"أنا الدّولة. الدّولة أنا"... التّمهيد لقيام الدّولة الدّينية في العراق

"أنا الدّولة. الدّولة أنا"... التّمهيد لقيام الدّولة الدّينية في العراق


18/02/2021

فاروق يوسف

يُعتبر مقتدى الصدر الزعيم الأكثر تمثيلاً لرجل الدين المستبد الذي ارتقى سلّم السياسة في العراق ليصل إلى الموقع الذي يؤهّله للاعتقاد أن الدولة كلها ستكون بيده متى أراد وبالطريقة التي تعجبه. ذلك ما صرّح به أخيراً وما صار أتباعه يهيئون أنفسهم لتنفيذه على أرض الواقع. 

لن تكون الانتخابات المقبلة سوى إجراء فنّي ليس إلّا، هو بمثابة الخطوة التي تقود إلى الاعتراف بأن أحداً لن ينافس الصدر في ملكيته بعدما فرض مكانته على خصومه الذين كانوا إلى وقت قريب لا يرون به نداً مناسباً لهم، بسبب موقف المؤسسة الدينية الرسمية المناوئ له، باعتباره وارثاً لإقطاعية أبيه الذي لم تكن تلك المؤسسة تنظر إليه بطريقة جادة.

حضر مقتدى الصدر إلى المشهد السياسي العراقي بعد الاحتلال الأميركي مباشرة مثل سواه من الزعماء السياسيين، غير أنه يختلف عنهم في أنه لم يحضر من الخارج، وقد استطاع في وقت قياسي أن يؤسس ميليشيا "جيش المهدي"، وهي تنظيم طائفي مسلّح ارتكب جرائم قتل جماعي أثناء الحرب الأهلية (2006 ــ2007) كما قاتلته بعد ذلك القوات الأميركية في النجف والقوات العراقية في البصرة وبغداد وهُزم من غير أن تؤدي هزائمه إلى أفول نجم زعيمه الصدر. 

كان الفقراء هم إرثه من أبيه الذي لم تعترف النجف بمرجعيته، لذلك كان كل شيء يسير لمصلحته. فكلما ازدادات الأوضاع الاقتصادية سوءاً وكثرت أعداد الفقراء والمحرومين بين صفوف أبناء الطائفة الشيعية، توسّعت القاعدة الشعبية له، وكان في الوقت نفسه يلعب على وتر الوطنية، بحيث يبدو كما لو أنه يناهض التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية للعراق ومن قبله الاحتلال الأميركي. وهو ما كان يقدمه باعتباره زعيماً وطنياً في مقابل عمالة الآخرين وتبعيّتهم.

كان الصدر إلى وقت قريب يتسلل إلى الدولة من خلال الحكومة ومجلس النواب من موقع الشريك المنبوذ برغم أنه كان يحصل دائماً على حصة الأسد فيهما. ذلك ما صنع منه رقماً صعباً، وخصوصاً على مستوى اختيار رئيس الحكومة. كان الميزان يميل إلى الجهة التي يقف فيها. 

كان ذلك يرضيه، فمن خلاله يكون قادراً على الاستحواذ على الموارد الاقتصادية الأكثر. غير أن إمبراطوريته على المستوى البشري والمستوى المادي كانت تتّسع أمام أعين الآخرين من غير أن يتمكنوا من وضع حد لذلك الوضع الذي صار يخيفهم. 

ولو لم تتدخل "سرايا السلام"، وهو الاسم البديل لـ"جيش المهدي" في قمع المحتجين الشباب في الناصرية (إحدى مدن الجنوب ذات الأغلبية الشيعية) لما شكل الاستعراض العسكري الذي قامت به تلك الميليشيا في بغداد والنجف وكربلاء حدثاً مستنكراً على المستوى الشعبي.  

ولو لم يقع ذلك الاستعراض العسكري الذي نشر الذعر بين السكان المدنيين بهدف التلويح بالقوة الشرسة أمام أعين المحتجين، لكانت انتقالة الصدر في حديثه عن الدولة باعتبارها دولته نوعاً من الأمر الواقع الذي فرضته قاعدة شعبية صارت تتسع بسبب خذلان الطبقة السياسية لشرائح مهمة في المجتمع، ودفعها في اتجاه الخيار المضاد، في محاولة منها للتنكيل بالأحزاب التي تتهيأ لدخول الانتخابات المقبلة. 

في آخر تصريحاته قال الصدر ما معناه "الدولة هي أنا".       

لم يعلق أحد من أقطاب العملية السياسية بشيء على ذلك القول، كما لو أنهم اعتبروه فلتة لسان. وهو أمر لم يكن غريباً على الصدر. غير أن ذلك التقدير لم يكن صحيحاً ولم يكن في محله هذه المرة. فالرجل الذي بات في إمكانه أن يقلب المعادلات السياسية ويعطل عمل الحكومة ومجلس النواب، ويحصل على موارده الاقتصادية براحة وخفة، ويقوم باستعراضاته العسكرية في ظل حماية القوات المسلحة الرسمية، صار يجد أن من حقه أن ينتقل إلى مرحلة مصادرة الدولة. 

لا تكفي الأبوة السياسية التي مارسها الصدر لكي يكون كل شيء مضموناً. فبعدما فرض الصدر سلطته على الدولة، صار عليه أن يكون هو الدولة. بذلك الإعلان يسبق الصدر الانتخابات التي ستُجرى في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل ويمهّد لها. 

ولكن ألا يمثّل نزول "سرايا السلام" العسكري إلى الشارع والذي حدث كما لو أنه تجسيد فعلي لتلك المصادرة، إجراءً غير موفق يمكن أن تستعمله الأحزاب الأخرى في تحذير الناخبين من مغبة الاستمرار في تأييد الصدر الذي ألغى الدولة بكل مؤسساتها المدنية والعسكرية قبل أن ينال الأصوات التي يتوقع أنها ستؤهله للقيام بذلك؟ 

لا يمكن الإجابة عن ذلك السؤال بميزان الخطأ والصواب. فالحياة السياسية في العراق تحتمل طرفي المعادلة، وهي في كل الحالات لا تخضع لميزان من ذلك النوع. ذلك لأنها أقيمت وفق معادلات أخرى وعلى ميزان آخر يقبل الخطأ والصواب مجتمعين. فعلى سبيل المثال، فإن مَن يتصدّر دعوات الإصلاح ومحاربة الفساد هم أركان النظام السياسي الذين تحوم حولهم شبهات الفساد. ويمكن اعتبار السيد مقتدى الصدر واحداً من كبارهم، وإلا فكيف يمكن تفسير حصوله على موارد مالية صارت تؤهله للإعلان عن دولته المصغرة قبل أن يعلن عن إمكان استيلائه على الدولة؟

وإذا ما كان الصدر يجمع بين صفتي رجل الدين والزعيم السياسي، فإن حراكه اليوم إنما يمهد لقيام الدولة الدينية القائمة على الاستبداد السياسي. وهو ما لا تعترض عليه إيران وهي الدولة الراعية لأحوال النظام السياسي في العراق.  

عن "النهار" العربي

الصفحة الرئيسية