مشاهدات شخصية: كيف تتم البيعة في تنظيم الإخوان المسلمون؟

مشاهدات شخصية: كيف تتم البيعة في تنظيم الإخوان المسلمون؟


16/11/2021

سامح فايز

في أقل من ثانية تراجعت خطوة إلى الوراء قبل أن تقترب عربة مترو الأنفاق؛ وأنا أقف على حافة الرصيف، أفكر، هل أقفز!

في المساء زرت للمرة الأولى الطبيب النفسي، بعض الأدوية ساعدت على اتزان مرحلي، ومع بداية الجلسات تحدثت بتفصيل كاد يكون مملا عن طفولتي، وعلى رأسها تنظيم الإخوان!

أركان البيعة في الإخوان

عرفت الإخوان طفلا في الحادية عشرة من عمري، عام 1996، ذلك العام الذي شهد بيعة المرشد الخامس مصطفى مشهور، بعد ذلك بعامين أو أكثر قليلا شاهدت في منزل أحد أساتذتي في الإخوان لوحة معلقة على الحائط، مكتوب عليها أركان البيعة العشرة!

الفهم والإخلاص والعمل والجهاد والتضحية والطاعة والثبات والتجرد والأخـوَّة والثقة. 

بعد ذلك الموقف بعقدين من الزمان كنت أجلس على مقهى بشارع التحرير مع أحد شباب الإخوان والذي خرج توا من السجن، أخبرني أنه حمل في رقبته بيعة، قال معقبا:” مَن مَاتَ وَليسَ في عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً”. قالها بنبرة ساخرة، فقد تركهم في السجن وكتب ناقدا وناقضا لهم، ثم التفت سائلا إن كنت بايعت، قلت:”لا أعرف!”.

عكس جميع الإخوان في مصر نشأت في قرية من توابع مركز كرداسة، يطلق عليه الناس في المحروسة قندهار مصر، وهى تسمية مبالغ فيها؛ سببها انتشار جماعات الإسلام السياسي في قرى المركز، والتي خرج منها امراء للجهاد والجماعة الإسلامية ومسؤولون في الإخوان بالآلاف، وفي تلك القرى نحكم حكما في ظاهره إسلاميا، أو هكذا كان الوضع قبل ثورة يونيو 2013، التي أنقذت مصر والمنطقة العربية عموما من فيروس الطاعة الإخواني!

وفي ذلك اليوم من شهر رمضان عام 1996، اختارني أستاذي الأول في الإخوان من بين عشرات الأطفال بمسجد على مقربة من منزل أسرتي، وبدأت رحلتي مع التجهيز للبيعة، التي عرفت مصادفة أنني أعطيتها بشكل مباشر للمرشد الخامس مصطفى مشهور في بدايات الألفية الثالثة!

العهد على الطاعة في المنشط والمكره

البيعة كما شرحها ابن خلدون:البيعة هى العهد على الطاعة، كان المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينزعه في شئ من ذلك ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره.

يضيف ابن خلدون:”وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهدة جعلوا يدهم في يده توكيدا للعهد فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري فسمي بيعة مصدر باع – وصارت البيعة مصافحة بالأيدي هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع”.

أغلقت صفحات مقدمة ابن خلدون وقد تملكتني حالة من الفهم استلزمت مني الانتظار عقدين من الزمان؛ كنت لا أعرف في حينه ماذا يحدث، احتجت كل ذلك الوقت كي أفهم أن الإخوان أعدونا كي نكون جنودا في معركتهم هم؛ ذلك أن البيعة تأتي في نهاية رحلة من التجهيز قد تستمر سنوات، وليس على عكس المتبع في الإسلام، أن المبايعة هى مبتدأ الإمامة، ذلك أن الإخوان لا يأمنون على أنفسهم إلا من استوثقوا أنه اجتاز منهجا تربويا وتعليميا أعده حسن البنا قبل 100 عام، أراد به خلق جيل من شباب الإخوان لا ينازعونه من الأمر شيئ، حتى بعد وفاته بكل تلك السنوات!

رسالة التعاليم 

الحديث عن البيعة ورد كاملا في (رسالة التعاليم)، الرسالة الأخطر للبنا. هكذا تصفها أدبيات جماعة الإخوان وهى رسالة مكملة لرسالة تربوية سبقتها، تسمى (رسالة المنهج)، فيهما وضع البنا أعمدة التربية والتنشئة في الجماعة، وفيهما أيضا يخلق الإخوان ممالك مصغرة داخل الدول والأوطان، ممالك لا تعرف سوى حسن البنا ورسائله، ولا ترى سوى إخوانهم من الجماعة، ولا يعتبرون أحدهم مسلما إلا من دخل جماعتهم.

منذ اللحظة الأولى بدأ التجهيز، رغم صغر أعمارنا، غير أن قريتنا التابعة لمركز كرداسة غير كل القرى، أو بتعريفات الإخوان، شعبة كفر غطاطي غير كل الشعب، فهي كانت تحكم سابقا من الإخوان، وعلى الهامش منها بعض تجمعات أنصار السنة والتبليغ والدعوة والجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة، والسلفية لعلمية، ولاحقا السلفية المدخلية، مع انحسار تدريجي حد الاختفاء للطرق الصوفية، أصحاب الإنتشار الأكبر في القرية قبل منتصف الثمانينات من القرن الماضي، ذلك العقد الذي شهد بزوغ دعوة أظلمت قريتنا والقرى المجاورة حتى عام 2013!

البيعة للإخوان في الأصل كانت لجماعة معينة ، وليس جميعهم، يقصد بهم الإخوان المجاهدون، كما وصفهم البنا:” فهذه رسالتي إلى الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين الذين آمنوا بسمو دعوتهم، وقدسية فكرتهم، وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها، أو يموتوا في سبيلها، إلى هؤلاء الإخوان فقط أوجه هذه الكلمات”. وهم في تلك الحالة النظام الخاص، الجناح العسكري المسلح للجماعة، الذي بدأ عمله باغتيال القاضي الخازندار أمام منزله في الأربعينيات من القرن الماضي، حتى وصل إلى اغتيال النائب العام هشام بركات 29 يونيو (حزيران) 2015، عن طريق سيارة مفخخة استهدفت موكبة، بعدها أعلن تنظيم سواعد مصر (حسم) الجناح المسلح لتنظيم الإخوان، تبنيه العملية الإرهابية.

غير أن البيعة العامة كانت معروفة، ولم تكن بنفس احتياطات البيعة المشار إليها في رسالة التعاليم، حسب مذكرات أحمد عادل كمال عضو النظام الخاص بالجماعة الذي ذكر بيعتين أعطاهما في كتابه، الأولى مع بدايات تعرفه إلى الإخوان، والثانية وهى البيعة الخاصة، على نهج رسالة التعاليم، أعطاها للنظام الخاص، في منزل كبير قديم بابه ضخم من الخشب، في حارة الصليبة بمنطقة السيدة زينب.

كان ذلك في النصف الأول من القرن العشرين، لكن مع صدام الجماعة بثورة يوليو والضباط الأحرار في القاهرة، بدأت الانغماس في الدعوة السرية، وأصبح للجماعة مرشدا ظاهرا، وآخر مرشد سري لا يعرفه إلا نخبة مختارة من الجماعة، حتى لا تسقط الجماعة إن اعتقل أفرادها.

وفي مرحلة العمل السري تلك تم تجنيدي في الجماعة، ومررت بمنهج تربوي قاس جدا على أطفال في مثل أعمارنا، وكان لنا جدول متابعة اسبوعي، نسجل فيه ما قدمنا على فعله اسبوعيا، من صلوات خمس، وأداء السنن، وترديد الأوراد التي توارثناها عن حسن البنا، وفي نهاية الاسبوع كنا نجتمع بعد صلاة الفجر في منزل أول أستاذتي في الجماعة، وكان يدعى عبد الصبور، ندخل فرادي، وننصرف هكذا أيضا، ولم نكن نسأل عن السب، الذي عرفته لاحقا بالطبع!

تبدأ الجلسة دون أن يقدم أستاذ عبد الصبور أدنى تعليق على أوراق المتابعة، فقط يعطينا غيرها كي نبدأ من جديد، وهكذا كل أسبوع، وفي نهايته ننتظم في جلسة تستمر لساعة يحدثنا فيها عن الدعوة إلى الله، وسيرة الرسول، وسير الصحابة، وكيف أن الإسلام بدأ بدعم الشباب، وأن علي ابن طالب أسلم في السابعة من عمره، وأسامة بن زيد قاد جيشا في الخامسة عشرة من عمره! 

ثم في مرحلة لاحقة انتقلت إلى أستاذ آخر، كان يعمل في دور نشر الإخوان، ومنه حصلت على أبرز أدبيات الإخوان، التي عرفتها وأنا طالب في المرحلة الإعدادية، خصوصا إصدارات مركز الإعلام العربي، المملوك لوزير الإعلام فترة حكم الإخوان لمصر عام 2012.

لكن بعد سنوات ثلاثة من التجهيز لاحظت ما سبب لي حالة من التيه عانيت منها لسنوات بعد ذلك، فزملائي في الأسرة ينتقلون تباعا إلى أسر أخرة، بأساتذة آخرين، ومناهج تربية مختلفة، ويعطون مسؤوليات أكبر، بالنسبة إلى أعمارهم، اما أنا فبقيت أتنقل من أستاذ إلى آخر دون منهج تربوي واضح، أو أدنى اهتمام منهم، كأنهم يفتحون الباب لي كي أنصرف عنهم، وهو ما حدث بالفعل عام 2004.

لكن قبل انصرافي بثلاثة أعوام تقريبا، جمعنا الإخوان في سيارات اتجهت إلى مسجد الصباح في شارع الأهرام بمحافظة الجيزة، وفيه حضرنا حفل زفاف شاب وفتاة أبناء قياديين في الجماعة، وبعد انتهاء مراسم الزفاف خرجنا أمام المسجد لنقف طابورا دون أن أفهم لماذا، وبدأنا بالتحرك، وفي نهاية الطابور جلس مصطفى مشهور، مرشد الإخوان، وكان في ذلك الوقت شيخا كهلا طاعنا في السن، يقبل الجميع يده، وعندما حان دوري قبلت يده انا أيضا، وتحركت في صف كآلة، لا تفهم، رغم أن الركن الأول من أركان البيعة هو الفهم، غير أن شرح ذلك الركن والذي عرفته بعد ذلك الموقف بسنوات أيضا، يقصد به فهم دعوة الإخوان، الدعوة التي ينتسب إليها الجماعة المسلمة الوحيدة التي تستحق الإتباع!

ابن خلدون يشرح مسألة تقبيل اليد في البيعة قائلا:”البيعة المشهورة لهذا العهد فهي تحية الملوك الكسراوية من تقبيل الأرض أو اليد او الرجل”.

مضيفا:”أطلق عليها اسم البيعة التي هى العهد على الطاعة مجازا لما كان هذا الخضوع في التحية والتزام الآداب من لوازم الطاعة وتوابعها”.

بالعودة إلى رسائل البنا، وكتب التربية في الإخوان عرفت لماذا تقدم زملائي في الأسرة وظللت أنا على مكاني حتى تركتهم، وتذكرت ورقة المتابعة التي كنت أقدمها اسبوعيا للأستاذ عبد الصبور دون أدنى تعقيب منه، فقد كانت تلك الورقة هى سند مرور أحدهم ورحيل آخر؛ لأن مسؤول كل أسرة يرفع بشكل دوري لمسؤولي الشعبة تقرير عن كل عضو في الأسرة، وبناء على ذلك التقرير يتم التدرج في مراتب التربية، وصولا إلى البيعة بشكلها العام، ثم الدخول في منهج تربوي آخر وصولا إلى البيعة الخاصة للمجاهدين.

وما حدث معي أن تقاريري جميعها كانت بالسلب، فلم أكن أنصت لحديث شيخي عن رفضه حبي للقراءة، خصوصا سلسلة الأدب العالمي للناشئين التي واظب مشروع القراءة للجميع المدعوم من وزارة الثقافة المصرية على نشرها بثمن بخس، كنت أجمعه من مصروفي الدراسي. أيضا كنت كثير السؤال، في كل شئ، لا أستيطع إتيان مسألة دون فهمها، وكنت أرفض اتباع الأوامر، وأعاني من مشاكل تلازمني حتى اليوم في الطاعة العمياء، وهى جميعها أشياء تطعن في العضو الذي يرغب في الانتساب للجماعة، وزاد الطين بله عندما حدثت ردة فكرية وكدت أعود للجماعة مرة أخرى عام 2011، بعد ست سنوات من الترك، لكن في ذلك العام اشتعل الوطن العربي، في ثورات متتابعة بدأت بتونس، ثم وصلت إلى مصر، واشتركت فيها مثل الملايين غيري، وعندما كنت أردد في الميدان بلادي بلادي بلادي، كان الإخوان يهتفون:”الله غايتنا، الرسول قدوتنا – القرآن شرعتنا – الجهاد في سبيل الله أسمى أمانينا”. وهى العبارات المختصرة لأركان البيعة العشرة في رسالة التعاليم، التي تخلق فردا يدين بالولاء ليس للجماعة وفقط، ولكن لشخص حسن البنا، ولا يعرف غيره سواء أرض أو وطن أو أقرباء بالدم!

عن "مركز الإنذار المبكر"

الصفحة الرئيسية