ماذا تخبرك الأزياء عن رحلة التحولات السياسية والدينية في السودان؟

ماذا تخبرك الأزياء عن رحلة التحولات السياسية والدينية في السودان؟


10/03/2021

يبدو أنّ تطوّر الأزياء السودانية (المدينية) في العصر الحديث، ارتبط بشكلٍ مباشر بذات التطورات التي كانت تحدث في مصر، لكن ذلك لا ينفي أنّ للسودانيين، خاصة سكان الريف، أسلوبهم الخاص في اللبس الذي لم يتأثّر بما يرد من الخارج إلا لمِاماً، وفي ظل أوضاع سياسية واقتصادية مُحددة .

مع دخول القرن التاسع عشر بدأت الأزياء النسائية السودانية تتغير بشكل مطرد ووتيرة سريعة

يقول جون لويس بوركهارت في كتابة الشهير "رحلات بوركهات إلى بلاد النوبة والسودان - 1829": "إنّ الرجال في شمال السودان كانوا يرتدون حينها مآزر تثبت حول خصورهم لتغطي الأجزاء السفلية منهم دون العليا، وكذلك النساء غير المتزوجات، أما المتزوجات فكًن يسدلن قطعة من القماش على صدورهن، علاوة على المئزر السفلي"، فيما يؤكد الباحث في الأزياء السودانية محمد خير منصور أنّ "الصبية في شمال ووسط السودان كانوا في الغالب لا يرتدون شيئاً في ذات الحقبة من القرن قبل الماضي، إلى أن يبلغوا سن الرشد، حينها فقط يسمح لهم بارتداء ثياب قصيرة لا تتجاوز الركبة وتُسمى (عراريق) مفردها (عرّاقي)".

الأزياء النسائية

تقول الباحثة تيسير سالم لـ (حفريات): "كان الزي النسائي الأكثر انتشاراً حتى بدايات القرن الماضي، هو ما يسمى (بالرحط) وهو مخصص لغير المتزوجات، ويتكون من شرائح جلدية رفيعة تُلف وتربط حول الخصر وتتدلى إلى منتصف الفخذ، فيما تظل صدورهن عارية".

اقرأ أيضاً: الإسلام السياسي في السودان.. الجريمة الكاملة!

وتضيف سالم "تظل الفتيات متمسكات بلبس (الرحط) إلى أن يتزوجن، حينها فقط يُسمح لهنّ بالتخلي عنه ولبس ما يسمى بـ(القرقاب) بدلاً منه، وهو قطعة قماش تُلف على الجزء الأسفل من الجسد من الخصر حتى الساقين، فيما تسدل قطعة أخرى على الجزء العلوي منه، خاصة في المجتمعات الريفية".

بدا التغيير أكثر وضوحاً في فترة الاستعمار البريطاني وظهر تأثّر النساء العاملات والطالبات بالأزياء الأوروبية

خلال تلك المرحلة؛ أي بعد العام 1800 تقريباً، بدأت الأزياء النسائية السودانية تتغير بشكل مطرد ووتيرة سريعة، فحل (الثوب/ التوب) السوداني، محل القرقاب الذي بدأ في التراجع أمام الزائر الجديد، وحلت (الجلابية/ المصرية) محل (العراقي) السوداني الرجالي الذي تراجع ليصبح لباساً داخلياً يوضع تحتها، وأخذت الأزياء الرجالية والنسائية تتبلور لتأخذ سماتها الخاصة ذات الطابع المحلي المتأثر بالثقافات السودانية المتنوعة، إلى أن وصلت إلى ما هي عليه الآن.

"الرحط" اللباس المخصص لغير المتزوجات

سيادة الثوب

تواصل تيسير حديثها: "بدا التغيير أكثر وضوحاً في فترة الاستعمار البريطاني، وظهر تأثّر النساء العاملات والطالبات بالأزياء الأوروبية، ما جعل استخدام (القرقاب) يتراجع نسبياً بين النساء المتعلمات لصالح الفستان الذي كان يتم ارتداؤه تحت الثوب السوداني، وساعد على ذلك توافر الأقمشة المستوردة في الأسواق".

في الستينيات مع بروز حركات التحرر الوطني والدعوة إلى تحرير المرأة وخروجها للعمل تزايد اهتمام النساء بالموضة

أما غالبية النساء خاصة الفقيرات فقد كن، وفق تيسير، يرتدين ما يُعرف بثوب (الزراق) وهو قماش مصنوع في مصر رخيص الثمن ومنخفض الجودة، بجانب الثوب (البنغالي) الذي كان يُصنع محلياً ويُقال إنّ الهنود الذين جلبهم البريطانيون هم من بادر إلى تصنيعه وتسويقه والترويج له.

فى ستينيات القرن العشرين، ومع بروز حركات التحرر الوطني والدعوة إلى تحرير المرأة وخروجها للعمل، تزايد اهتمام النساء بالموضة وأطلقن على الثياب السودانية أسماء معينة مثل: (أسبوع المرأة)، (الخرطوم بالليل) و(عيون زروق) نسبة إلى أول طبيب عيون سوداني كان يحمل هذا الاسم، ويقال في رواية أخرى إنّه منسوب إلى السياسي والمناضل السوداني "مبارك زروق".

عدد من الناشطات بمبادرة "لا لقهر النساء"

الزي الإسلامي

تمسّك الرجال السودانيون بالجلابية (التوب)، والطاقية والعمّة (العمامة)، إلى جانب الزي الإفرنجي (بنطال وقميص) منذ بداية الثلث الأول من القرن الماضي وحتى الآن، رغم أنّ كثيرين منهم جرّبوا ارتداء البرانيط والطرابيش والقبعات والكوفيات في أوقات متفاوتة، فيما ساد بين النساء ارتداء الثوب السوداني الشبيه بالموريتاني.

فيما يتعلق بالزي الرجالي فقد تعرض بشكل أو آخر للتغيير وإن كان بنسبة أقل من النسائي

لكن مع ازدياد نشاط الحركات الإسلامية، خاصة حركة الإخوان المسلمين في نهاية سبعينيات القرن الماضي، ظهرت جمعيات نسائية وسياسية إسلامية التوجه دأبت على تنظيم ندوات وورش عمل ومعارض تروج خلالها لما يسمى بالزي الإسلامي (الحجاب)، ما أفرز جيلاً من المحجبات منتسبات لهذه الجمعيات وغيرها، لكنهن احتفظن بالثوب السوداني بجانب الوافد الجديد (الحجاب).

اقرأ ايضاً: إلى متى تبقى السودانيات رهينات "السوط" الحكومي؟

المفارقة، أنّ السودانيات لا يملن إلى لبس البنطال إلا فيما ندر، وقد يرجع ذلك، بحسب الباحثة الاجتماعية سامية الجاك في حديثها لـ (حفريات)، إلى أنّ كثيرين يعتبرونه زياً رجالياً خالصاً، لا يحمل سمات أنثوية، ولربما لذلك يطلقون على من ترتديه لقب (محمد ولد)؛ أي متشبهة بالرجال.

لولا المضايقات لساد البنطال

تعتقد سامية الجاك، أنّ البنطال لكونه زياً عملياً ومريحاً ورخيصاً، كان له أن ينتشر بشكل أكثر ولربما ساد بين النساء العاملات أكثر من الثوب التقليدي أو الفستان لولا مضايقات الأنظمة أحادية الاتجاه، بحسب تعبيرها، أما فيما يتعلق بالزي الرجالي، فقد تعرض بشكل أو بآخر للتغيير والتحولات، وإن كان بنسبة أقل من نظيره النسائي، وتأثر بالثياب الخليجية والأفريقية بجانب أزياء الطرق الصوفية. أما بالنسبة للرجال ما بين الثامنة عشرة والأربعين من العمر، فإنّ الجلابية مرتبطة بالنسبة لهم بصلاة الجمعة والعيدين والمناسبات الاجتماعية، وفيما عدا ذلك فلا يرتدونها إلا فيما ندر.

الجاك: كلما حاولت السلطات فرض زي محدّد بالقهر والقوة ذهب المجتمع في الاتجاه المضاد

فيما يتعلق بأزياء النساء، فإنّ الحركة الإسلامية الحاكمة فشلت في تحويلهن إلى "الزي الإٍسلامي"، وبدلاً من ذلك فإن سودانيات ما بعد العام 1989، استطعن أن يفرضن أنماطاً تخصهن من الأزياء؛ طرحة قصيرة للرأس، تستخدم في الشارع العام فقط، وتوضع على الكتف ما أن تصل الواحدة إلى جامعتها أو مكان عملها، وفساتين أو اسكيرتات وبلوزات ضيقة، أو بناطيل ببلوزات طويلة تصل إلى الركبتين، فيما ظل استخدام (التوب) السوداني يتراجع إلى المناسبات الاجتماعية، بينما ينحسر عدد المحجبات.

فشلت الحركة الإسلامية في فرض الزي الإسلامي

ما يُفرض بالقوة

إلى ذلك تختم سامية الجاك حديثها قائلة: "ما لا شك فيه أنّ الأزياء السودانية تطوّرت بشكل كبير عبر الحقب السياسية والاجتماعية المختلفة، وفقاً للموضة والانفتاح على الخارج، وكذلك نتيجة للتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي طرأت في العقود الثلاثة الأخيرة؛ "فالأزياء عموماً تعتمد في تبدلاتها وتحولاتها الكبرى على مقدار الانفتاح على الآخرين وتقليدهم، وكذلك على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السائدة، بجانب التوجهات السياسية والدينية للحكومات المختلفة".

اقرأ أيضاً: معركة السودان التربوية: التدين الشعبي بمواجهة "الدين الجديد"

لكن تؤكد أنّه لا بد من أخذ كل ذلك بحيطة وحذر؛ حيث ترى إنّه في المقابل قد تفضي التوجهات السياسية والدينية إلى نتائج عكسية وغير متوقعة، "فكلما حاولت السلطات فرض زي محدّد بالقهر والقوة، ذهب المجتمع في الاتجاه المضاد، وفقاً لنظرية (لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد في الاتجاه)"، وهذا ما حدث بالفعل بالنسبة للأزياء السودانية في ظل الحكومة الحالية؛ حيث حاولت  فرض (الجلاليب والعمائم) على الرجال، والحجاب على النساء، لكن الناظر إلى الشارع السوداني الراهن لن يجد الكثير من ذلك.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية