لماذا اختفت الدراما الدينية؟

لماذا اختفت الدراما الدينية؟


21/05/2019

من منّا لا تسكن وعيه وضميره تلك الأعمال الدرامية، التي أثرت العقل والوجدان، وحفرت لديننا وتاريخنا المكان الأهم في نفوسنا؟ من منّا لا يتذكر مثلاً مسلسل "محمد رسول الله"، و"لا إله إلا الله"، و"عصر الأئمة"، و"القضاء في الإسلام"، وغيرها من الأعمال الدينية والتاريخية، التي لم تقع في شراك الوعظ المباشر، أو تقديس الأشخاص، بل ظلت تتوخى صناعة القدوة في حياتنا وتعزيز إيماننا برموزنا والناصع من تاريخنا؟

اقرأ أيضاً: الدراما السورية تعود من الحرب ببطولات جماعية

من يتابع الدراما التلفزيونية أو حتى السينمائية المصرية المعروضة في العقدين الأخيرين يجد غياباً شبه كامل لهذا اللون من الفنون، فما الذي يقف وراء ذلك؟ هل يكمن السبب في تراجع الاهتمام بالدين فنياً، أو اختطاف بعض جماعات الإسلام السياسي للوعي الجمعي في الفترات السابقة؟

من يتابع الدراما التلفزيونية أو السينمائية المصرية مؤخراً يجد غياباً شبه كامل لهذا اللون من الفنون

أم أنّ طبيعة تلك الأعمال أنّها تنطوي على نصّ يجب أن يكون مكتوباً بعناية، وعلى مهل، ومستوفٍ لشروط ومتطلبات البحث العلمي والتحقيق الدقيق، وهو ما يتجاوز طاقة المؤلفين حالياً؟ خصوصاً مع انتشار مفهوم ورشات الكتابة، الذي كان من المفترض أن يرفع مستوى الأعمال، في حال وجود قدر من الانسجام الفكري والجدارة العلمية، أو الأرضية المشتركة بين المؤلفين، لكن من يقرأ الكثير من سيناريوهات الأعمال المعروضة والرائجة يكتشف حجم الضعف والركاكة ومنطق البحث، إضافة إلى حرص كثير من المؤلفين على اختيار موضوعات الجرائم الاجتماعية، التي تلقى رواجاً تجارياً لافتاً، يشي بوجود أجندة تقف خلف هذا الاهتمام، تبدو مشغولة بإبراز أسوأ ما في مجتمعاتنا، وغضّ الطرف عن كلّ ما هو إيجابي أو مشرّف، كما لو أنّ الدراما أصبح من أهدافها تشويه صورتنا وتعزيز غياب الثقة في أنفسنا ومجتمعاتنا.

اقرأ أيضاً: فرقة بانوراما البرشا لمسرح الشارع: العلاج النفسي بالدراما

الأمر شائك ومعقّد، لكنّه يكشف أحد مشاهد حياتنا التي تستدعى الدراسة والبحث؛ يعتقد أسامة الرحيمي، الناقد المصري المعروف، في تصريح صحافي، أنّ أغلب صناع الدراما لم يعودوا معنيين بتصدير القيم إلى المجتمع ضمن ظاهرة انهيار كلّ المنظومات، والأعجب، كما يقول، أنّ المتلقي نفسه لم تعد تعنيه تلك القيم، ربما بفعل الإلحاح على قيم الرأسمالية الاستهلاكية، وآفة الريعية التي تنهض عليها، وتلك الرأسمالية هي أكبر مشترٍ ومروّج للمنتج الدرامي والسينمائي، وهذه الصناعة لا تحفل سوى بالاستمتاع الخاطف والسلع الإلكترونية السريعة، التي يتم تمريرها في العادة عبر إيقاع لاهث ومشوّه، يتغذى على مشاهد "الفاست فود"، ومشاهد الجنس، والسيارات من أحدث الموديلات، التي تتغير سنوياً.

هل تتجاوز متطلبات الأعمال الدينية من البحث العلمي والتحقيق الدقيق طاقة المؤلفين حالياً؟

إضافة إلى تراجع كلّ الأفكار الكبرى لحساب المشاريع الإقليمية والدولية المشبوهة، فلم تعد قضايا كالاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية، والنهضة بكلّ تجلياتها، وفي القلب منها التعليم، حاضرة في الوعي الجمعي.

بشكل عام؛ تحوّل الفنّ، كما يرى الرحيمي، من قاطرة للوجدان العام، إلى تابع ذليل، يحاول ترضية نزوات المتلقي الغني، القادر على الدفع بسخاء، "عاوزين ضحك يحضر النجم الأوحد فلان، عاوزين رقص فحدث ولا حرج"، "عاوزين دعوات للسلام يحضر المسلسل التركي وبطله مهند"، بما يكفل محو التراث العربي، وإطفاء كلّ القضايا المهمة في العقول والصدور، من يهتم وسط هذا الغثاء بعدل عمر بن الخطاب، أو زهد عمر بن عبد العزيز، أو صدق أبي ذر، أو أي وجه للقيم في تاريخنا أو واقعنا.

ثم يتساءل عمّا إذا كان الإبداع تابعاً ذليلاً لظاهرة الانهيار، والتحول من القاطرة إلى السبنسة، فهل يكون النقد أفضل حالاً؟

اقرأ أيضاً: "الإرهاب" في دراما رمضان: وأد للتطرف أم توجيه للرأي العام؟

المخرج المصري، داود عبد السيد، يقول في هذا السياق: إنّه ظلّ يبحث عن منتِج لخمسة أو عشرة أعوام، حتى فيلم "الكيت كات" ظلّ يُرفض من شركات الإنتاج لخمسة أعوام.

المنتِج يفرض شروطه، التي هي شروط السوق والأجندات الإقليمية والدولية، التي لن تتسع بالضرورة لقضايا وطنية أو قيمية، بقدر اتساعها لضرورات الربح والسوق، وهو ما يؤكد أهمية دور الدولة ومؤسسات الثقافة والإعلام فيها.

معظم الأعمال الدينية المهمة التي تمّ إنتاجها كانت من إنتاج الدولة، حين كانت مهتمة بهذا اللون من الفنّ، ومدركة لأهمية القوة الناعمة في الرقي بالعقل والوجدان، ومقاومة نزعات التطرف.

أياً كانت الأسباب التي تقف وراء هذه الظاهرة لا يعني أن نستسلم لهذا الواقع

أما الكاتب المصري سامح فايز فيرجع الأسباب، في تصريح صحافي، إلى تراجع الاهتمام بكلّ ما هو ديني، بعد أحداث الربيع العربي، وانكشاف حقيقة جماعات الإسلام السياسي وإرهابها، وكان من آثار ذلك، أو ربما مضاعفاته، تراجع الإقبال على إنتاج الدراما الدينية، بل وتراجع مبيعات الكتب الدينية، وبالتداعي؛ تراجع الاهتمام بالبرامج الدينية في الفضائيات، وانحسار مصطلح الدعاة الجدد، الذي سيطر على المشهد العام لأعوام، بحسب تعبيره.

أياً كانت الأسباب التي تقف وراء الظاهرة، وسواء تعلقت بتراجع قدرات المؤلفين الإبداعية، أو عدم حرص المنتجين على رعاية مثل تلك الأعمال، سواء لكلفتها الإنتاجية العالية، المرتبطة بمواقع التصوير، والإكسسوارات المرتبطة بتلك الأعمال؛ من خيول، وديكورات تاريخية، وغيرها... لا يعني أن نستسلم لهذا الواقع، سواء الدولة الجادة، أو جماعات الضغط الجادة، التي ينبغي أن تنشغل من جديد في رفد الساحة بالمزيد من هذا الأعمال المكتوبة بحرفية، والتي تحقق شروط الإنتاج العصري وتحقق الرسائل المطلوبة وتستطيع المنافسة.

اقرأ أيضاً: الدراما التركية.. هل هي وسيلة "العدالة والتنمية" للتمدّد الناعم؟

جزء من خطة أيّة دولة أو مجتمع في مكافحة التطرف، يمرّ عبر الانحياز للقيم الأصيلة في ديننا، وإعادة اكتشاف الجزء الغني والمشرّف من تاريخنا، وصناعة هوية سليمة ومنفتحة، بما لا يعني القطيعة مع الموروث، أو الحرص على ذلك، كما يجري الآن، بوعي أو من دون وعي.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية