وثائقي نتفليكس عن الملكة كليوباترا: هل يمكن تزوير التاريخ؟!

وثائقي نِتفلكس عن الملكة كليوباترا: هل يمكن تزوير التاريخ؟!

وثائقي نتفليكس عن الملكة كليوباترا: هل يمكن تزوير التاريخ؟!


14/05/2023

قبل عرض المسلسل الوثائقي "الملكة كليوباترا" بأيام عرضت منصة نتفليكس مسلسلًا بعنوان "الملكة شارلوت: قصة من بريدجرتون". يسرد المسلسل، المكوّن من ست حلقات، قصة زواج السمراء شارلوت (1744-1818) من الملك الإنجليزي جورج الثالث (1738-1820). تنحدر شارلوت مباشرة من الفرع الأسود من البيت الملكي البرتغالي وربما كانت أول ملكة بريطانية سوداء. ورغم أنّ أحداث المسلسل تستند إلى وقائع حقيقية إلا أنه يستهل أولى حلقاته بتنويه مكتوب ومنطوق يقول: "هذه قصة الملكة شارلوت، وهي ليست درساً في التاريخ، بل قصة خيالية مستوحاة من الواقع، وكل تجاوزات الكاتبة متعمدة تماماً".

يعرض المسلسل لحالة شبه مثالية لكنها لا تخلو من عنصرية، رغم أنّ السود من أصول ملكيّة، ولديهم ألقاب وأراضٍ ودرسوا في أرقى الجامعات. يخبرنا المسلسل كيف ساهم زواج شارلوت من الملك في رفع شأن هذه الطبقة إضافة إلى دور القصر. وفي 15 شباط (فبراير) 2023 عرضت نتفليكس مسلسلًا وثائقياً تاريخياً بعنوان "ملكات أفريقيات: إنجينجا" يعيد التعريف بالملكات الأفريقيات بأسلوب وثائقي درامي ومقابلة خبراء التاريخ، ويبدأ موسمه الأول بالملكة إنجينجا. وفي 25 آذار (مارس) 2023، عرضت نتفليكس مسلسلًا بعنوان "حكايات فولكلورية أفريقية، أُعيدَ تخيُّلها درامياً" (African Folktales, Reimagined) ويروي ست حكايات شعبية أفريقية في سلسلة مختارات متعددة اللغات لاستكشاف موضوعات الحزن والحب والتصوف.

صدرت هذه الأعمال خلال الشهور القليلة الماضية وسبق لنتفليكس أن عرضت أعمالًا أخرى تحتفي بالثقافة الأفريقية، وهو ما يثير التساؤل حول الأسباب التي تقف وراء هذا الاحتفاء وأسباب اختيار ممثلة سمراء (أديل جيمس) لتقوم بدور كليوباترا.

مرجعيات نتفيلكس

يستند وثائقي نتفليكس- في اختياره لممثلة داكنة البشرة لتقوم بدور كليوباترا- على جدل تاريخي جاء على لسان الخبراء في المسلسل. يقولون: "نحن لا نعرف أصل كليوباترا العرقي بالتحديد، ولا نعرف من كانت والدتها. لقد أُجريت أبحاث كثيرة لإثبات أنّ أمها كانت مصرية، لكننا غير متأكدين. كما أنه ليس واضحاً من كانت جدة كليوباترا. حصل والد كليوباترا على لقب وهو لم يكن شرعياَ لذا أدرك الشعب أنّ أمه كانت على الأرجح فرداً من البلاط الملكي. من المحتمل أنها كانت مصرية".

مرجعية أخرى يستند إليها الخبراء وهي لون بشرة المصريين السائدة وقتها، واليوم، فـ "المصريون القدامى يتميزون ببشرة من ألوان مختلفة، كما نرى اليوم في ثقافات أفريقية أخرى. تتفاوت ألوان البشرة من الأسود إلى البني الفاتح مثل سكان جنوب السودان ومصر المعاصرة".

والمرجعية الثالثة هي كليوباترا نفسها، كما جاء في الوثائقي: "بما أنّ كليوباترا تعتبر نفسها مصرية يبدو من الغريب أن نصر على تصويرها على أنها أوروبية المظهر بامتياز". وهذه حجة تستند بدورها على مرجعيات بحثية سابقة. لكن كان بالأحرى على صانعي المسلسل الاعتماد على هذا المنطق في اختيار ممثلة ببشرة سمراء فاتحة، والأهم اختيار حاشيتها ببشرات تشبه ذلك التدرج الذي تحدث عنه الخبراء في الوثائقي، لا أن تُظهر أغلبهم ببشرة داكنة.

لا يمكن تزييف التاريخ إلا مع غياب وثائق مكتوبة بالدرجة الأولى. هناك روايات مقابل أخرى، والباحث في التاريخ لن يعتمد على نتفليكس كمرجعية تاريخية ليعرف لون بشرة كليوباترا الحقيقي أو حتى ليستمد منه معلومات تاريخية

تبدو كليوباترا، وفقاً لخبراء الوثائقي "مختلفة بحسب من يتصورها. لذلك فصورها تختلف ومظهرها كذلك، تماماً كالحرباء". يضيف الدكتور إسلام عيسى- مؤلف كتاب "الإسكندرية المدينة التي غيرت العالم"، وأحد خبراء الوثائقي- بأن "جاذبية كليوباترا تكمن في أننا نتخيلها، وبإمكان الجميع تخيلها بطريقته الخاصة. فأنا أتخيلها بشعر مموج مثل شعري ولون بشرة مماثل للون بشرتي".

سالي آن أشتون واحدة من المتحدثين في الوثائقي وسبق لها أن ألّفت كتاباً عن كليوباترا. وما قاله إسلام يتفق مع ما سبق أن كتبته أشتون في مقدمة كتابها المترجم إلى العربية بعنوان "كليوباترا ملكة مصر". تقول: "كان هدفي من هذا الكتاب محاولة العثور على كليوباترا (الحقيقية)، بَيْدَ أنني أدركتُ فيما بعد وفهمتُ أنّ ما كنتُ أعنيه بكليوباترا (الحقيقية) هو رؤيتي (الخاصة) لكليوباترا".

استبعاد أن تكون بشرة كليوباترا سمراء غالباً ما يصدر من تحيز أوروبي، بحسب تعبير أشتون في الفصل الأول من كتابها المعنون بـ "كليوباترا: جميلة سمراء". تقول أشتون: "لا نعرف هل كانت كليوباترا جميلة وسمراء، أم بيضاء وغير جذابة، أم مزيجاً من أيٍّ من هذه المفاهيم الحديثة. نحن لا نملك جثمانها حتى نحدد العِرق الذي كانت تنتمي إليه عبر تحليل الحمض النووي، ورغم ذلك، يجب ألا تمنعنا هذه الحلقة المفقودة من رؤية هذه الملكة على أنها شخصية أفريقية بارزة، وفي الواقع تؤيد الأدلة الأثرية المتبقية فكرة أن كليوباترا كانت تَعتبر نفسها مصرية. كليوباترا بالطبع من أصل يوناني مقدوني، لكنها عندما اعتلت العرش عام ٥١ قبل الميلاد كانت أسرتها تعيش في مصر منذ ٢٧٢ سنة. بالإضافة إلى هذه الحقيقة نحن لا نعلم هوية جَدة كليوباترا، التي يُرجح احتمال أنها كانت محظية أكثر من كونها زوجة رسمية، ومؤخراً بدأ التشكيك في هوية والدة كليوباترا".

وتضيف بأنّ "الهدف من هذا الكتاب هو وضع كليوباترا في سياق حياتها في مصر والنظر إليها باعتبارها أحد حكام مصر، وليس على أنها حاكمة إغريقية". وهو الهدف نفسه الذي عبرت عنه مخرجة "الملكة كليوباترا" بعد الهجوم الحاد الذي سبق عرضه. الاثنتان تعتقدان أنّ "كليوباترا التي عبَّر عنها شكسبير والتي ظهرت في الأفلام الحديثة لا تعبِّر عن الشخصية الحقيقية لكليوباترا".

تقول أشتون: "يثير موضوع الانتماء العرقي لكليوباترا جدلاً واسعاً وعادةً ما يُستبعد من الدوائر الأكاديمية". لكن "بصرف النظر عن درجة لون بشرة كليوباترا، فإنّ أدلة قوية من حياتها في مصر تشير إلى رغبتها في أن يُنظر إليها على أنها مواطنة مصرية في موطنها الأصلي وأنها أهملت تراثها الإغريقي لصالح تقاليدها (المصرية) الأصلية". إضافة إلى أنّ هوية كليوباترا "ترسخت بوصفها مصرية، وليست إغريقية، بوضوح في أثناء حياتها، فعقب وفاتها مباشرةً وصف المؤرخ سترابو الملكة بأنها (المصرية) ووصفها المؤرخ الروماني لوسيوس أنيوس فلورس في القرن الثاني الميلادي بقوله: (تلك المصرية)". قارن هذا مع من يعيد كليوباترا اليوم إلى اليونان.. وستعرف أيهم أحرص على الهوية المصرية.

 عملة تظهر صورة كليوباترا

جزء من المشكلة في نظر أشتون يكمن في "تعاملنا مع معاني الكلمات". وتنوه، في كتابها، إلى أنّ قضية الهوية الأفريقية في مقابل الهوية الكلاسيكية (الأوروبية) لها وجود في العصور القديمة "فعند تصوير صانع الخزف الأثيني إكسيكياس لأحمس، الخادم المصري لممنون، في القرن الخامس قبل الميلاد، أظهر شكله على أنه أفريقي أسود، بشعر أفريقي الشكل وملامح (أفريقية) مبالغ فيها.. إذن كان الإغريق يرون المصري على أنه أفريقي. وفي الأدب الإغريقي كان يُشار إلى المصريين دومًا على أنهم إثيوبيون".

العلم والخيال

وثائقي نتفليكس لا يجزم بصحة صورة كليوباترا التي تقدمها، ويضع القضية على طبق الخيال والاحتمال والتشكيك في الرواية الكلاسيكية لصورة كليوباترا. في هذا السياق تقول أشتون: "افتراض وجود جزء أفريقي لدى كليوباترا لا يعتمد على محض الخيال وإنما على حقيقة أننا لا نعرف هوية والدة بطليموس الثاني عشر، ومن ثم هوية جدة كليوباترا لوالدها". تبني أشتون فرضيتها على حجة انتقدتها في كتابها قائلة: "كثيراً ما تُستخدم حجة ضعيفة من أجل التصدي للتوجه الأفريقي وهي أنه ما دام لم يذكر أي مؤلف أن كليوباترا كانت سمراء، فلا بد إذن أنها كانت بيضاء".

منطق الطرفين قائم على التالي:

نحن لا نعرف هوية والدة بطليموس الثاني عشر، ومن ثم هوية جدة كليوباترا لوالدها. إذن من المحتمل أنها سمراء. أما المنطق النقيض فيقول: بما أن البطالمة بيض البشرة وكليوباترا من البطالمة فهي إذن بيضاء. يتجاهل المنطق الأخير حجة الطرف الأول. والمنصف في ما قالته أشتون أنها تضع القضية في خانة الاحتمال.

غياب صيغة الجزم يظهر أيضاً عبر تناقض الكلمة والصورة، أو المادة التاريخية والمادة الدرامية. خبراء التاريخ ينفون إمكانية معرفة لون بشرة كليوباترا الحقيقي وينتهون إلى "احتمال" أن تكون سمراء. لكن الجانب الدرامي لا يكتفي بهذا بل يذهب إلى تصوير حاشيتها- وأغلب من يظهرون في الكادر- بلون البشرة نفسه! خبراء التاريخ يقولون: كان عمر كليوباترا (18 عاماً) حين تولت مقاليد الحكم. لكن الممثلة (مواليد 1996) تبدو أكبر من هذا العمر بكثير. الأمر نفسه يقال عن أخيها بطليموس الثاني عشر الذي كان حينها طفلًا، لكن صناع الفيلم اختاروا للدور شاباً في منتصف العشرينات تقريباً!

يتضح الصراع بين العلم والخيال، والميل إلى أحدهما دون دليل قاطع، في ما قالته البروفيسورة شيلي هايلي. تقول في بداية الحلقة الأولى: "مازلتُ أتذكر ما قالته لي جدتي: شايلي لا يهمني ما يخبرونك إياه في المدرسة. كليوباترا كانت سوداء". وفي ختام الحلقة الأخيرة تقول: "كان يراودني حلم متكرر يظهر فيه شخص بملامح غير واضحة.. من الواضح أنها امرأة. قالت لي: عليك أن تروي قصتي". تضيف: "أريد أن يعرف الناس قصة كليوباترا بصفتها ملكة أفريقية، وهذا واقع تم محوه ودفنه وتعديله". المشكلة هنا في صيغة الجزم الصادرة عن باحثة يفترض أن تُغلِّب منهج البحث العلمي على الثقافة الشفاهية. علماً بأنّ صيغة الجزم هذه تنفرد بها شايلي وحدها.

ثمة دروس يمكن أن نتعلمها من وثائقي نتفليكس: أولها أن نغير طرق الخطاب بتحري الموضوعية والعقلانية

يصف الخبراء كليوباترا بأنها "ملكة مصرية" غالباً وحيناً "ملكة أفريقية" باعتبار أنّ مصر أفريقية. فهل سيصدق المتلقي ما يراه أم ما يسمعه؟! الغالب في هذا الصراع، من حيث المدة الزمنية، ومقارنة بالمادة الدرامية، هي للمادة الوثائقية التي تُروى على لسان خبراء التاريخ. وكأنّ الهدف هو وضع الكرة في ملعب المتلقي، مصداقاً لما تقدم قوله من أنّ أجمل ما في كليوباترا هو أن تتخيلها وفق الصورة التي تميل إليها. والمسلسل على هذا النحو لا يتلاعب بالتاريخ كقاعدة تفتقر إلى الضبط المنهجي أو من منطلق أنه خيال بحت. الوثائقي يلعب في منطقة هي مثار جدل علمي ويمكن للخيال أو لوجهة النظر "التاريخية" الأخرى أن تقول كلمتها بصيغة احتمالية لا بصورة يقينية.

ثمة فسحة في التاريخ تقبل النقاش وعرض وجهات نظر مختلفة. من ذلك ما عرضه أنيس منصور في كتابيه "الذين هبطوا من السماء" و "الذين عادوا إلى السماء". يرى فيهما أنّ الكائنات الأذكى هبطت إلى الأرض وعلَّمت الإنسان.. ثم اختفت بعد أن تركت آثارها في الجيزة وبعلبك وغيرها من البلدان.

لقطة من مسلسل كليوباترا يظهر فيها بعض حاشيتها من ذوي البشرة الداكنة

 

وثائقي نتفليكس والوثائقي المصري

يتضمن وثائقي نتفليكس عبارات مديح لكليوباترا بوصفها آلهة "مصرية" و"آخر الملكات الفراعنة" ولو لم تسرقها السلطة لكانت "عالمة".. في الوقت نفسه يظهر جانبها الإنساني، والنتيجة النهائية تعلي من شأن كليوباترا وتنسبها للحضارة "المصرية" التي توصف على نحو إيجابي يدعو للفخر. الوثائقي على هذا النحو يخدم مصر والحضارة المصرية ما عدا الجانب الخلافي الذي يمكن الرد عليه بوثائقي مشابه مع تحري الموضوعية. إن كان المسلسل المنتظر وثائقي درامي فقد تصلح الممثلة المصرية ثراء جبيل للقيام بالدور. وبما أنّ المسلسل سيخاطب العالم نتأمل منه أن يتخلى عن أسلوب تجميل التاريخ الذي شاهدناه في العديد من الأعمال التاريخية والسيَرِية. هل سيتحقق هذا أم أنّ لغة زاهي حواس ستكون هي نفسها لغة الوثائقي المنتظر. مثل قوله: "انظروا إلى الملكات المقدونيات، لم تكن أياً منهن من السود"! بناء على هذا المنطق نتوقع اختيار ممثلة مقدونية بيضاء للقيام بدور كليوباترا! ثم إنّ وثائقي نتفلكس لم ينكر جذورها الإغريقية، كما تقدَّم.

ثمة جانب نسوي في المسلسل عن قوة المرأة وقدرتها على المواجهة والقيادة. وتظهر المرأة المصرية قديماً بصورة إيجابية مقارنة بالمرأة في روما. "كانت النساء في مصر يملكن حقوقاً شبه متساوية مع الرجال بموجب القانون. يمكن للنساء أن يخترن من يتزوجن ومن يطلّقن ويمكنهنّ أن يؤسسن عملًا ويحتفظن بأملاك خاصة بهن. بينما كان يفترض بالنساء في روما أن يبقين في البيوت خاصة نساء الطبقة الراقية. بينما لم يكن على نساء مصر الاستجابة لتك الفكرة.."، ثمة ما يمكن إسقاطه هنا على وضع المرأة في الحاضر وهو ما ينبغي أن يُخجل منه.

تزييف الوعي وتزوير التاريخ

من سيسيطر على وعي الجماهير ومن سيكون له المرجعية: نتفليكس أم علم التاريخ؟ الجامعة أم الشاشة؟

تستطيع الشاشة تزييف الوعي لكن ليس تزوير التاريخ. المسألة لا تتعلق بعدد من تتمكن من إقناعهم بالسردية الإعلامية الجديدة أو المغايرة لما هو سائد شعبياً وعلمياً؛ بل تتعلق بوجود مرجعية موثوقة علمياً. مع ذلك ترتبط الرغبة في تغيير الوعي بالأجندات من ورائها. فكما رأينا لم يكن التاريخ هو المرجعية الأساسية المقنعة التي اعتمدت عليها السردية الصهيونية في استيلائها على الأرض، بل اعتمدت بالدرجة الأولى على دغدغة المشاعر الإنسانية عبر مئات من الأفلام السينمائية والوثائقية. من خلال عبارة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" ومن خلال القوة العسكرية، تمكنت الصهيونية من تحقيق أهدافها. لكن ما الذي يمكن أن يكون وراء تكريس "المركزية الأفريقية"؟ هذا سؤال ينتظر من الباحثين الإجابة عليه خصوصاً وأن تكريس هذه المركزية ليس بجديد ويفترض أن يكون الباحثون قد خرجوا بنتيجة تقف وراء هذا الاحتفاء. أما تكرار الحديث عن وجود أجندات فيصب في خانة "نظرية المؤامرة" وهو ما لا يقبله العقل العلمي الذي لا يرضى لنفسه أن يكرر مقولات المنجمين.

تصريحات منتجي المسلسل تقول بأن اختيارهم لممثلة سمراء له هدف محدد، كما في مقالة كريج سيمبسون على "التليغراف" البريطانية: "جاء قرار اختيار ممثلة مختلطة الأعراق لتقوم بدور كليوباترا، من رغبة المنتجين في تمثيل السود على الشاشة". وهذا ما أكدته الممثلة الأمريكية والمنتجة التنفيذية بينكيت سميث في قولها: "أردت حقًا تمثيل النساء السود. لأننا لا نتمكن في كثير من الأحيان من رؤية أو سماع قصص عن الملكات السود". يبدو أنّ بينكيت لم تطلع على محتوى مسلسها وإلا لما صدر منها هذا التصريح المناقض لدعاوى الخبراء المتحدثين في المسلسل. سيبرز اعتراض منطقي على ما قالته بينكيت: يمكنك تمثيل السود باختيار قصص واقعية غير مثيرة للجدل كما فعلتِ في مسلسل "ملكات أفريقيات".

تقويض مركز وتكريس آخر!

لا يمكن تزييف التاريخ إلا مع غياب وثائق مكتوبة بالدرجة الأولى. هناك روايات مقابل أخرى، والباحث في التاريخ لن يعتمد على نتفليكس كمرجعية تاريخية ليعرف لون بشرة كليوباترا الحقيقي أو حتى ليستمد منه معلومات تاريخية. الهدف هو تغيير القناعات المتعلقة بالعنصرية، والاعتراض على هذا الاختيار يتذرع بالدقة التاريخية التي لا تنصف طرفاً، كما تقدم. تسعى نتفليكس لاستئصال العنصرية بإثارة الجدل الذي يحقق هدفين: تجاري بكسب أكبر عدد من المشاهدين، وفكري أو ثقافي بتحطيم الثوابت أو زعزعتها من خلال تطبيع علاقتنا بالمختلف عرقياً أو جنسياً أو دينياً. وهذا الهدف أثبت نجاعته فيما يتعلق بالمثلية الجنسية التي أصبحت أكثر قبولًا مما قبل.

نتفليكس تريد أن تزعزع الثوابت وتغير الثقافة العنصرية السائدة لا أن تزوِّر التاريخ. في الأخير سيبقى التاريخ، الصحيح، قائماً وستخفت العنصرية. ذلك لأن وظيفة التلفزيون/ الشاشة هي أن تغسل بالصور الإيجابية الحديثة صور الماضي السلبية القبيحة؛ فالعنصرية هي القبيحة لا تغيير التاريخ ولا حتى تزويره إن اعتبرنا أن ما تفعله نتفليكس تزويراً.

في برنامج (TALK)، سأل بيرز مورجان المؤلف إرنست أوينز: هل يمكن اختيار ممثل أبيض البشرة لأداء دور نيلسون مانديلا؟! السؤال ينطوي على جهل بالجدل حول شخصية كليوباترا وبالفارق بين الشخصيتين: كليوباترا ومانديلا. كما ينسى أن قيام ممثل أبيض بالدور سيفقد العمل قيمته. الجواب: نعم يجوز تبادل الأدوار؛ لو أن السود هم من كانوا يمارسون التمييز العنصري.

ثمة دروس يمكن أن نتعلمها من وثائقي نتفليكس: أولها أن نغير طرق الخطاب بتحري الموضوعية والعقلانية. وثانيها أنّ الشجب والصوت العالي ورفع قضايا في المحاكم وجمع التواقيع لإيقاف العمل... كلها وسائل قد تجدي في ملعبنا العربي، لكنها غير مجدية عند مخاطبة العالم.

ثمة هدف تجاري في احتفاء نتفليكس بالثقافة الأفريقية. تنظر نتفليكس إلى أفريقيا كسوق واعد. ولجذب المزيد من المشتركين الأفارقة تستثمر في صناعة السينما هناك وتسهم في ازدهارها. وهناك هدف ثقافي وأخلاقي: الاحتفاء بكل ما هو أفريقي في السينما والدراما يحدث في مجالات ثقافية وأدبية وفلسفية ويندرج ضمن تقويض المركزية الأوروبية أو- في السياق الفلسفي- "تصفية استعمار الفلسفة" بحسب تعبير الباحثة الفرنسية ناديا كيسوكيدي. قد يرى البعض في هذا تكريساً لمركزية جديدة، ويرى فيه آخرون احتفاءً مستحقاً بعد تهميش واحتلال دام طويلًا. لكن هذا الاهتمام، بحسب كيسوكيدي، لا يقتصر على قارة أفريقيا فقط؛ فقد بدأ الوسط الأكاديمي الفرنسي يهتم على نحو متزايد بما يتم إنجازه، والتفكير خارج العالم الغربي، وليس في أفريقيا وحدها. وثمة مفكرون يدافعون عن مشروع فلسفي يهدف إلى التفكير في العالم انطلاقاً من أفريقيا، وهذا مشروع مهم في وقت ماتزال أشكال الإمبريالية الثقافية قائمة ومرتبطة بتاريخ الاستعمار وبتسليع المعرفة. الاحتفاء الغائب الذي ينبغي مطالبة الغرب به اقتصادي ويتمثل في التوقف عن نهب القارة السمراء والبدء في تعويض ما تم نهبه.

مواضيع ذات صلة:

كليوباترا الأفريقية تثير غضب المصريين... ما القصة؟

ما حقيقة تعاون شيرين عبد الوهاب مع نتفليكس لإنتاج فيلم؟

ناصر القصبي يهاجم "نتفليكس".. ماذا قال عن فيلم "أصحاب ولا أعز"؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية