ الألمانيّ، في القرن التاسع عشر، من ألمع من قبض على فكرة الفهم؛ ففي كلّ حوار يجري، فإنّ عمليّة صياغة قولٍ ما وإصداره في كلمات هي شيء، وعملية تلقّي هذا القول وفهمه هي شيء آخر مختلف ومتميز كليّاً، والهرمنيوطيقا في رأي شلايرماخر إنما تنصبّ على العمليّة الثانية وحدها؛ عملية الفهم، إنها باختصار شديد: فن الفهم، بحسب كتاب "فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر"، للكاتب عادل مصطفى.

إذاً، في كلّ كتابة، ثمة طرفان (الكاتب والمتلقّي). ومن الضروري، بل من الواجب، أن تنشأ بينهما علاقة حواريّة؛ فالطرف المتحدّث وهو من يشيِّد جملة لكي يعبّر عن المعنى الذي لديه، والطرف المستمع وهو من يتلقّى سلسلة مكونة من مجرد كلمات، ولكنّه فجأة، ومن خلال عمليّة باطنة وسريّة يمكنه أن يستشفّ معانيها، هذه العمليّة الباطنة الإشراقيّة هي عمليّة التأويل، إنها المجال الحقيقيّ للهرمنيوطيقا التي هي "فنّ الإصغاء".

الإسهاب في تصوّرات شلايماخر عن الفهم وفنونه وشروطه تثير الشجون، وتؤسّس لنظرية تستأهل النقاش حول عمليّة التلقّي، والقارىء المثابر يتطلّع، بالضرورة، إلى إثراء المحتوى، لا هدم المعبد، ويروم أن يشارك في عمليّة تخليق النصّ، لا إجهاضه، كما يَنشد أن يبحث ويطرح الأسئلة، ولا يقدّم، إجابات، وحسب.
الفهم عمليّة مضنية، ولعلّها أكثر إرهاقاً من الكتابة نفسها. ويمكنني أن أتصوّر حال أبي تمّام، وهو يردّ على منتقديه المتسائلين: لماذا تقول ما لا يُفهم؟ مجيباً: لماذا لا تفهمون ما يُقال؟
اللهم اجعلني مفهوماً..!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية