فيلم "واجب": الفلسطيني خارج إطار الأسطورة

فيلم "واجب": الفلسطيني خارج إطار الأسطورة


14/03/2019

لم يسعَ فيلم "واجب"، الذي قام ببطولته الفنان الفلسطيني المعروف محمد بكري ونجله صالح، لتقديم بطولات خارقة للفلسطيني، فلم تكن ثمّة تجميلات للواقع الذي حاول هذا العمل الجريء تقديمه كما هو دون أن يقع في فخ الشعارات المثالية والعبارات الرنانة.
ما يفعله الفيلم، الذي أخرجته الفلسطينية آنماري جاسر، هو جعل المتلقي يستذكر نماذج الشخصيات الفلسطينية التي كان قد التقاها في أعمال الشهيد غسان كنفاني، حين كان كل منها إنساناً عادياً، ربما يخطئ أكثر مما يصيب، لكنه يظل ضحية، كبرت أخطاؤه أم صغرت؛ ضحية احتلال ومفرزات احتلال أقلّها التناحر الداخلي والأمراض الاجتماعية.

يتجنب الفيلم تقديم المجتمع الفلسطيني في الداخل مثالياً بتسليط الضوء على مكامن ضعفه وأخطائه بلمسة كوميدية

"واجب"، فيلم فلسطيني دشنت صالات السينما العربية عرضه في مستهل العام ٢٠١٩، وقد استمر لمدّة زمنية لافتة للنظر، مقارنة بغيره من أفلام حملت ثيمات جادّة ومشابهة؛ فلسطينياً وعربياً.

اللافت في "واجب" هو تناوله شريحة فلسطينية منسيّة تكاد تكون منسية في السينما العربية، وهي أبناء الأراضي المحتلة في العام 1948 وتحديداً في مدينة الناصرة؛ حيث تجري أحداث العمل، بكل ما يحفل به واقعهم من تناقضات وأزمة هوية، ومشاكل اجتماعية، وصراع أجيال وقيم.

اقرأ أيضاً: فيلم "ليلة طولها اثنتا عشرة سنة".. تحفة فنية عن أدب السجون

ينطلق الفيلم من حكاية أب ونجله يمضيان في أزقة وشوارع الناصرة؛ لتوزيع بطاقات دعوة عرس الشقيقة الصغرى. العائلة مثخنة بالجراح؛ إذ اختارت الأم السفر مع عشيق لها وترك ابنها وابنتها وزوجها نهشاً لألسنة المجتمع، وليمضي الابن البكر، الذي أدّى دوره صالح بكري، في دروب الغربة في إيطاليا، وليبقى الأب في محاولة مستمرة للتحايل على جراحه وحماية ابنه وابنته معنوياً من كل ما قد يحيق بهما.

 

 

لا تدّعي جاسر في مناقشتها المجتمع الفلسطيني في الداخل المثالية، بل على العكس من ذلك تحاول تسليط الضوء على مكامن ضعفه وأخطائه، بلمسة كوميدية، على الرغم من تصنيفه عبر الصفحة الرسمية الخاصة بالفيلم بالدرامي، لكنه كوميديا سوداء بامتياز، تبرع بتشريح الواقع الفلسطيني بين الداخل والخارج، لكنها تدرك بقوة أهمية مناقشة المجتمع الفلسطيني في الداخل على وجه التحديد، وهذه ما منح العمل فرادته.

اقرا أيضاً: فيلم "كتاب أخضر": صورتنا في مرآة العنصرية

الفيلم، الذي تصل مدّته إلى تسعين دقيقة ونيف، نال جائزة أفضل فيلم روائي في مهرجان دبي السينمائي، كما حاز بطله، محمد بكري، جائزة أفضل ممثل مناصفة مع ابنه صالح، إلى جانب تمثيله فلسطين في محافل سينمائية عالمية، ما يُعيد تسليط الضوء على الفيلم الفلسطيني المشغول بسويّة عالية، والذي باتت آنماري جاسر اسماً بارزاً فيه؛ إذ تميل دوماً لتناول الحكايات غير الخارقة، كما يريدها البعض عن الفلسطينيين، بل تصوّرهم من خلال حكايات بسيطة وعميقة في آن بشراً عاديين يصيبون ويخطئون، شأنهم شأن باقي شعوب الأرض، وتجنب وضعهم في مصاف الأسطورة التي أضرت بصورتهم عوضاً عن إنصافها.
آنماري جاسر، التي جمعت بين كل من التجربتين الأكاديميتين في فلسطين وأمريكا، تحاول دوماً في أعمالها المسكونة بالهم الفلسطيني الابتعاد عن خطاب الأبراج العاجية والاقتراب من أرض الواقع، متسلّحة بالأدوات اللازمة التي يفهمها المتلقي الغربي بشكل خاص، من دون تذلّل أو استجداء.

 

 

آنماري جاسر، المولودة في فلسطين في العام 1974 والتي تحمل شهادة عليا في تخصّص السينما، كانت قد قدّمت سابقاً فيلما مميزاً أيضاً تناولت فيه العمل الفدائي الفلسطيني، تحت عنوان "لما شفتك"، وقد كان مبهراً كذلك من حيث المشهد البصري الغني، بالإضافة للأداء اللافت للممثلين والحبكة المميزة في التناول.

اقرأ أيضاً: فيلم "أولاد الفقراء".. عندما بشّر يوسف وهبي بثورة البسطاء
ونجاح جاسر الذي بدأ منذ "ملح هذا البحر" كان لافتاً أيضاً، من خلال حكاية عائدة من أمريكا للداخل الفلسطيني، هذه الأفلام وهذا التناول الذكي واللغة السينمائية الرشيقة والمشهد البصري الغني يُثبت أن نجاح الصبية التلحمية ليس مصادفة، ما يقدم دفعة أخرى لتقديم أعمال مماثلة توسع من قاعدة المتلقّين داخلياً وخارجياً، في ما يتعلق بالترافع عن الحق الفلسطيني على الساحة الفنية.

"واجب"، فيلم بمثابة استراحة ممتعة للراغبين بمعاينة الواقع الفلسطيني داخل الأرض المحتلة في العام 1948، من خلال حكاية طريفة تجعل المتلقي يغرق في دوّامة ضحك مستمرة حتى نهاية العرض، لكن هذا لن يحول البتة دون انهمار دموعه أمام مقاطع كثيرة تُذكّر الفلسطيني أنّ الكون فسيح جداً، لكنه لا يغني حتى عن أزقة "حارة نصراوية".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية