خمسة وسبعون عاماً والنّكبة قائمة

خمسة وسبعون عاماً والنّكبة قائمة

خمسة وسبعون عاماً والنّكبة قائمة


16/05/2023

راغب جابر

خمسة وسبعون عاماً وما زال الصراع متأججاً. في 15 أيار (مايو) 1948 أعلن قيام دولة إسرائيل (اليهودية) على أرض فلسطين (السورية) أو (العربية)، يوم يحتفل به الإسرائيليون باعتباره يوم الاستقلال (ليس معروفاً عمّن) ويحييه الفلسطينيون ومعهم الكثير من العرب باعتباره يوم النكبة كما سماه المؤرخ السوري العروبي الكبير قسطنطين زريق.

ما زالت النكبة قائمة رغم مرور دهر على وقوعها، قائمة على الأرض وفي النفوس، فما حدث ليس جريمة فردية أو حدثاً عابراً. لم تنته مفاعيل النكبة بعد وضحاياها ما زالوا على تخوم مدنهم وبلداتهم وأرضهم.

الفلسطينيون الذين اقتُلع نحو مليون منهم من أرضهم وشُردوا إلى دول الجوار والعالم، أصبحوا مع من بقوا في فلسطين عشرة أضعافهم، وما زالوا يحتفظون بمفاتيح منازلهم التي دمرتها العصابات الإرهابية الصهيونية شتيرن والهاغاناه والآرغون، والتي تسنّم زعماؤها لاحقاً مسؤولية الحكم في الدولة: بن غوريون وبيغن وشامير وشارون وغيرهم. واليهود الذين جلبتهم الوكالة اليهودية من كل أنحاء العالم إلى فلسطين تحت المظلة الدولية وبغطاء غير أخلاقي من عقدة ذنب أوروبا التي اضطهدتهم وقتلتهم ثم وهبتهم أرضاً ليست لها ولا لهم للخلاص منهم، وجعلهم قاعدة لها في قلب العالم العربي الخارج مرهقاً مشتتاً عسكرياً وذهنياً بعد خمسة عقود من الحكم العثماني التركي، هؤلاء اليهود أصبحوا سبعة ملايين بعدما كانوا نحو 5 في المئة من سكان فلسطين في بداية القرن العشرين.

لم تحل النكبة صدفة، لم تفاجئ أحداً، كان السوريون (نسبة إلى سوريا الكبرى التي كانت فلسطين تسمى جنوبها) يعرفون أنها آتية، حاولوا مقاومتها، أدركوا مرامي اتفاقية سايكس بيكو (1916) لتقسيم بلادهم وجعل فلسطين تحت وصاية بريطانيا في مؤتمر سان ريمو (1920) بعد الحرب العالمية الأولى وتقاسم تركة الدولة العثمانية المهزومة، بعدما كان وزير خارجية بريطانيا أرثر بلفور قد تبرع عام 1917 بفلسطين وطناً قومياً لليهود. سبعة مؤتمرات فلسطينية سورية رفعت الصوت معترضة على تقسيم سوريا وعلى الهجرة اليهودية وعلى تواطؤ بريطانيا التي انتُدبت رسمياً على فلسطين عام 1922، واتبعت بإضرابات وثورات أبرزها ثورة 1936.

كان قرار إقامة دولة إسرائيل اليهودية قد اتخذ على أعلى المستويات الاستعمارية الغربية، أطلقت كذبة مروعة مفادها أن فلسطين أرض بلا شعب، وستعطى لشعب بلا أرض. أطلقوا الكذبة وأقنعوا الشعوب الغربية بها حتى سرت لوقت طويل مقولة إن فلسطين كانت صحراء قاحلة، وأن المستوطنين اليهود استصلحوها وحوّلوها "جنة". لكن ما كان لهذا الكيان أن يقام سلمياً ولا ديموغرافياً. الأكاذيب لا تلغي الواقع، والواقع أن فلسطين أرض عمار يسكنها أهلها منذ آلاف السنين واسمهم الفلسطينيون منذ ما قبل موسى وقومه الذين تقول كتب اليهود إنهم فروا من مصر إليها بعدما اضطهدهم الفرعون الذي لا يُعرف من هو حتى الآن. 

ولأن الفلسطينيين كانوا أهل زراعة وتجارة وصناعة وعلم متجذرين في أرضهم، كان لا بد من اقتلاعهم بالقوة، والقوة هي العنف، لذلك أنشأت الصهيونية العالمية، إلى جانب الدبلوماسية الميكيافيلية والتزييفية، عصابات مسلحة عنيفة ارتكبت مجموعة من المجازر في المدن والقرى الفلسطينية لترويع الشعب الفلسطيني الأعزل من السلاح إلا من بعض الجيوب هنا وهناك. لعل أكثرها وحشية مجزرة كفرياسين ومجزرة الطنطورة ثم مجزرة كفرقاسم، عدا مجازر حيفا ويافا وطبريا وسائر مناطق فلسطين. كان المقاومون الفلسطينيون لا يملكون السلاح، وإذا امتلكوا بعضه المتخلف فبلا ذخيرة في مواجهة "جيش" يملك المدافع والقنابل والأسلحة الرشاشة ومخازن الجيش الإنكليزي والبواخر المبحرة من موانئ بعيدة. وما كان لما سُمي "جيش الإنقاذ العربي" وبطولات بعض ضباطه وأفراده والمتطوعين معه أن يحقق هو الآخر نصراً حاسماً في ظل انقطاع موارد السلاح والقرارات السياسية المرتبكة وغير المبررة.  

لقد وثّق التاريخ كل المجازر التي رافقت قيام إسرائيل وكل ما بعده حتى الآن، لكن ما لا يعيره العالم كثير انتباه أن هذه المجازر، علاوة على فعل اغتصاب فلسطين نفسه، مطبوعة دائماً في عقل الشعب الفلسطيني الذي لم ينس ولن ينسى.

ولأن الأسى لا يُنسى، ظهرت حركات المقاومة الفلسطينة منذ 1959 ثم تأسست منظمة التحرير الفلسطينية وخيضت معارك وحروب في إطار الصراع العربي الإسرائيلي، وتعرضت الجبهة العربية لنكبة أخرى عام 1967 لكن العرب اتفقوا، للتقليل من وقعها، على تسميتها نكسة، وقد خسروا فيها سيناء المصرية والجولان السوري والضفة الغربية والقسم الشرقي من القدس، ومعركة الكرامة في غور الأردن التي انتصر فيها الجيش الأردني والفدائيون على الجيش الإسرائيلي.

حروب المقاومة الفلسطينية وعملياتها السرية والمعلنة أشعلت حرباً على امتداد العالم بينها وبين إسرائيل. حرب تفجيرات واغتيالات من لندن إلى باريس إلى روما إلى اليونان وقبرص... حتى إلى الأرجنتين. توسعت رقعة الصراع وازداد عنفاً واستجلب حروباً على الجبهة اللبنانية خصوصاً، اجتياح إسرائيلي عام 1978 اكتفى بشريط حدودي ثم اجتياح آخر عام 1982 وصل إلى احتلال ثاني عاصمة عربية، بيروت.

وبعد الخروج من بيروت اندلعت ثورات الحجارة ابتداءً من 1987 في ما بدا أنه تغير استراتيجي في الصراع. المواجهة من الداخل، وهو ما تعزز بعد أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية، ثم سيطرة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" المرتبطتين بإيران على قطاع غزة، حيث الحروب لا تتوقف حتى تندلع من جديد بكثير من العنف والقتل والدمار التي تحل بالفلسطينيين.

في مشهد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي اليوم حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة، تجاهر بعنصريتها وبإفراطها في استخدام القتل والعنف ولا تتورع عن تحدي العالم، بمن فيه حلفاؤها، برفضها الدائم لأي سلم محتمل، وتتنكر لكل الاتفاقيات التي أبرمتها مع الفلسطينيين. حكومة تشبه حكومات العصابات الأولى، تضم إرهابيين على شاكلة بن غفير ونتنياهو وغيرهما. حكومة تعكس ميلاً شعبياً إسرائيلياً واضحاً نحو العنف والانعزال والتقوقع في ما يشبه غيتو هو أشبه بقاعدة عسكرية محصنة.  

في المقابل، أوضاع فلسطينية معقدة ومذلة تحت الاحتلال وممارساته، وأفق مغلق في ظل قوانين إسرائيلية عنصرية كقانون يهودية الدولة واقتحامات للمخيمات والمدن وتهديم القرى والمنازل وتهديد بالترحيل وقهر اقتصادي واجتماعي، وسلام مستبعد رغم كل التنازلات التي قدمتها القيادة الرسمية الفلسطينية. هذا الواقع معطوفاً على الوجدان والانتماء الوطني والشعور القوي بالكرامة والثأر رداً على الظلم، خلق داخل البيئة الفلسطينة جواً عاماً يميل إلى الصراع أياً كانت النتائج.  

في ذكرى النكبة، يبدو أن هذا الصراع لن يتوقف ما دامت النكبة ماثلة وقائمة.

عن "النهار" العربي

الصفحة الرئيسية