صناعة التطرف .. قراءة في هجوم نيوزيلندا الإرهابي

صناعة التطرف .. قراءة في هجوم نيوزيلندا الإرهابي


17/03/2019

التطرف والكراهية من أخطر الأمراض المعاصرة للمجتمعات، هذا الخطر تتم صناعته، ويجري تجديده من جيل إلى جيل، ليس فقط عبر إحياء أفكار قديمة قد يؤمن بها، أو لا يؤمن بها، بعض البشر، إنما عبر عمليات مركبة تشترك فيها أكثر من جهة، تستهدف عقل ووجدان ومعتقدات الأفراد.

اقرأ أيضاً: هجوم نيوزيلندا.. مثقفون يحذرون من تنامي التطرف وصدام الأصوليات

إنّ محاكمة الإرهاب أو التطرف أو العنصرية لا تقتصر على مقاضاة قاتل قام بتنفيذ المهمة فحسب؛ بل لا أبالغ لو قلت إنّه آخر حلقة في السلسلة، وهو أضعفها وأقلّها أهمية؛ فمحاكمة الإرهاب تبدأ بتفكيك الفكر الإرهابي، ثم  باقي الحلقات التي أدّت إلى أن يحمل أحدهم سلاحه ويوجهه إلى صدر أخيه الإنسان، الإرهابي لن يقتل من تلقاء نفسه؛ فعادة لا يُخلَق الفعل الإرهابي من العدم؛ بل ينتج عن معتقدات وأفكار محددة، غالباً ما يُروّج لها من خلال لغة الكراهية والتحريض على الأديان والقوميات والمجموعات البشرية المتسقة؛ حيث تصبح هذه اللغة والأفكار أحد المحركات للعنف والإرهاب، كلّ عمل عنف أو جريمة تُرتكب بهدف توجيه رسائل سياسية، تندرج في إطار الإرهاب، بغضّ النظر عن الرسالة وفحواها، إن كان صاحبها مسلماً أو مسيحياً، شرقياً أو غربياً، وأي تهاون في تسمية الأشياء بمسمّياتها هو ازدواجية في المعايير.

العالم بحاجة إلى التوعية ونشر خطاب التسامح وسيادة القانون وقدسية العدالة، لا نشر أفكار الكراهية ومعاداة الأديان والقوميات

من المهم أن نؤمن بأنّ العنصرية والتطرف؛ كلّها نتاج لفكرة صاغها مفكّر أو كاتب امتلأ بالكراهية، فدفع أتباعه لاختيار القتل كوسيلة للتعامل مع الآخر، وهذا يؤدي بنا إلى الحلقة التالية؛ أي إلى الإعلام، الذي يروّج لأفكار هذا الكاتب، ويقوم بتبرير الجريمة للمجتمع، هذا الإعلام المتواطئ مع الإرهابيين، يحتاج إلى حلقة أخرى تسانده وهي المال؛ فالمال لازم للإنفاق على الدعاية وتجميع الأنصار، لهذا الكثير من الحركات العنصرية والإرهابية لديها تمويل سري غير قانوني، وهذا المال يحتاج إلى سياسيين يساندونه بقوة، ويحمونه بسنّ قوانين حتى يتمكن من القيام بدوره في حلقة صناعة الإرهاب، والسياسيون يحتاجون إلى خطابات شعبوية، وإلى جماهير تصوّت في الانتخابات، من هذه الجماهير التي يتمّ بثّ الكراهية فيها يخرج لنا هؤلاء القتلة الإرهابيون، هذه دورة حياة صناعة التطرف والكراهية والعنصرية، كما أراها، وكما لمستها، هذه التوليفة أو التركيبة إن وضعتها في مجتمع مسلم فسينتج لك "داعش"، وإن وضعتها في مجتمع مسيحي متدين ينتج (جيش الربّ أو كو كلوكس كلان)، وإن وضعتها في مجتمع عرقي ينتج (يميني متطرف)، وإن وضعتها في مجتمع يهودي ينتج (حركة كاخ)، وإن وضعتها في مجتمع هندوسي ينتج (جماعة مثل السانغ باريفار)، بهذا يمكن صناعة التطرف والتطرف المقابل.

اقرأ أيضاً: هل نؤمن حقاً بالاختلاف؟ ومتى نتحرر من مرض التطرف؟

وأقرب مثال لصناعة التطرف هو هجوم نيوزيلندا، فتلك المذبحة لو وضعناها على طاولة التشريح سنفهم كيف يعمل التطرف، وكيف ينمو، وما الواجبات التي علينا أن نقوم بها انتصاراً لإنسانيتنا؟ وكيف نقتل هذا السرطان المخيف؟ من أين نبدأ؟ نبدأ من آخر حلقة وهي القاتل؛ فهو برينتون تارانت، أسترالي الجنسية، يبلغ من العمر 28 عاماً، لم يكن على قوائم المشتبه فيهم من قبل، ليس له سجل إجرامي، قال بعض المتابعين له إنّه مهتم باللياقة البدنية والتدريب، فما هي أفكاره؟

اقرأ أيضاً: السعودية في مواجهة التطرف والأصولية

نتعرف إلى أفكاره من البيان الذي نشره قبل ارتكابه المذبحة بيوم على صفحته في تويتر، بعنوان "المنافستو" الاستبدال الكبير؛ نبدأ بالاسم "الاستبدال الكبير"، وهو يدل على نظرية يمينية شديدة التطرف، تقول إنّ السكان الفرنسيين الكاثوليك البيض، والسكان الأوروبيين البيض عموماً، سيتم استبدالهم بشكل منتظم بأشخاص غير أوروبيين، ولا سيما من سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، من خلال الهجرة الجماعية والنمو السكاني، تعدّ تلك النظرية وجود المسلمين في فرنسا خطراً قادراً على تدمير الثقافة والحضارة الفرنسية، وهذه الأفكار نجدها في بيان تارانت بوضوح؛ حيث يقول بالنص: "إنّ أهمّ الأسباب التي دفعته لتنفيذ الهجوم؛ لأنَّها طريقة كي يُظهر للغزاة أن بلادنا لن تكون بلادهم أبداً، وأنّ أوطاننا ملكنا، وأنَّه ما دام هناك رجل أبيض ما يزال حياً، فلن يحتلوا أرضنا أبداً، ولن يقيموا مكان شعوبنا".

المهمة شاقة، فمشاعر الكراهية تتفوق على النهج العقلاني لكن ليس لنا بديل إما أن نتعايش أو نفني بعضنا

ننتقل إلى الحلقة الثانية؛ وتتمثل في منظّري اليمين المتطرف، وأحد مروّجي هذه النظرية؛ هو رينو كامو، الكاتب الفرنسي ورئيس ومؤسس حزب "لينوسانس"، أو "البراءة"، هذا الكاتب قد تمت إدانته أمام القضاء في فرنسا، عام 2014، بتهمة التحريض على الكراهية أو العنف؛ بسبب أقوال أدلى بها في أواخر 2010 ضدّ المسلمين، في لقاء عام في باريس، هذا الكاتب، وغيره، تنتشر كتاباتهم في مواقع إعلامية إلكترونية يمينية بارزة، مثل: "بوابات فيينا"، و"خاطئ سياسياً"، و"فرانس دو سوش"، التي أصبحت منصة لهؤلاء المتطرفين، لنشر نظريتهم عن الاستبدال الكبير، وكيفية وقفه، هذه المواقع تبث الكراهية والعنصرية بشكل مقيت، ولها متابعون صامتون وآخرون أصواتهم عالية، وهذا يحيلنا إلى الحلقة التالية، وهي عالم السياسة؛ فصعود أحزاب اليمين المتطرف ساند مثل هؤلاء الإرهابيين، وأعطى لهم دفعة لممارسة إرهابهم القاتل، ومن أبرز الساسة المتطرفين؛ رئيس حزب "المصلحة الفلامنكية"، فيليب ديوينتر، ورئيس حزب "إف. بي. أو"؛ النمساوي هاينز كريستيان ستراسي، ورئيس حركة "الزاس آبور" الإقليمية الفرنسية، روبرت سبيلر، ومن اللافت للنظر؛ أنّ هؤلاء اجتمعوا  في عام 2008 في مدينة أنفير البلجيكية، ودشّنوا منظمة متطرفة جديدة تهدف إلى مكافحة ما أسمته بـ "الأسلمة" في أوروبا، واسمها "المدن ضدّ الأسلمة"؛ لهذا لم يكن غريباً أن تكون أول مساندة  يتلقاها الإرهابي كانت عبر تويتر، من بينهم: فريزر أنينغ؛ عضو مجلس الشيوخ اليميني عن ولاية كوينزلاند الأسترالية، فقد كتب على حسابه بموقع تويتر، الجمعة 15 آذار (مارس) 2019، بعد ساعاتٍ من وقوع الهجوم، متسائلاً: هل ما تزال الشكوك تُساوركم حول العلاقة بين هجرة المسلمين والعنف؟

اقرأ أيضاً: المواجهة مع التطرف.. هل هي صراع بين الكراهية والمحبة؟
صحيح أنّ هناك سياسيين عارضوه، مثل؛ رئيس الوزراء الأسترالي، مالكولم تيرنبول، بقوله: إنّ "الأشخاص الذين ينشرون الكراهية الدينية والعنصرية لا يمسكون مسدساً أو سكيناً بأيديهم، لكنهم يُلهِمون الأشخاص الذين يفعلون ذلك عادةً، ويبدأ العنف المُتشدِّد من خطاب الكراهية والتشدُّد"، وهذا صلب الموضوع؛ فكلّ الحلقات السابقة ما كان لها أن تعمل إلا في ظلّ مناخ يشجع على الكراهية والكراهية المتبادلة، سواء العرقية أو الدينية أو القومية، العالم في حاجة إلى التوعية ونشر خطاب التسامح وسيادة القانون وقدسية العدالة، لا نشر أفكار العنف والكراهية ومعاداة الأديان والقوميات، أعلم أنّ المهمة شاقة، فمشاعر الكراهية تتفوق على النهج العقلاني، وتكتسح أيّة حقائق موثقة، لكن ليس لنا بديل إما أن نتعايش معاً متسامحين، أو نفني بعضنا متقاتلين.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية