أيّ هزيمة أمريكية في أفغانستان؟

أيّ هزيمة أمريكية في أفغانستان؟


17/08/2021

الحبيب الأسود

انتصار طالبان العسكري بات كاملاً مع انهيار القوّات الحكوميّة الأفغانية في غياب الدعم الأميركي. ولا يمكن وصف ما حدث إلا بالهزيمة المدوية للولايات المتحدة التي تجد نفسها بعد حوالي العقدين من الزمن تغادر البلاد، وقد تكبدت فيها خسائر فادحة بلغت أكثر من 2300 قتيل ونحو 20660 مصابا بين جنودها مع جملة إنفاق عسكري ناهزت حتى سبتمبر 2019 حوالي 778 مليار دولار، إضافة إلى إخفاقات الوكالات الحكومية الأميركية المشرفة على مشاريع إعادة الإعمار وعلى تأمين القاعدة الخلفية بباكستان.

لقد فشلت واشنطن في أفغانستان، وانتهت إلى البحث عن منفذ للفرار المخزي، بينما سيعود ظلام التطرف ليطمس كل نقاط الضوء التي حاولت أن تقاوم من أجل حياة أفضل في بلد كان للغرب وحلفائه دور بارز في الوصول به إلى ما هو عليه اليوم، عندما تم إذكاء فكرة الجهاد باسم الدين لتحريك النعرات القبلية والعرقية في معركة التصدي للاتحاد السوفييتي قبل انهياره، وذلك من خلال تشكيل صورة الإرهاب كما انتشرت لاحقا واتسعت دائرتها لتتحول إلى ظاهرة عابرة للحدود والقارات تستهدف حتى الدول التي كانت سببا في انتشارها.

كانت بداية المأساة بانقلاب عام 1973، عندما أطاح سردار محمد داود خان حليف السوفييت بالنظام الملكي الأفغاني، وبدأ يرسي سياسات تقدمية ولاسيما في مجال الدفاع عن حرية المرأة وإطلاق خطتين خماسيتين للتنمية زادتا من حجم القوة العاملة في البلاد بنسبة 50 في المئة، لكن قمعه للمعارضة مقابل محاباته لأقاربه أنهى حكمه وحياته بالاغتيال في 1978 عندما ثار عليه شيوعيو الحزب الديمقراطي الشعبي الأفغاني، وتداول على حكم البلاد عبدالقادر دكروال ثم نور محمد تركي ثم حفيظ الله أمين ثم بابراك كارمل فمحمد نجيب الله الذي عُلّق يوم الثامن والعشرين من سبتمبر 1996 في إحدى الساحات العامة وسط كابول حيث لقي حتفه هناك شنقا، ويقال إنه قُتل رميا بالرصاص من قبل طالبان، وأما سكرتيره الخاص وحراسه فتم إعدامهم في اليوم التالي.

 لقد كان التدخل السوفييتي في أواخر ديسمبر 1979 لتشكيل ملامح النظام الموالي له كافيا لتتحرك الولايات المتحدة بكل قوة عبر تمويل المتمردين المحليين، ولتدعو حلفاءها للمشاركة في تحويل التمرد إلى حرب تحرير ترفع شعارات الجهاد، كانت واشنطن منذ بداية السبعينات قد أصدرت تعليماتها للدول الإسلامية، وبخاصة العربية منها، إلى إطلاق مشروع الدعوة والجهاد ضد التيارات الشيوعية والقومية وتحويل الدين إلى أداة متقدمة في الحرب الباردة ضد المعسكر الاشتراكي.

 بعد انسحاب السوفييت في العام 1989 انتظم المجاهدون الذين كانوا قد اكتسبوا القوة والمال، في أحزاب سياسية مختلفة ووجدوا دعما كبيرا من قبل دول مختلفة، وتحولت البلاد إلى نقطة جذب للمجاهدين ممن أغرتهم فكرة إقامة أنظمة إسلامية في بلدانهم، ولمن كانوا جاهزين للدوران في فلك مختلف أجهزة المخابرات ولاسيما الغربية منها، لكن لا أحد كان يهتم بمصير أفغانستان ذاتها، ولا بما ينتظر شعبها من ويلات جديدة.

سمحت حالة الفوضى لطالبان التي أعلنت عن نفسها رسميا في العام 1994 بالاستيلاء على السلطة في كابول، وبالسيطرة على كامل البلاد في العام 1998، وأعطتها فرصة الحكم وفق تفسيرات للدين تنسجم مع عصبية العرق والقبيلة، ولا تأبه بالمجتمع الدولي وحقوق الإنسان، فقد كانت الحركة حالة ثقافية محلية لبست لبوس الإسلام، وتحركت تحت ظلال البنادق لتفرض نمطها المجتمعي على جميع الأفغان باختلاف أعراقهم ومذاهبهم وطوائفهم ومناطقهم، وتحولت إلى مصدر إلهام للآلاف من الشباب المتمرّدين على العصر، والراغبين في استعادة التاريخ برؤية سلفية خالصة تم تطعيمها بفكرة الجهاد لتكتمل صورة الصحوة التي انفلتت من عقال داعميها الأصليين لتتحول إلى ظاهرة الجهاد العالمي أو ما بات يعرف بالإرهاب الدولي.

كانت أفغانستان منطلق تأسيس تنظيم القاعدة على يد عبدالله عزام وأسامة بن لادن في العام 1988 كامتداد لمكتب الخدمات ببيشاور الذي تأسس قبل أربع سنوات وكانت واشنطن ترعاه، وفسحت له أبواب تجنيد المتطوعين حتى على الأراضي الأميركية، وفي العام 1990 اكتشف مكتب التحقيقات الفيدرالي لدى مداهمته لأحد المقار في نيوجرسي الكثير من الأدلة على المخططات الإرهابية، بما في ذلك مخطط لتفجير ناطحات سحاب في مدينة نيويورك تم تنفيذه بالفعل في سبتمبر 2001.

في العام 1996 أعلن تنظيم القاعدة الجهاد لطرد القوات والمصالح الأجنبية من الأراضي الإسلامية. وأصدر بن لادن فتوى اعتبرت نفيرا عاما للحرب ضد الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، وبدأ في تركيز موارد القاعدة لمهاجمة الولايات المتحدة ومصالحها. ففي الخامس والعشرين من يونيو 1996 تم تفجير أبراج الخبر بالمملكة العربية السعودية مما أسفر عن مقتل 19 جنديا أميركيا. وفي الثالث والعشرين من فبراير 1998 شارك أسامة بن لادن وأيمن الظواهري زعيم الجهاد الإسلامي المصري إلى جانب ثلاثة آخرين من الزعماء الإسلاميين في توقيع وإصدار فتوى تحت اسم الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين.

كانت أفغانستان قد تحولت إلى عاصمة للإرهاب الدولي يقودها نظام لا يحظى باعتراف أغلب الدول، وكانت ضربات القاعدة قد انتشرت في الكثير من مناطق العالم، وأصبحت تمثل تهديدا جديا لمصالح الولايات المتحدة، ولاسيما في الشرق الأوسط وغرب وشمال أفريقيا، وفي داخل القارة الأميركية ذاتها، وكان واضحا أن العقوبات الاقتصادية لا ترهب نظام طالبان، كما أن فكر القاعدة بدأ في الانتشار على نطاق واسع، وعندما تم تنفيذ تفجيرات نيويورك التي مثلت طعنة في صميم كبرياء الأميركيين، قررت واشنطن الحرب التي ستستمر 20 عاما.

استعملت الولايات المتحدة كل إمكانياتها العسكرية والأمنية والمالية والسياسية والإعلامية وحتى السينمائية والفنية في معركتها في أفغانستان لتضطر أخيرا للمغادرة، تاركة لجماعة طالبان الجمل بما حمل، وكأنها تؤكد بذلك أن القوة العسكرية قد تسقط نظاما ولكنها لا تنهي فكرة كان يقوم عليها، وأن التدمير ممكن لكن إعادة البناء الحقيقي تبقى أمرا صعبا، وربما مستحيلا، وأن إعادة تشكيل ثقافات الشعوب وفق الإرادة الغربية غير ممكنة ما لم تكن مستندة إلى رغبة من داخل الشعوب والمجتمعات المستهدفة، يكفي أن مسلحي البشتون البسطاء هزموا المشروع الأميركي بكل جبروته، ودفعوا بالولايات المتحدة إلى الانسحاب مكرهة، واليوم يتقدمون للسيطرة من جديد على البلاد بأكملها.

سيكون من الصعب حصر الثغرات والأخطاء التي صاحبت الوجود الأميركي في أفغانستان، لكن المؤكد أن وهم الديمقراطية الغربية لم يكن منسجما مع طبيعة المجتمع الأفغاني، وبناء أجهزة الدولة خلال السنوات الماضية لم يكن حرفيا ولا جديا وإنما كان مجالا لممارسة الفساد بأدوات السيد الأبيض خارج بلاده، كما أن التغيير الحقيقي الذي يتعلق بالتعليم والثقافة والإعلام وببناء العقل الديمقراطي لم يتحقق، وبقي التركيز على العاصمة كابول عنوانا لفشل انهارت أمامه جميع الأوهام.

لم تهزم الولايات المتحدة فقط كقوة عسكرية في أفغانستان، ولكن كذلك كرمز لحضارة العالم الحر ولثقافة الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان، وسيكون عليها تذكر الدرس الأفغاني كلما قادتها أطماعها إلى مجرد التفكير في مغامرة جديدة خارج حدودها.

عن "العرب" اللندنية

الصفحة الرئيسية