هل تجدّد أزمة سدّ النهضة احتمالات الخيار العسكري؟

هل تجدّد أزمة سدّ النهضة احتمالات الخيار العسكري؟


23/03/2021

كان من الممكن ألا تصل أزمة سد النهضة إلى طريق مسدود، إن توافرت الإرادة السياسية الحقيقية للتنمية المتوازنة، وجرى تفويض الأزمة للجان الفنية، برقابة دولية محايدة، لا تتحيز على حساب المبادئ العلمية.

واليوم، بعد عقد زمنيّ من تدشين السدّ، والمفاوضات المضنية للاتفاق بين الدول الثلاث؛ إثيوبيا ومصر والسودان، دون جدوى، على أمل التوصل لاتفاق يراعي المصالح المشتركة، بأن تراعي إثيوبيا احتياجات دولتَي المصب الحيوية، وتتيح لهما القدرة على معالجة الأضرار التي نشأت عن تغير طبيعة تدفق النهر، باتت جميع الخيارات مطروحة أمام ثلاثي الأزمة لحماية الأمن القومي، خاصة دولتَي المصب.

تظهر صور الأقمار الصناعية استمرار تدفق المياه ما يعني عدم شروع إثيوبيا في التجهيز للملء الثاني

لكن، بسبب حضور السياسة في لحظة تدشين السدّ، بل ومنذ إعداد دراسات إنشائه في ستينيات القرن الماضي، على يد وكالة حكومية أمريكية وصلت الأزمة إلى مسارها المسدود، الذي تحاول إثيوبيا من خلاله فرض أمر واقع على مصر والسودان، وذلك بالملء الثاني في الصيف المقبل، دون التوصل لاتفاق ملزم حول إدارة وتشغيل السدّ، وهو ما لن تقبل القاهرة والخرطوم بحدوثه، وفي خلفية خطابهما يظهر خيار الحسم العسكري، لمواجهة العناد الإثيوبي.

ذروة الأزمة

مع اقتراب ميعاد الملء الثاني لبحيرة سدّ النهضة، الذي تتمسك به إثيوبيا، في موسم الأمطار، في حزيران (يونيو) المقبل، وترفضه مصر والسودان، قبل التوصل إلى اتفاقية ملزمة لإدارة وتشغيل السدّ، تتسارع احتمالات الصدام بين الدول الثلاث؛ فلا يبدو أنّ إثيوبيا ستتراجع عن مخططها، الذي تؤكد عليه، ليلاً ونهاراً، على لسان كبار مسؤوليها، وكذلك مصر والسودان، اللتان وحّدتا رؤيتهما منذ إقدام إثيوبيا على الملء الأول بشكل منفرد، وفي حال نفاد خيارات القاهرة والخرطوم التفاوضية، فلن يبقَ أمامها سوى التحرك العسكري لمنع فرض أمر واقع.

من السيناريوهات المطروحة في الأزمة العمل العسكري بضربة موجهة إلى جسم السدّ الخراساني، بصواريخ ومقذوفات مُوجهة من الطائرات الحديثة التي تمتلكها مصر، بتسهيلات سودانية

وأكّدت إثيوبيا، على لسان عضو فريق تفاوضها، السفير إبراهيم إدريس؛ أنّ اقتراح إشراك اللجنة الرباعية في مفاوضات سدّ النهضة هو إطالة أمد الملء الثاني للسد، وتقويض حقوق إثيوبيا في الاستخدام العادل والمعقول لمياه النيل.

وكشف إدريس عن حقيقة موقف بلاده، باتّهام مصر والسودان بأنّهما "تتصرفان وكأنّ المياه تنبع من أرضهما، وتفكّران في أنّ على إثيوبيا قبول كلّ القرارات التي تتخذها مصر، والتي تتعارض مع الواقع على الأرض، وإذا جلسنا معهم وتوصلنا إلى اتفاق بناءً على مقترحاتهم، فإنّ أيّ مشروع تخطط له إثيوبيا في المستقبل يجب أن يحصل على إذن من القاهرة قبل أيّ شيء".

في عام 2015 وقع رؤساء الدول الثلاث اتفاقية إعلان المبادئ

ويتبين من حديث إدريس؛ أنّ التفاوض الإثيوبي يتجاوز أزمة السدّ، ويريد إعادة رسم السياسة المائية على نهر النيل الأزرق، بفرض أمر واقع على دولتَي المصب، لتقبلا بالسيادة الإثيوبية التامّة على النهر، والتخلي عن كونه نهراً دولياً، يخضع للقوانين الدولية المنظمة للأنهار، ويدعم ذلك تصريح وزير الخارجية الإثيوبي، دمقي مكونن، في 17 من الشهر الجاري، بأنّ "عملية استكمال بناء سدّ النهضة ليس من أجل مستقبل الأجيال، بل هي مسألة حماية لسيادة الدولة".

اقرأ أيضاً: مصر ترفض تصريحات إثيوبيا عن الملء الثاني لسد النهضة.. هذا ردها

وردّت الخارجية المصرية؛ بأنّه "من المؤسف أن المسؤولين الإثيوبيين يستخدمون لغة السيادة في أحاديثهم عن استغلال موارد نهر عابر للحدود، فالأنهار الدولية هي ملكية مشتركة للدول المُشاطئة لها، ولا يجوز بسط السيادة عليها، أو السعي لاحتكارها".

وفي سياق متصل، حذّر رئيس الفريق الفني السوداني المفاوض، مصطفى حسين الزبي، من خطوة الملء المنفرد، وأوضح أنّ "قيام إثيوبيا بالملء الثاني بصورة أحادية يشكّل تهديداً مباشراً لحياة 20 مليون مواطن سوداني، يعيشون على ضفتَي النيل الأزرق والنيل الرئيس".

ونوّه إلى وجود "مخاطر جدّية على منشآت السودان الحيوية من سدود وبنية تحتية وأنشطة زراعية وصناعية قائمة"، وتبعاً لذلك توليد الكهرباء في السودان، والتي تأثرت سلباً بضبابية الموقف الإثيوبي من الملء الثاني.

محوريّة الملء الثاني

وهناك أبعاد عدّة لعملية الملء الثاني، منها ما يتعلق بالسودان على مدى زمني قصير جداً، وما يتعلّق بخيارات القاهرة والخرطوم المستقبلية في التعامل مع الأزمة، إلى جانب بُعد الداخل الإثيوبي.

اقرأ أيضاً: إثيوبيا تماطل من جديد في مفاوضات سد النهضة... وهذا ردها على السودان

وفي موسم الأمطار الماضي، قامت إثيوبيا بملء بحيرة السدّ بما يصل إلى خمسة مليارات متر مكعب من المياه، في بداية موسم الفيضان، دون تنسيق مع دولتَي المصب، ما تسبّب في موجة عطش في ولاية نهر النيل والعاصمة الخرطوم في السودان، وكان بمثابة لحظة اليقظة في السودان، بعد تسعة أعوام من التفريط في المصالح الوطنية لمحاباة إثيوبيا، سواء مع نظام البشير أو في العام الأول لحكومة الفترة الانتقالية.

ونوّه أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية، عباس شراقي، إلى أنّ ما حدث العام الماضي كان متوقعاً، لكنّ السودان لم يستعد له؛ لأنّ "الإنشاءات ستحجز جزءاً من المياه في أول موسم الأمطار، سواء رغبت، أم لم ترغب، إثيوبيا في ذلك".

أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية، عباس شراقي

ويشدّد شراقي، في حديثه لـ"حفريات"؛ على ضرورة "وجود تنسيق ملزم بين إثيوبيا والسودان بشكل خاص في إدارة سدّ النهضة، نظراً لارتباط تشغيل السدود ومحطّات مياه الشرب والزراعة والكهرباء في السودان بالجريان اليومي للمياه في نهر النيل الأزرق، والذي تسبّب سدّ النهضة في تغييره، وصار لزاماً على السودان وضع حساباته بما يحدث في سدّ النهضة".

اقرأ أيضاً: زخم مصري ـ سوداني في ملف سد النهضة... فهل تستجيب إثيوبيا؟

ويصطف شراقي، مع المسؤولين السودانيين في التحذير من موجة عطش قد تمتدّ إلى شهر، حال إقدام إثيوبيا على الملء الثاني، ويدعو أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية، إلى عدم تكرار خطأ العام الماضي، "إذا رفعت إثيوبيا الإنشاءات في الممر الأوسط؛ فمعنى ذلك حتمية الملء، لأنّ المياه لن تمرّ حتى تمتلىء البحيرة، وتجتاز التعلية الجديدة، لكن، للآن، لا وجود لمؤشرات على خطوات لرفع الممرّ الأوسط، الذي يتطلّب تفريغ جزء من مياه البحيرة، ثم تركه كي يجفّ، ثم صبّ الخراسانة المسلحة للتعلية، وهي عملية تتطلب إمكانيات ضخمة، لإنجازها قبل موسم الأمطار بمدة كافية، وإلا لن يكون هناك ملء هذا العام".

اقرأ أيضاً: أمريكا ترفع الربط بين المساعدات لإثيوبيا وسد النهضة.. ما الجديد؟

وهناك صراع إرادات سياسة فرضته إثيوبيا في كلّ خطواتها في الأزمة، بطرحها مسألة السيادة، التي تريد من خلالها التحكم بشكل منفرد في كلّ ما يتعلق بالسدّ والنهر، تمهيداً لفرض هذا النهج على دولتَي المصبّ مستقبلاً، خاصة أنّها تخطط لإنشاء ثلاثة سدود أخرى على النيل الأزرق، في خطوة لا تفسير لها سوى تعطيش ممنهج لمصر والسودان، لإجبار مصر على شراء المياه، والسودان على منحها ملايين الأفدنة الزراعية مقابل المياه.

وبحسب شراقي؛ فلم تمانع مصر والسودان ملء بحيرة السد العام الماضي مطلقاً، بل اشترطتا التوصل لاتفاق ملزم، على أن تملأ إثيوبيا بحيرة السدّ بكمية أكبر بكثير من المياه التي جرى تخزينها العام الماضي، بشكل منفرد.

الخيار العسكري

وإلى جانب ذلك؛ يطرح خبراء زاوية أخرى لأهمية الملء لإثيوبيا، تتعلق بتأمين السدّ من ضربة عسكرية سودانية مصرية، وبحسب الخبراء؛ فمن الممكن ضرب السدّ حين تبدأ إثيوبيا في تفريغ جزء من بحيرته، تمهيداً لتعلية الممرّ الأوسط؛ حيث بإمكان خزان سدّ الروصيرص السوداني استيعاب المياه التي ستفيض، طالما بقيت في حدود 4 مليارات متر مكعب.

وقّعت مصر والسودان اتفاقية تعاون عسكري على خلفية تطورات الأزمة

وحال حدوث الملء الثاني دون التوصل لاتفاق ملزم، ينصّ صراحة على بحث قضية أمان السد الجوهرية، والتي تعدّ تهديداً بالغرق للسودان، حال انهيار السد، الذي لا توجد دراسات فنية حوله، فستنعدم فرصة العمل العسكري، نظراً لوجود كمية كبيرة من المياه، ستسبّب فيضاناً يدمر سدّ الروصيرص، ويغرق شرق السودان، وكلّما زادت كمية المياه زادت المخاطر، التي تجعل الخيار العسكري مستحيلاً.

اقرأ أيضاً: بعد تعميق العلاقات بين السودان وأمريكا.. ما مصير أزمة سد النهضة؟

ورفضت إثيوبيا مقترح السودان، الذي قبلته مصر، بوساطة رباعية لحلّ الأزمة، تضمّ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، برئاسة الاتحاد الأفريقي، متهمة السودان ومصر بتهميش الاتحاد الأفريقي، ودعت إلى تفاوض تحت مظلته، وهو ما لن تقبل به دولتَي المصب، فالاتحاد لا يملك من الآليات والأدوات التي تمكّنه من حلّ الأزمات، بل يتلقى منحاً دولية للإنفاق على مؤسساته، ويعلّق كثيرون آمال على لجوء مصر والسودان إلى مجلس الأمن، بطلب تبنّي المجلس للوساطة، لكن يبقى الرهان على المجلس مرتبطاً بمصالح أعضائه المتناقضة.

وسبق أن عطلت الصين وروسيا صدور قرار يدين الانتهاكات التي ترتكبها الحكومة الفيدرالية الإثيوبية في إقليم تيجراي، والتي وصلت إلى حدّ التطهير العرقي.

تبعات العمل العسكري

وبحسب الخبراء المتابعين؛ حتى اليوم، لم تشرع إثيوبيا في خطوات تعلية الممر الأوسط، ما يفتح الباب أمام تأجيل الملء الثاني، نظراً لعدم إكمال الإنشاءات، لا يوجد تنازل إثيوبي لإفساح المجال للمفاوضات، وهو ما يعني بالتبعية وجود فسحة من الوقت للتفاوض الجاد، على أمل الوصول لحلّ الأزمة، خاصة أنّ تغيرات الداخل الإثيوبي لا تصبّ في مصلحة العناد.

اقرأ أيضاً: وساطة إماراتية لكسر جمود مفاوضات سد النهضة

وطرح خبراء سيناريوهات متعددة للعمل العسكري، والتبعات المتوقّعة جراء ذلك، معتمدين على دراسة دورية بصور الأقمار الصناعية لمنطقة السدّ، والاستعدادات العسكرية الإثيوبية حولها.

ولا ينفصل تحرير السودان أراضيه في الفشقة عن أزمة السدّ، ويرى خبراء سودانيون؛ أنّ إثيوبيا تضغط على السودان بالملء الثاني، لإجباره على الانسحاب من الفشقة، التي تطمع في ضمها إليها، على الرغم من اعترافها السابق بها، وفق اتفاقية عام 1902.

جانب من مناورة "نسور النيل" العسكرية بين مصر والسودان

ويتمثّل السيناريو الأول في خيار العمل العسكري بضربة موجهة إلى جسم السدّ الخراساني، بصواريخ ومقذوفات مُوجهة من الطائرات الحديثة التي تمتلكها مصر، بتسهيلات سودانية، والثاني عبر قصف صاروخي ومدفعي من الأراضي السودانية.

اقرأ أيضاً: عقوبات على إثيوبيا.. كيف نفهم الموقف الأمريكي من أزمة سد النهضة؟

وهناك تبعات عدّة للعمل العسكري؛ أولها ردّ الفعل الإثيوبي العسكري، خاصة على السدود السودانية، لكن بإمكان مصر والسودان تحييد هذا الخطر، نظراً لتهالك سلاح الجوّ الإثيوبي، وكذا تهالك منظومة دفاعه الجوي، ما يعني أنّ بإمكان مصر والسودان تحييد أيّ خطر على المنشآت الحيوية، ويبقى أمام إثيوبيا خيار الحرب البرية، في ظلّ ضعف قواتها بسبب الحرب في تيجراي، إلى جانب كفاءة الجيشين المصري والسوداني، التي تفوق الجيش الإثيوبي بأشواط بعيدة.

الخبير عباس شراقي لـ"حفريات": لا بد من تنسيق ملزم بين إثيوبيا والسودان، لارتباط تشغيل السدود ومحطّات مياه الشرب والزراعة والكهرباء في السودان بالجريان اليومي للمياه

ويأتي ردّ الفعل الدولي كثاني أهم التبعات، وهو الأمر الممكن احتواؤه جزئياً، بسبب المسار التفاوضي الطويل للأزمة، ومظهر التعنت الذي تبدو عليه إثيوبيا، خاصة بعد أن تهرّبت من وساطة واشنطن والبنك الدولي، واليوم من الوساطة الرباعية، لكن لا تعويل على ذلك، إنّما على الانقسام الدولي، والعلاقات الدبلوماسية المصرية والسودانية القوية مع دول العالم، وتعقد مصالح أعضاء مجلس الأمن بأطراف الأزمة الثلاثة.

هل تتراجع إثيوبيا؟

ويبقى ما سبق مُعلقاً على ما ستفعله إثيوبيا خلال الأشهر القليلة المقبلة، فاتجاهها نحو التصعيد والاستعداد للملء الثاني، سيزيد من احتمالية العمل العسكري المصري - السوداني، بعد استنفاد كلّ الجهود الممكنة لحلّ الأزمة، وحال لم تُصعد إثيوبيا، وتراجعت عن الملء الثاني هذا العام، فلن تضطر دولتَا المصب إلى العمل العسكري، ما يعيد للتفاوض الجادّ الزخم لحلّ الأزمة.

السيسي والبرهان في لقاء القمة في الخرطوم

ودشنت إثيوبيا سدّ النهضة، في نيسان (أبريل) 2011، وفق مخطط أمريكي لإنشاء أربعة سدود على النيل الأزرق، وكان من المخطط أن يكون سدّ النهضة بسعة 18 مليار متر مكعب، لكنّ الحكومة الإثيوبية رفعت سعة بحيرته إلى 74 مليار متر مكعب، بإنشاء سدّ ركامي آخر في حلق وادي قريب، دون استيفاء الدراسات الفنية والبيئية والاقتصادية والأمن والسلامة، وهو ما حذّرت منه تقارير المكاتب الفنية الدولية، والبنك الدولي وواشنطن، ونصّت وثيقة إعلان المبادئ بين أطراف الأزمة، لعام 2015، على إكمال الدراسات الفنية، وهو ما لم يحدث بسبب التعنت الإثيوبي.

وفي عام 2010؛ انهار نفق سدّ كلكل كيبه الثاني، على نهر أومو في إثيوبيا، بعد أسبوع من تشغيله، وخرج سدّ تكزه على نهر عطبره عن الخدمة جزئياً، بسبب التصحر، بعد وقت قليل من إنشائه، وتسبّب سدّ كلكل كيبه الثالث في دمار بيئي واسع، وتهديد حياة 200 ألف مواطن إثيوبي.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية