ما لا تعرفه عن سيكولوجيا الطابور.. انتظار العدالة في سجن مؤقت

السيكولوجيا

ما لا تعرفه عن سيكولوجيا الطابور.. انتظار العدالة في سجن مؤقت


04/09/2018

في المحال التجارية الكبيرة، وأمام شباك تذاكر سينما أو الملاعب الرياضية، وفي الشوارع، داخل سيارة واقفة ضمن صفٍ طويلٍ من المركبات، إضافةً إلى تلك الصفوف من البشر، التي أمكن مشاهدتها عبر التاريخ في الحروب، تنتظر دورها من أجل المساعدات، والمزيد من خدمات أو متطلبات أو سلع، يقف الإنسان لأجلها في طابور.
رغم أنّ الطابور أسلوبٌ اكتسبه الإنسان من أجل تنظيم حقه في الحصول على الخدمة أو السلعة التي يريدها، إلا أن الموضوع ليس بهذه البساطة، فكل طابور يعدّ مجتمعاً مصغراً يحمل حكايته الخاصة؛ حيث تلعب هذه الممارسة دوراً مهماً في كشف مختلف المشاعر والأفعال الإنسانية؛ كالفوضى والعدالة ومدى الصبر وغيرها.

في سبيل الحصول على العدالة

دخلت كلمة طابور العربية متأخرة لتعني؛ الصف من الناس يقف بعضهم وراء بعض وفق ما يذكر "مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية" وكانت تستخدم بهذا المعنى لصف الجند في التركية، ولكن يبدو أنها أقدم من ذلك بكثير فقد جاء في تاريخ ابن خلدون "ولما استوثق لذي يزن الملك جعل يعتسف الحبشة ويقتلهم حتى إذا لم يبق إلا القليل جعلهم خولاً واتخذ منهم طوابير يسعون بين يديه بالخراب"، لكن الكلمة أشاعها تاج العروس بلفظة "تابور"، لتصبح لاحقاً بمعنى صفٌ يتكون في سبيل أي شيء.

الطابور أتى في الأساس تلبيةً للرغبة الإنسانية بتحقيق العدالة بمفهومٍ بسيط: من يأتي أولاً يُخدم أولاً

لا يوجد تاريخٌ موثقٌ لفكرة الطابور، لكن الفيلسوف الاسكتلندي توماس كارلايل، كان أول من وصف الكلمة "queue" في كتابه "الثورة الفرنسية"، وأوضح أنّ "الطابور تشكل بسبب الحشود الفوضوية الكبيرة للفقراء في مدينة باريس والريفيين في القرى حولها ممن كانوا يتجمعون أمام المخابز والمتاجر من أجل الخبز، مما تطلب تشكيل الطوابير، من أجل المساواة في حق الحصول على الخبز".
أما الحشد، فتعني "جمعاً من الناس في مكانٍ محدودٍ نسبياً"، وليس شرطاً أن يجتمع الحشد لهدفٍ محددٍ يشمل الجميع، أما الطابور، فيمثل رغبةً منظمةً ومشتركةً لدى العديدين في الحصول على الشيء ذاته، دون أن تعم بينهم الفوضى.
وبحسب البروفيسور في علم النفس بجامعة "sunway" في ماليزيا "هيو جيل"، فإن "الطابور أتى في الأساس، تلبيةً للرغبة الإنسانية بتحقيق العدالة، ومن أجل مفهومٍ بسيط: من يأتي أولاً، تتم خدمته أولاً".
من جهته، يصف المفكر "ستانلي ميلغرام" في دراسته "نظرية الطابور"، وهي نتاج تجارب عملية قام بها في العام 1980، أنّ الفكرة تتمحور حديثاً حول "وجود فرقٍ في الزمن بين خدمةٍ مطلوبة، والزمن الكافي لتوفير هذه الخدمة من أجل مجموعةٍ من الناس"، ومن هنا يتشكل الطابور من أجل منح الوقت اللازم للحصول على الخدمة أو السلعة.

كلما ازدادت قيمة الخدمة أو السلعة أصبح الطابور أطول

 

ويرى ملغرام، أن علم النفس يركز في حالة الطابور على مسألة الوقت؛ حيث "يفكر كل شخصٍ واقفٍ في الطابور، بأنّ مساحته الزمنية والفيزيائية التي يحجزها ثمينة جداً، وأنّ أي شخصٍ يحاول سرقة هذه المساحة باختراق الطابور، سوف يتعرض غالباً إلى رد فعلٍ غاضبٍ من الآخرين، لأنّه يظن أنّ وقته أثمن من وقتهم".

ثقافة الوقت المهدور

الطابور، بوصفه مثالاً مصغراً على المجتمع، خلق حوله ظواهر عديدة ومختلفة، تثير السخرية والجدل والتأمل معاً، ويحدث أنّ الطوابير تختلف من بلدٍ لآخر، وتختلف أسبابها، فتوجد طوابير سلبية، كتلك التي تقف في الطرقات بانتظار وسائل المواصلات، بفعل الازدحام في المدن، أو طوابير فوضوية في أماكن تسليم المساعدات الإنسانية خلال حالاتٍ كالنزوح أثناء الحروب، أو أنها إيجابية  أو ما يسمى الطابور الطوعي، الذي أفرزته الحياة المعاصرة؛ حيث يقف الأشخاص بطريقةٍ منظمة في مكان معين، لأسباب محددة، من باب العدالة واحترام دور الآخرين.

يفكر كل شخصٍ يقف في الطابور بأن مساحته الزمنية والفيزيائية التي يحجزها ثمينةٌ جداً فلا يسمح بتجاوزها

وتتميز بريطانيا مثلاً في هذا الشأن؛ حيث يشتهر مواطنوها باحترامهم الكبير للطوابير، حيث وصل الحد في أحد الأعوام أنّه "كان حوالي 13 سارقاً يصطفون في طابور أمام أحد المتاجر خلال اضطرابات وقعت في لندن، وكانوا يدخلون واحداً تلو الآخر، ولا يدخل الذي يليه في الدور إلا إذا انتهى السارق أو السارقة الذي قبله من أخذ ما يحتاجه من الداخل، وبمجرد خروج السارق من المتجر، يدخل من يليه في الدور"، وفقاً لتقريرٍ نشرته شبكة "بي بي سي" في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015.
وفي مدنٍ كبيرةٍ كنيويورك، أو مونتريال، يكون الطابور على وسائل المواصلات والمطاعم وغيرها، شراً لا بد منه، سواء احترم المواطنون أو السياح هذا الأمر، أم تذمروا منه، ورغم ازدياد أعداد السكان في المدن، وتوفر السلع والخدمات، إلا أن التجمعات تعني دائماً الطوابير.
وفي وثائقي بعنوان "مجتمع الطابور"، بثته قناة "العربية" بتاريخ 18 آب (أغسطس) 2018، يتحدث الخبير العالمي في علم نفس الطوابير بمعهد "ماساتشوستس" للتكنولوجيا " ريتشارد لارسون، الذي يقول "أن أي فرد في المجتمع، يمكن أن يهدر عامين من حياته وربما أكثر، وهو يقف في طابور، وعموماً، يكون الطابور كسجنٍ مؤقت، يجبر الشخص فيه على الامتثال لدوره في الصف".
ويوضح لارسون بقوله "كالسجن؛ لأن البشر ربما يهدرون قروناً إذا ما قيست مدة وقوفهم في الطوابير بصورةٍ جماعية، كما إنّ حوادث ضربٍ وطعنٍ وقتلٍ حصلت أحياناً في الطوابير، لمجرد خلافٍ أو احتكاكٍ بسيط".
ويرى لارسون، أن أعواماً عديدة من دراسة علماء النفس للطوابير، ولم تحل مشكلتها تماماً؛ حيث إنّ "قاعدة من يأتي أولاً تتم خدمته أولاً، لم ترض الجميع، أما فكرة وجود طوابير عديدة، فإنّها ولدت لدى الناس شعوراً دائماً بأن الطابور الآخر، أسرع من طابورهم".

يتوتر الإنسان حين تغيب أي معلوماتٍ عن مدة الانتظار أو لم يضمن الحصول على ما أتى لأجله

الوثائقي ذاته، يقدم طرحاً للبروفيسور "ديفيد أندروز"، وهو متخصص أيضاً بعلم نفس الطوابير؛ حيث يرى أندروز أن "الكثير من الغضب والمشاكل، تنجم عن عدم توفر المعلومات حول مدة الانتظار الفعلية في الطوابير، وعدم التأكد أحياناً من الحصول على الخدمة أو السلعة التي يصطف شخصٌ ما في طلبها"، وإذا كان هذا يدل على نزعةٍ تنظيميةٍ لدى الإنسان، وحب معرفته لمعلوماتٍ  دقيقة ترضي أهدافه، فإنه لن يشعر بالرضى غالباً، إذا رأى أنّ الوقت ونوع الخدمة، لن يكونا بمثل طموحه حين يصل إلى نهاية الطابور.

اقرأ أيضاً: هل ستقلص التكنولوجيا مدة الدراسة الجامعية؟

الطوابير تتسبب بظواهر مختلفة وغريبة، كأن تصطف سيارات النقل الصغيرة في مدينة مومباي الهندية على الدور لنقل الركاب، لكن كل سائقٍ يحمي دوره في تحميل الركاب من خلال العنف، أما مصر، ففيها وظيفة غريبة يمكن رؤيتها في بعض الطوابير بالقاهرة، حيث يعمل شخصٌ يسمى "المشهلاتي" على أخذ النقود من البعض، حتى يجبر آخرين على التخلي عن دورهم في الطابور لصالح من يدفع إليه المال.
والظاهرة ذاتها يمكن رصدها في إفريقيا أيضاً؛ حيث تقف طوابير من أجل الحصول على المياه أو الطعام، وهناك يصبح الدور في الطابور، مسألة حياةٍ أو موت.

 

 

وبصورةٍ عامة، أصبحت للاصطفاف في الطوابير أهداف غير تلك النابعة عن الضرورة والحاجة؛ إذ أخذت الرفاهية تتطلب بعض الانتظار أيضاً، وغالباً ما تنتشر صورٌ من بلدان العالم لأشخاصٍ يصطفون بانتظار النسخ المئة الأولى من سلسلة رواياتٍ شهيرة، أو أول إصدارٍ من أحد الهواتف الجديدة. أو من أجل حجز تذكرةٍ لحضورٍ عرضٍ تلفزيوني شهير مباشرةً في الاستوديو.

طابور طويل في مانهاتن بنيويورك حيث ينتظر الجميع الحصول على نسخة جديدة من هاتف آيفون

غريزة القطيع

من خلال الطابور، يمكن تحديد أنواع مختلفة من البشر، مثل أولئك الباردين والرزينين، ممن يحتملون عبء ضياع وقتهم بالانتظار، وهناك النزقون سريعو الغضب، وكذلك المتطفلون، ممن يزجون وقتهم بالاختلاط بالآخرين، ويوجد أيضاً العجولون، ممن لا يمكنهم احترام وقت الانتظار تحت أي ظرف.

يذهب بعض  خبراء علم النفس إلى أنّ الاصطفاف تعبير جسدي عن غريزة القطيع

ولعل سايكولوجيا الطابور، مرتبطة فعلياً بسيكولوجيا الانتظار؛ فالناس ينتظرون صابرين، طالما يعرفون أنّهم سوف يحصلون على ما جاؤوا لأجله في النهاية.
وبحسب طرح بحثي يقدمه موقع "المشروع العراقي للترجمة"، فإنّ تقييم جودة الخدمات يقاس غالباً بمدة الانتظار، ففي المطاعم مثلاً "كلما ازدادت مدة الانتظار، تم اعتبار الخدمة أسوأ، وكذلك في أماكن إجراء المعاملات الرسمية".
وتشير دراسة الموقع المعنونة بـ"سيكولوجيا الانتظار"، إلى أنّ أصحاب السلع التجارية التي تتعرض إلى كثافةٍ في الطلب، يعملون على إشغال الناس أثناء انتظارهم لمدد طويلة، فيضعون "أنواعاً مختلفةً من الموسيقى، أو الإعلانات أو برامج التلفاز في قاعات الانتظار"، وتطوّر هذا ليشمل وقت الانتظار عند الأطباء مثلاً، أو في قاعات المترو.

لكن هذا يختلف كلياً، في حال كان الناس يذهبون للاصطفاف في طوابير، من أجل الحصول على شيء يرغبون فيه وبصورة اختيارية، وليس شيئاَ ضرورياً هم مجبرون عليه.
وبهذا الخصوص، يقول البروفيسور بعلم النفس "مورون": "في الحرب العالمية الثانية عندما كان الناس يقفون في طوابير للحصول على الوقود أو الطعام، كانوا ينضمون إلى صفوف الانتظار دون أن يعرفوا سبب وقوفهم في هذه الصفوف، فقد كانوا يفترضون أنّه طالما أنّ هناك صف انتظار فهذا يعني أنّ هناك شيئاً قيماً ينتظر الناس في الصف للحصول عليه".

اقرأ أيضاً: قول في أيديولوجيا القتل: نزع الطبيعة الذئبية عن الإنسان

ويضيف مورون في مقابلته على موقع "bbc future" العام 2017: "إنه تعبير جسدي عن سيكولوجية جماعية، فهناك غريزة القطيع، ويشعر الإنسان أحياناً أنه سيفقد شيئاً ما إن لم يكن جزءاً من هذا القطيع".
وربما أن كثيرين، ينتبهون إلى وجود المرايا في المصاعد، ولا ينتبهون إلى سبب وجودها هناك، حيث تم وضعها أول مرة، في ناطحات السحاب العالية، من أجل أن ينشغل الأشخاص بمراقبة وتعديل مظهرهم أثناء المدة التي ربما تبدو طويلة خلال صعود المصعد أو هبوطه، كما أنّ عديدين، يفضلون الوقوف في صفٍ واحد له نهاية مضمونة مهما طالت، على الحيرةِ أمام صفوف عديدة تنتظم على مجموعة من الشبابيك التي تقدم خدمةً معينة.
الطابور، أسلوبٌ حضاري أحياناً وعادل، للحصول على الخدمة، وقد يكون في سبيل الحاجة أو الرفاهية أو الضرورة، كما إنه يعبر عن نفسيات الأشخاص وثقافاتهم من خلال احتكاكهم ببعضهم البعض، ويعبر أبضاً عن الامتثال والروتين، ولا يوجد مقياسٌ ثابتٌ في علم النفس، يتنبأ بما يؤول إليه الحال كل مرة، حين يقوم أحدهم باختراق الطابور؛ فالنتيجة تشبه لحظةً فاصلة، بين البربرية والتحضر.

 

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية