كيف انقلب الغنوشي على إسلامه الديمقراطي وعاد إلى بيت الإسلام السياسي؟

كيف انقلب الغنوشي على إسلامه الديمقراطي وعاد إلى بيت الإسلام السياسي؟

كيف انقلب الغنوشي على إسلامه الديمقراطي وعاد إلى بيت الإسلام السياسي؟


20/04/2023

مختار الدبابي

لم تكن كلمة راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الإسلامية في اجتماع جبهة الخلاص الوطني عابرة، وقد تضمنت كلمات مشحونة أثارت ضجة كبيرة ونقاشات بعضها يقول إن الغنوشي تكلم على سليقته ولم يكن يقصد ما صاحب حديثه من تأويلات، والبعض الآخر يقول إنه يقصد ما حملته تلك الكلمة من تهديدات مبطنة ومفردات مشحونة تعيد التونسيين إلى ذاكرة قديمة مع الحركة الإسلامية منذ أن كانت جماعة مرورا بمرحلة الاتجاه الإسلامي وصولا إلى وضعها الحالي.

والحقيقة أن شخصية في حجم رئيس حركة النهضة بميراثه في التكتيك والمناورة لا يمكن أن يطلق الحديث على عواهنه ويتكلم دون أن يطلق رسائل موجهة إلى خصمه الرئيس قيس سعيد بالدرجة الأولى وإلى دوائر أخرى قد تفكر في أن التخلص من النهضة أمر سهل.

ويمكن لقراءة هادئة في باطن خطاب الغنوشي، والذي رغم قصره، فقد كان مكثفا ومركزا وهادفا، أن تصل إلى تفكيكه وقراءة رسائله المخفية.

وقال الغنوشي إن “تونس من دون الإسلام السياسي أو اليسار مشروع حرب أهلية. هذا إجرام”.

وتبرز الحقيقة الأولى في أن الغنوشي هو من يصنف نفسه، وليس غيره، على أنه إسلام سياسي، وليس حركة سياسية بإطار إسلامي.

والسؤال، هنا، ما الذي يجعل الغنوشي ينقلب على شعاراته القديمة بشأن انتماء حركته وشخصه إلى مخترع “الإسلام الديمقراطي” ليقول للناس إنه عاد إلى بيته القديم، بيت الإسلام السياسي، وما يشير إليه من محاميل سياسية ودينية وهوية عابرة للدولة واستعادة لخطاب الجماعة أو التنظيم العابر للحدود.

ويخفي هذا الانقلاب/ الانتكاس إلى ماضي الإسلام السياسي مرارة لدى رئيس حركة النهضة من أن جهوده في ابتداع “إسلام ديمقراطي” يخطف الأنظار ويجلب الثناء قد فشلت، وأن الذين راهن عليهم في الاعتراف ببراءة اختراعه والانفتاح على هذا النمط من الإسلام واعتماده فخا/ مدخلا لاستيعاب الحركات الإخوانية، قد تخلوا عنه أو خانوه.

يمكن أن تكون الرسالة موجهة إلى دوائر سياسية أو حقوقية غربية كان الغنوشي يراهن على أنها ستكون ظهيرا لحركته ولـ”إسلام ديمقراطي” يقود الحكم أو يكون فيه شريكا من دون أن يحيل بأي صيغة إلى وجهه الإسلامي الإخواني الذي يعتقد أن “الإسلام هو الحل” في جميع مناحي الحياة.

لم تتحرك هذه الدوائر الغربية، التي قد تكون أوحت بإعجابها بخطاب الغنوشي، لإنقاذه في أول اختبار حقيقي بعد أن فقدت الحركة السلطة ودخلت مرحلة لي ذراع مع قيس سعيد من دون أن تنجح في تحصيل أي تنازل من عنده، كما لم يتدخل أحد للضغط عليه.

ويقول منطوق خطاب الغنوشي لهذه الدوائر الغربية بتأكيد عودته إلى منظومة الإسلام السياسي إن النهضة لم تعد حركة سياسية بمعنى الديمقراطيين الإسلاميين على صيغة الديمقراطيين المسيحيين التي سعى لإقناع الغرب بها واستمالته وطمأنته إلى أن الإسلاميين ملل ونحل فيهم المتطرف وفيهم الليبرالي الديمقراطي.

وخلال فترة حكم النهضة سعى الغنوشي وقيادات أخرى مقربة منه فكريا إلى إطلاق تصريحات تركز على إظهار القطيعة مع الخلفية الإسلامية وفكرة “أسلمة المجتمع”، وذهبت أبعد من ذلك من خلال محاولة التصالح مع معجم “سيداو” وخطاب الحركة النسوية المحلية والدولية.

وقال الغنوشي في خطابات وتصريحات سابقة إن حركته حسمت مع الإسلام السياسي، وأنها “حزب تونسي وطني يعمل في إطار الدستور التونسي”، و”لسنا إسلاما سياسيا”، وأن “تيار الإسلام الديمقراطي من الممكن اعتباره تيار ما بعد الإسلام السياسي”.

وكتب الغنوشي في دورية “فورين أفيرز” في 2016 “لم نعد نرى في النقاشات الأيديولوجية القديمة حول أسلمة المجتمع وعلمنته مهمّة أو حتى ذات صلة، ولم يعد التونسيون مهتمين بدور الدين، بقدر ما هم مهتمون ببناء نظام حكم ديمقراطي يسع الجميع”.

ولا يعرف ما إذا كان الغرب قد صدق تنازلات الغنوشي وصحبه وتعامل معها بعدم حماس أم أنه كان يرى من البداية أنها لعبة للطمأنة وكسب الثقة، ولذلك لم يتحرك للدفاع عن النموذج الذي يسعى للارتقاء بالإسلام من وجهه التقليدي إلى وجه الديمقراطي وتقريب المسافات بينه وبين الديمقراطية المسيحية.

من جانب ثان، قد تكون رسالة الغنوشي من وراء التخلي عن إسلامه الديمقراطي والعودة إلى جلباب الإسلام السياسي موجهة إلى الطبقة المدنية والحقوقية “العلمانية” التونسية التي عمل الغنوشي على استرضائها وطمأنتها ونيل ثقتها من خلال إعلانه التخلي عن تطبيق الشريعة، وتمسكه بمجلة الأحوال الشخصية كمدونة للأسرة رغم ما فيها من خلاف مع موروث “الجماعة الإسلامية” “والاتجاه الإسلامي” ذي الخلفية الإخوانية.

هل الإعلان عن الانتماء إلى الإسلام السياسي في مقابل اليسار، وهو التيار الفعلي الذي قطع الطريق أمام تمكين النهضة، والتلويح باستحالة “الاستئصال” و”الإقصاء” رسالة يأس من خيار الرهان على التوافق والبحث عن المشترك وإيحاء إلى التراجع عن مسار التنازلات الخاصة بهوية النهضة ومرجعيتها الإخوانية؟

وهل أن استدعاء مفردات “الحرب الأهلية” فيه تخويف لهذه الطبقة العلمانية التي لم تتحمس لإسلام ديمقراطي ليبرالي خاصة أن لهذه الطبقة ميراثا من المواجهة العنيفة مع الإسلاميين في صورتهم القديمة، سواء في الجامعة التونسية حين سعى التيار الإسلامي لفرض نفسه في ساحة يهمين عليها اليسار وحصلت خلالها مواجهات وحوادث دموية بين الطرفين؟

وأرسل الغنوشي الأحد إشارات أثارت تساؤلات في الساحة التونسية، خاصة بحديثه عن أن استثناء الإسلام السياسي “إجرام” و”مشروع حرب أهلية”، في استدعاء واضح لمخاوف التونسيين من التوترات الأمنية التي شهدتها البلاد بين 2012 و2013 من اغتيالات سياسية وعمليات إرهابية استهدفت الجيش والأمن والسياحة وطالت المدنيين.

وتحرّك إشارات الغنوشي إلى “الحرب الأهلية” في ذاكرة التونسيين ما قامت به عناصر محسوبة على الحركة من عمليات عنف في 1987 وبعدها في 1991 ضد مختلفين معها في الرأي من أئمة مساجد أو منتمين إلى الحزب الحاكم.

ويمكن أن نذكر في هذا السياق أحداث باب سويقة سنة 1991، التي ارتبط اسمها بحركة النهضة، وفيما تجنب النهضة الاعتراف بها والاعتذار عنها، فإن بعض قيادييها الفاعلين في تلك الفترة اعترف بها مثل عبدالحميد الجلاصي.

كما اعترف بها أحد القادة الميدانيين الذين نفذوا أعمال عنف خلال المواجهة مع نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وهو كريم عبدالسلام الذي ظهر على وسائل الإعلام ليقول إنه هو من حرّض وخطط وشارك في الهجوم ضمن فريق من 16 عنصرا نهضويا على شعبة التجمع الدستوري الحاكم وقتها في باب سويقة ومقتل حارسها حرقا، وذلك ضمن مسار رسمي قام على فكرة “تحرير المبادرة” في مواجهة النظام، بما يعنيه استعمال الأدوات الممكنة في تلك المواجهة.

وإذا كانت حركة النهضة لجأت إلى التخفيف من صدى مفردات الغنوشي الأخيرة، والتي قادت إلى اعتقاله، فإن القراءات الذي ذهبت إلى التأويل المغاير تجد مشروعيتها في سلوك الإسلاميين في الماضي سواء أكان ردة فعل في مواجهة قوة الدولة أو هو خيار إستراتيجي لفرض الفكرة بالقوة.

ولهذا يتعامل السياسيون التونسيون بمخاوف مع حديث الغنوشي عن “الحرب الأهلية” حتى ولو كان في سياق عادي تحذيري افتراضي من خطر قادم وليس تهديدا مبطنا.

كما أنهم يفرقون بين التحذير الذي يأتي على لسان شخص آخر مثل الأمين العام لاتحاد الشغل نورالدين الطبوبي وبين التلويح المبطن بحرب أهلية على لسان زعيم حركة النهضة، ذلك أن النهضة حركة سياسية ارتبط بها سلوك العنف من قبل، ولديها أهداف سياسية واضحة ومعلنة بينما الطبوبي نقابي لا يفهم وضعه ويعتقد أن التهويل يمكن أن يدفع الحكومة إلى التجاوب.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية