حسن الترابي: سلّم كارلوس لفرنسا وفاوض على بن لادن

حسن الترابي: سلّم كارلوس لفرنسا وفاوض على بن لادن


10/12/2017

برحيل الترابي، في الخامس من آذار عام 2016، طوِيَت صفحة جدلية من تاريخ رجل لَمَعَ نجمه في الانقلابات العسكرية، تماماً كما الموالاة فالمعارضة، والفتاوى الجدلية والتمرّد على كثير من الموروث الديني والاجتماعي.
عند الحديث عن شخصية كشخصية الترابي، فإن الأمور ستنحو، حتماً، نحو الجدليات التي وَسَمَت شخصيته ومواقفه الدينية والسياسية، على السواء، ما جعله واحداً من أكثر المفكّرين الذين لم يُحسم اللغط حولهم بعد، على الرغم من حجم الأثر الذي خلّفه لدى جيل الإخوان المسلمين الشاب في العقود الأخيرة.
يُحسب الترابي على الفكر الإخواني، في وقت كان يهجس فيه بتفكيك الموروث الديني والتعاطي معه من منظور تجديدي. كما فُتِنَ بالغرب وتجربته الحضارية وكانت البراغماتية عنوان علاقته به، وفي الوقت ذاته كان من بين منتقدي تدخل أمريكا بالمنطقة بذريعة حرب الخليج، إلى جانب كونه من أبرز مناهضي الديموقراطية بوصفة أمريكية. وهو أيضاً من قاد، ضمن حزبه، انقلاباً على المهدي. بيد أن رحلته مع المعتقلات لم تنته حتى في زمن من أتوا بعده، وإن كان يتقلّد مناصب رسمية.

تلقي الترابي تعليمه في أكسفورد والسوربون، فأتقن العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية، كما نشأ في كنف رجل صوفي

يُعدّ الترابي، الجدليّ بامتياز، والمولود شرق السودان في العام 1932، أحد أهم مجدّدي بند الفتاوى والنظر في الموروث الفكري الذي بات يتعامل معه المسلمون بمثل قدسية النص القرآني، كما في حالة الحجاب على وجه التحديد؛ إذ فسّر كلمة الحجاب بالحاجز الذي يتحدث منه الرجل مع المرأة، معتبراً أنّ الغطاء الأساسي هو لمنطقة الصدر التي كانت تكشفها النساء في الجاهلية.
الترابي والدفاع عن المرأة
ثمة جوانب أخرى تحدّث عنها الترابي، محدثاً حالة من اللغط المزمن، لعل من كلماتها المفتاحية المرأة؛ إذ كان يهجس بحقوقها المهمّشة في العالم العربي، مردداً أن أحد أبرز كبوات العالم الإسلامي تهميشها والاحتكام للفهم المتحجر للنصوص الدينية المتعلقة بها، ما دفعه لإعادة النظر في أحكام من قبيل الميراث وشهادة المرأة، التي جعلها مرهونة بالحالة المنظور فيها وليست حُكماً ثابتاً، وكذلك إمامتها للرجال وزواجها من كتابي.
ليس هذا فحسب، بل ثمة أفكار تقليدية عدة أعاد الترابي النظر فيها، مثل عذاب القبر وقتال الملائكة مع المجاهدين وعُمر خديجة بنت خويلد عند زواج الرسول – عليه السّلام - منها، وتحريم شرب الخمر بالمُطلق، وتعريف الحور العين.
يبدو جلياً مما سبق أنّ الرجل، الذي عُيّن وزيراً للعدل، ووزيراً للخارجية، ورئيساً للبرلمان، في السودان، عدا عن تاريخه الحزبي الطويل، لم يكن ممن يأخذون الأمور الدينية والسياسية المتداولة كمُسلّمات، بل كان يدقق فيها ويُفكّكها، معطياً الأولوية للنص القرآني على حساب النبوي، ليأتي الفهم المنطقي والعقلاني بعد هذا مباشرة، إلى جانب كونه ملمّاً أيّما إلمام بتعقيدات اللغة العربية ودواخلها، ما منحه فهماً متفرّداً للنصوص الدينية. وسياسياً، لم يكن الانقلاب على أحد ما دليل عداء (المهدي وكارلوس وبن لادن أنموذجاً)، كما لم تكن موالاة طرف ما دليل حب دائم (البشير أنموذجاً)، بل ثمة علاقات شدّ وترك وغرام وخصام، وما إلى ذلك من تقلّبات تجعل الرجل ظاهرة براغماتية تمشي على قدمين.

تعليم عال وأربع لغات

تلقّى الترابي تعليمه في جامعتَي أكسفورد والسوربون، فأتقن العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية بطلاقة، عدا عن كونه تربّى في كنف رجل صوفيّ وأسرة ميسورة، كان فرصة ذهبية لمنتقديه، الذين يرونه يخالف الصورة النمطية لرجل الدين الزاهد والآتي من خلفية دينية صارمة بظروف معيشية قاسية، كما يخالف ما أجمع عليه فقهاء الأمة من حيث الفتاوى والرؤى الفقهية، ما جعل الصحافة تقنص تصريحاته وفتاواه بشهيّة ملحوظة، معتبرين أنّ فيها مشاغلةً للعالم الإسلامي عن مخططات أمريكية وصهيونية، في وقت يقول فيه الترابي إنّ كثيراً من هذه الفتاوى انتُزِعت من سياقها.
يسوق مثلاً عن فتوى زواج المسلمة من كتابيّ، قائلاً إنها كانت حين سئل من قِبل امرأة أجنبية أسلمت للتوّ، عما إذا كان عليها الطلاق من زوجها غير المسلم، ما كان سيُرتب عليها حرماناً من الحقوق المادية وتلك المتعلقة بحضانة أطفالها، وهي الخسائر التي كان يخشى الترابي ألاّ يصمد أمامها إسلام هذه المرأة، ما دفعه لقول إن لا لزوم لطلاقها، بل لعل زواج المسلمة من غير المسلم يحثه على اتباع الدين بالحُسنى.

تلقي الترابي تعليمه في أكسفورد والسوربون، فأتقن العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية، كما نشأ في كنف رجل صوفي

من بين المواقف السياسية الأكثر جدلية حول الترابي، تلك المتعلقة بانقلابه على المهدي وإتيانه بعمر البشير، ومن ثم معارضته له لينتهي به المطاف في السجون والمعتقلات، برغم تقلّده مناصب رسمية، وكذلك ما يتعلق بتسليم المناضل الفنزويلي كارلوس (إلييتش راميريز سانشيز) للسلطات الفرنسية وهو تحت تأثير الحمّى والمخدّر، والتسليم الذي كان مزمعاً لأسامة بن لادن لأمريكا، في وقت كان ينتقد فيه الترابي قبضة الغرب المتغوّلة في العالم العربي. هذه من بين المواقف التي رأى الترابي أن الإشاعات شابتها، إلى حد حاول الوصول فيه لزنزانة كارلوس في فرنسا؛ لشرح الأمر.
جزئية بن لادن تحديداً، كانت تكشف حجم الإرباك الذي أحدثه الترابي للعالم أجمع؛ إذ في وقت كان ينعته خصومه بالمجافي للفتاوى التقليدية والفهم الكلاسيكي والمُجمَع عليه للدين الإسلامي، إلى حد وُصِمَ فيه بالمرتدّ والمهدور دمه، فإنّ أمريكا كانت ترى فيه راعياً روحياً للإرهاب؛ لمجرد أنّ بن لادن كان زوج ابنة شقيقته.
كيف تناول الإعلام شخصية الترابي؟
الجدليات التي وَسَمت الترابي، على المستوى الشعبي، هي ذاتها التي لاحقته إعلامياً، وعلى مدار عقود؛ إذ كانت فتاواه تثير كثيراً من اللغط حوله، سواء كان هذا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو المواقع الإلكترونية، أو المطبوعات، أو حتى تعليقات المتابعين عبر مواقع مثل "يوتيوب".
لعل الحلقات الأشهر، التي استُضيف الترابي خلالها ، كانت تلك الخاصة ببرنامج "شاهد على العصر" على قناة "الجزيرة"، مع المذيع أحمد منصور.

يبدو منصور متساوقاً في المقابلة مع المزاج الإخواني الذي ينظر بعين الريبة لفتاوى الترابي واجتهاداته؛ إذ لم يُظهر حماسة أو حتى رضا حيال معظم الأجوبة، بالإضافة لكونه حاول حشره في الزاوية عند سؤاله عن اعتقال كارلوس.
الطريقة التي أدار بها منصور الحوار، والتحضير المدهش الذي ظَهَرَ عليه في مداخلاته وأسئلته، دفع بالترابي لقول تفاصيل لربما لم تظهر من قبل إعلامياً، من قبيل تفاصيل ما حدث مع كارلوس وبن لادن. الارتباك كان جلياً على الترابي، وكان يحاول التهرّب من أسئلة منصور المحرِجة بكثير من الضحك ومحاولة اختلاق النكتة.
المنهجية التي اتبعها منصور في الحوار، دفعت بالترابي للتنصل من كلا القضيتين: كارلوس وبن لادن، من خلال قول إنه كان على صلة بكل المجتمع السوداني ومؤسساته، لكنه لم يعلم عن التسليم، ولم يعلم في البداية عن وجود بن لادن، قائلاً لربما أنّ الأمن يتعاون مع بعضه على مستوى عالمي، كما أن السودانيين لا يجيدون النقاش والإقناع، وقال في موضع آخر إن الغرب يأتونه ويظنونه صاحب الكلمة حين يطلبون منه تسليم بن لادن.

الأمن يتعاون مع بعضه على مستوى عالمي، كما أن السودانيين لا يجيدون النقاش والإقناع

يقول إنّ من بين ما قاله للأمريكان، إنه من الأفضل ترك بن لادن في السودان (الذي استثمر في البنية التحتية هناك وفي الزراعة أيضاً)، عوضاً عن الذهاب لأفغانستان، حيث الجبال التي لن تذكّره بغير الجهاد. هنا تظهر النزعة البراغماتية لدى الترابي جليّة، ولربما كانت أسئلة منصور التي تحمل طابع الإلحاح بشكل جليّ هي التي دفعته لقول هذه التفاصيل، بعد أن حاول التنصل طويلاً، تارة من خلال الضحك والإضحاك وتارة من خلال الإجابات المموّهة.
ظَهَرت عقلية الترابي، التي تفكر بدقة وبتفاصيل موغلة في العُمق، من خلال اعترافه إنه بدأ بالتفكير بانقلاب العام 1989 والتخطيط له منذ العام 1975.
الحلقات التي امتدت لستة عشر جزءاً، والتي سُجّلت في العام 2010، بينما لم تُذع إلا في 2016، أي بعد وفاته بحسب ما اشترطه على منصور، استعرضت منذ بداياتها طفولة الترابي التي لم تكن عادية، والتي أوصلته لما كان عليه؛ إذ كان منتظماً في مدارس بريطانية، وكان في الوقت ذاته مجيداً للغة العربية نحواً وصرفاً وشعراً، كما تلقّى على يدي والده، الذي يعمل قاضياً شرعياً، علماً دينياً، وتحديداً ما يتعلق بالمذهب الحنفي.
يظهر اعتداد الترابي بهذه الخلفية من خلال تعليقه على تديّن بن لادن بأنه تديّن بسيط، وبأن الرجل كان طيباً وأن معرفته دينياً وكلياً تفتقر للبُعد العالمي، ما يمكن أن يعكس التفرّد الذي ظَهَرَ لدى الترابي لاحقاً، حين كان يتعامل مع أقوال المتدينين بحذر ويفكّكها ويحلّلها ويعيد تصوّرها من جديد من منظور عالمي؛ فهو يعي جيداً السطحية أو البساطة المفرطة التي يبدو عليها الخطاب الديني في معظم المرات.
لم يكلّ الترابي ولم يملّ من العمل السياسي الفاعل، تارة منقلِباً وتارة موالياً وأخرى معارضاً؛ إذ ساقته أسئلة منصور التفصيلية للحديث عن انقلابه على المهدي ومن ثم لعبه بـ "البيضة والحجر"، إن جاز المصطلح، مع عمر البشير؛ إذ كان يتحالف معه في مرات فيقلّده منصباً وزارياً، ليأتي يوم آخر يكون فيه معارضاً فيُزجّ به في زنزانة مخصصة للمحكومين بالإعدام.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية