هكذا نحن ننتقل من هزيمة إلى هزيمة

هكذا نحن ننتقل من هزيمة إلى هزيمة


28/06/2018

على حدِّ تعبير رينرريلكه: الحياة (انتقال من هزيمة إلى هزيمة).

لكن، ماذا يمكن أن يكون إذا كانت الحياة انتقالاً داخل إطار هزيمة واحدة كبيرة ومستمرة؟

ثمة هزيمة من هذا النوع الكبير والمستمر من الهزائم التي تتسع لكل شيء، إنها الهزيمة أمام الأفكار؛ أن نكون مهزومين أمام أفكارنا عن الحياة والعيش والثقافة.

إننا مواطنون، لكننا مهزومون في حقوقنا الوطنية، بحجة الواجبات، صارت الوطنية هزيمة ملونة أمام أفكار السماسرة والتجار و... إلخ.

نحن أحرار، لكننا متهمون بأكثر صور الحرية قتامة.

نحن مهزومون أمام التاريخ بوصفه ماضياً متهماً بالرجعية ومهزومون أمام ماضويين يريدون العودة بنا إلى الكهف

متهمون بتعكير المزاج، وإطالة اللسان، واقتصادياً متهمون بإطالة الأحلام، وفي الثقافة والإعلام متهمون بأننا نحشر أنوفنا الطويلة فيما يعنينا ولا يعنينا.

كعربي، عاش هزائم أمته كلها في التاريخ والواقع ووقائع الشعر والروايات، أصبح مسكوناً بهزيمته الكلية المستمرة، مهزوماً أمام أفكاره الوطنية؛ إذ يكتشف أنّ الوطن إما مصادَر أو محاصَر، وأنه وحده من يدفع الثمن كفرد، ومهزوماً أمام أفكاره في الحرية حين يكتشف أنه دائماً مدان، ومتهم بإطالة الأحلام واللسان، ومهزوماً أمام أفكاره عن الثورات، حين وجد أنها مصائد وأن الشعوب فريسة كئيبة.

اقرأ أيضاً: "نحن أعداؤنا".. قصة اليقين الذي يشبه الخرافة

ومهزوماً أمام أفكاره عن الديمقراطية التي يتذوقها ويلعق أصابعه بتشهٍ، يشبه الذئب الذي مكث يلحس المبرد، وكلما رأى دم لسانه عليه حسبه دم وجبته الدسمة.

ومهزوماً أمام نفسه في قدرته على الصمود والمواجهة والتحدي، أو الرضوخ والصمت، ومهزوماً أمام أفكاره عن الدولة برمتها حين يعرف أن المؤسسات الرسمية شركات مساهمة، والحكومات التنفيذية ميليشيات سياسية، والبرلمان جوقة موسيقيين فاشلين يعزفون بأصابع حادة وأوتار مقطوعة.

الحديث ليس عن دولة محددة، إنّما عن دول تتضخم فيها الهزيمة يوماً بعد يوم، وعن شعوب ممتدة من الماء إلى الماء، لكنها غثاء، والغثاء رغوة الأشياء، أو مثل غثاء الليل كالحشائش اليابسة.

نحن مهزومون أمام التاريخ بوصفه ماضياً متهماً بالرجعية، ومهزومون أمام ماضويين يريدون العودة بنا إلى كهف أقفل بابه منذ عصور، وقيم ما عادت تستطيع إصلاح كل هذا العطب، والذين أوهمونا بأنّ الماضي وحده القادر على الحل والإصلاح والتطوير أرادونا أن نفشل وأرادوا للماضي أن يلتهم كل ما في الحاضر من اختلاف لم يستوعبوه بعد.

اقرأ أيضاً: أزمة الوعي المسطح والتدخين.. موت بطيء ومؤلم

لقد قالوا إنّ الحاضر، بوصفه حالة ملتبسة، متهم بالفتن، والمستقبل ليس سوى حالة انتظار كسول، والمجد كلّ المجد فقط فيما مضى.

ما تزال شعوبنا تعالج أوجاع العلاقة مع التاريخ والماضي، وشكل الحضارة القديم، بسبب فعل الذين زوروا كل ذلك، لكرههم للحضارة الحديثة والجديدة والمختلفة، ليس لأنها كذلك، مختلفة وحديثة، بل لأنها لا تسمح لهم بأن يمدوا سوط سلطتهم باسم الدين والإله والمقدس على رقاب الناس.

هزيمتنا أمام أفكارنا وقدرتنا على استيعاب الحياة بكل تجلياتها أكبر وأهم من هزيمتنا أمام أي عدو حقيقي أو متخيَّل

مع كل هذا، وبسبب كل هؤلاء المشبعين بتراث مزور، أصبح الدين مهزوماً أمام المتدينين، وأصبحت الدعوات والأيديولوجيات الدينية مهزومة أمام دعاة جدد لم يعطوا أنفسهم فرصة التغيير فحاربوه، ونزعوا إلى مفهومات غامضة باسم الاتباع والقدوة والخير المعلق برقاب الخيل فقط، وعصا الخطيب على المنبر، لقد كان لافتاً إلى أنّ خطباء الجمعة، منهم من يؤمن بأن كل ما ورد عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قابل لأن يقوم مقام الدين، فخطيب الجمعة في الحي لا يصعد المنبر إلا وعصا غليظة في يده، اقتداءً بالنبي، عليه السلام، حتى لو كان النبي الكريم أخذ عصاه وتوكأ عليها على المنبر لسبب لا علاقة له بالدين.

نعم، هكذا نبدو أمام هزيمة واحدة تأخذ أشكالاً شتى، في الدين واليقين والسطو على حياة الناس البسطاء المشبعين بالعاطفة الدينية، التي أوقد عليها الدعاة ألف عام، حتى صارت صلبة بكل ما فيها من انحرافات وأخطاء وأفكار مسمومة.

في النهاية، هزيمتنا أمام أفكارنا وقدرتنا على استيعاب الحياة بكل تجلياتها وعصورها ومحطاتها وقيمها، أكبر وأهم من هزيمتنا أمام أي عدو حقيقي أو متخيَّل.

الصفحة الرئيسية