من قاد الغنوشي إلى نفق الخسارة؟

من قاد الغنوشي إلى نفق الخسارة؟


31/08/2021

الحبيب الأسود

لا يكفي لراشد الغنوشي أن يتحدث عن أخطاء ارتكبتها حركة النهضة خلال السنوات الماضية، عليه أن يكون أكثر وضوحا ويعترف بأنه لم يكن مصيبا في أغلب حساباته الداخلية والخارجية، وأنه يواجه عزلة قاتلة في معبده الأزرق، بعد أن انقطعت به السبل منذ الخامس والعشرين من يوليو الماضي عندما أعلن الرئيس قيس سعيد عن تدابيره الاستثنائية وفق المادة 80 من الدستور.

قد تكون أكبر أخطاء الغنوشي تقدمه لعضوية البرلمان ثم لرئاسته. ربما لم يصدق أنه شخصية منبوذة من عموم الشعب وأن زعامته لحركته الإخوانية لا تجعل منه زعيما للبلاد. وأن هناك من سيقفون ضده بقوة لأسباب سياسية وأيديولوجية وثقافية، ومن سينظرون إلى رئاسته للبرلمان كنوع من الاستفزاز غير قابل للمهادنة إزاءه. الأمر لا يتعلق فقط بقوى النظام السابق أو باليسار الراديكالي وإنما بالأغلبية الساحقة من التونسيين التي تتعامل مع الإسلاميين بمنطق الشك والريبة، وتنظر إليهم كحالة ثقافية وافدة، وكجزء من مشروع عابر للحدود.

لم يكن من المصادفة أن يتبوأ الغنوشي المركز الأول في الشخصيات التي لا يثق فيها التونسيون، ومع ذلك أصرّ على أن يرأس البرلمان وأن يصنع من منصبه رئاسة ثالثة تنافس رئاستي الجمهورية والحكومة، رغم أن رئاسة البرلمان ليست سوى وظيفة داخلية مرتبطة أساسا بالتوازنات تحت قبة المجلس، ودورها إدارة المكتب والجلسات، أما أن تتحول إلى مركز تحديد لمسارات العلاقات الخارجية والمصالح السيادية للدولة ولتحديد التحالفات الإقليمية والدولية ضمن خارطة المحاور، فإن الأمر يصبح تحديا مفضوحا لصلاحيات الرئيس المنتخب مباشرة من الشعب، وهو ما أكده الرئيس سعيد في مناسبات عدة.

بقليل من الانتباه لحركات وسكنات الغنوشي خلال توليه رئاسة مجلس نواب الشعب، يمكن للمراقب أن يدرك أن الرجل يتطلع لرئاسة الدولة لا لرئاسة البرلمان، وأنه يبحث عن لحظة فارقة يصل من خلالها إلى منصة الرئاسة في قصر قرطاج، وأن هناك من كانوا يسعون إلى إقناعه بأن ذلك قدره، وأن عليه أن يستعد ليختتم مسيرة حياته بذلك المنصب كما فعل صديقه “اللدود” الباجي قائد السبسي، وقد فعلوا كل شيء من ذلك تهيئته لذلك فأحاطوه بالمستشارين والخبراء في مجالات البروتوكول والإعلام والعلاقات العامة، واشتغلوا على صورته في الداخل والخارج كعنوان لما سموه الإسلام الديمقراطي.

كان يجري ذلك في الوقت الذي كان فيه هناك صراع قائم داخل حركة النهضة، فالغنوشي تحول إلى حاكم بأمره في الحركة، وكزعيم للأسرة الحاكمة، وهو من يمتلك مفاتيح الخزينة، ومن يستحوذ على ملف العلاقات الخارجية. عندما تم تعيينه رئيسا لمكتب العلاقات الخارجية اكتشف القيادي التاريخي في الحركة عبدالفتاح مورو أنه كان آخر من يعلم عن نشاطه وبرامج ذلك المكتب الذي يتولى إدارته الفعلية رفيق عبدالسلام صهر الغنوشي المقرب. في يناير 2021 فشل عبدالسلام في نيل ثقة أعضاء مجلس الشورى خلال انتخابهم للمكتب السياسي لكن الغنوشي تجاوز ذلك واستفاد من امتيازاته كرئيس للحركة ليعين عبدالسلام من جديد مسؤولا عن العلاقات الخارجية. وفي اللقاءات الخارجية عادة ما يكون الغنوشي مرفقا بفريقه الأسري المقرب حتى في الترجمة الفورية.

خلال السنوات الماضية، ظهر بشكل سافر جناح تزيين الأخطاء للغنوشي، وهو من بعض القيادات التي اختارت التقرب منه لخدمة مصالحها الشخصية على حساب الحركة، وكانت ترد على كل انتقاد يوجه إليه، بأنه غير ناضج سياسيا أو حاقد أو مرتزق وعميل لهذا البلد أو ذاك، ولاسيما في علاقة بسياسات المحاور الإقليمية التي انجذبت إليها النهضة وتحولت إلى جزء منها، وكانت تراهن عليها في تحصين موقعها من منطلق قناعة لدى رئيسها بأن الحلفاء الخارجيين لن يتخلوا عنه، ولا عن شعاراته التي يرفعها وهو يقدم نفسه كرمز للاعتدال والمصالحة. لم يكن الغنوشي قارئا جيدا للتحولات السياسية في المنطقة، فلطالما راهن على عودة حكم الإخوان في مصر، وعلى سقوط نظام الأسد في سوريا، وعلى استمرار المواجهة الخليجية، وعلى موجة جديدة من الربيع العربي، ولكن كل تلك الرهانات ذهبت هباء منثورا، وآخر رهاناته كان على إمكانية أن يضغط المجتمع الدولي على الرئيس سعيد ليرفع التجميد عن البرلمان، وهو ما لم يتحقق.

كان هناك من يريد الترويج لشخصية الزعيم السياسي المحنك والبراغماتي غير القابل للهزيمة، فالغنوشي دخل في مواجهات مع نظام بورقيبة وبن علي، وبدا في العام 2011 وكأنه انتصر عليهما، وعاد لينتقم من التاريخ. فرحب به مناصروه في مطار تونس قرطاج بأنشودة “أقبل البدر علينا” بعد وصول الحركة إلى الحكم، تحول إلى الرقم الصعب في السياسة التونسية.

وعندما انتفض الشارع ضد الإسلام السياسي بعد اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي في العام 2013 سافر خصيصا إلى باريس ليجتمع مع زعيم حركة نداء تونس قائد السبسي ليعقد معه صفقة تقاسم السلطة لاحقا، رغم أنه كان يتهمه بأنه أخطر من التيارات السلفية الجهادية. عندما فاز نداء تونس في انتخابات 2014 استطاعت النهضة أن تخترقه من الداخل وأن تصيبه بالتصدع والانشقاقات حتى انهار قبل أن ينهي عهدته في الحكم، وبعد انتخابات 2019 اتجه الغنوشي ليتحالف مع حزب “قلب تونس” الذي كان يتهمه بأنه حزب فاسد، وكان يعد أنصاره بأنه لن يتحالف معه أبدا.

تلك البراغماتية التي كان يشيد بها المقربون من الغنوشي، كان الشارع التونسي يرى فيها انتهازية مقيتة. في الأثناء كانت هناك صورة تتشكل عن حزب يدعي أن مرجعيته الإسلام لكن تصرفاته تصب في خانة ممارسة الفساد والتحالف مع رموزه أو التستر عليهم واستغلال النفوذ والعبث بمصالح الدولة. لقد أدى وصول النهضة إلى السيطرة على المشهد السياسي من خلال البرلمان والحكومة والحكم المحلي إلى انهيار تام للمنظومة الأخلاقية التي كانت تزعم الانطلاق منها في ممارسة عملها السياسي. قد يتفاجأ الغنوشي نفسه بموقف الشارع منه ومن حركته، هو اليوم في نظر التونسيين يتحمل كل المسؤوليات عن الويلات والخيبات والانكسارات والأزمات المالية والاقتصادية والصحية، عن شح الزيت والسكر والسميد والمضاربة في أسعار كل شيء بدءا من مواد البناء ووصولا إلى العلف الحيواني.

لم ينجح الغنوشي في أن يتحول إلى شخصية سياسية بملامح تونسية بحتة ككل زعماء البلاد السابقين، لم ينفعه تغيير موقفه من بورقيبة من التكفير إلى التقدير، ولا ارتداء ربطات العنق متجاوزا فتوى الخميني حولها، ولا استقباله للفنانات في بيته العامر واستماعه إلى أغانيهن العاطفية، ولا تعاطفه المعلن مع الفقراء والمساكين، ولا تظاهره بالديمقراطية والقبول بالرأي المخالف مهما كان قاسيا تحت قبة البرلمان، وكل محاولات التلميع لم تفده في شيء. في داخل حركة النهضة تم اتهامه بالدكتاتورية في اتخاذ القرار والرغبة في البقاء على رأسها، وفي البرلمان أفقدته المعارضة حالة الهيبة التي كان يريد أن يحف بها نفسه، وفي الشارع كان التونسيون في كل مناسبة يرفعون شعارات ضده.

عندما أقر الرئيس سعيد جملة التدابير الاستثنائية، رحب بها التونسيون أساسا لأنها أطاحت بالغنوشي من دائرة الحكم، وهذا ما فسره المراقبون وعدد من قيادات النهضة ممن اعترفوا بأن الأخطاء كثيرة، وبأن الغنوشي والمحسوبين عليهم يتحملون المسؤولية كاملة عما حدث. كانت هناك رسالة من إخوان تونس بأن زعيمهم على استعداد تام للتخلي عن رئاسة البرلمان، وبأنه كذلك مستعد لمغادرة منصب رئاسة الحركة. الموضوع ليس طلبا من عامة التونسيين فقط، وإنما كذلك من الجانب الأكبر من النهضويين الذين أدركوا أن قيادتهم جرتهم إلى نفق مظلم بتصرفات عبثية يقف وراءها الغنوشي ولاسيما بعد أن سعى إلى جعل النهضة تنظيما على مقاس تطلعاته وأطماع الباحثين عن مصالحهم الشخصية والفئوية.

عن "العرب" اللندنية

الصفحة الرئيسية