لا مستقبل للإسلام السياسي في تونس

لا مستقبل للإسلام السياسي في تونس


21/12/2021

علي قاسم

التونسيون شعب مؤمن، لا جدال في ذلك، ولكنه إيمان لا يتناقض مع الحداثة والعلمانية. إيمان يفضل أن يبقى رجل الدين داخل المسجد، مكتفيا بوظيفته الروحية.

الأعمى فقط لن يرى عمق الأثر الديني في حياة التونسي، من زيارة الأولياء الصالحين إلى أسماء الحارات والأزقة التي سميت على أسمائهم.

لكل تونسي ولكل تونسية وليّ صالح يتبرّك به.

الزائر من المشرق سيندهش لحرص التونسي على تقديم الأضاحي والاحتفال بالمناسبات الدينية وإحراق البخور. لن يتردد التونسي في إنفاق كل مدخراته لشراء “علوش العيد”.

ولكن، يجب ألاّ يخفي هذا الجانب، جانبا آخر للتونسي، هو جانب الحداثة. التي تسير جنبا إلى جنب مع التقاليد.

في عمق الأحياء الشعبية ستجد السفساري، وإلى جانبه آخر صيحات الموضة.

الحداثة في تونس ليست تقليدا أعمى للغرب، كما يحاول تصويره الإسلاميون، بل هي سلوك متجذر في أعماق الشخصية التونسية والمجتمع التونسي.

لا نحتاج للذهاب بعيدا في التاريخ، فالحداثة كمفهوم عرفته المجتمعات، بما فيها الغربية، في القرن العشرين (1916).

وكان قدر تونس، البلد الصغير مساحة، أن يساهم في صنع التاريخ أكثر من مرة. وإذا كانت الذاكرة تقف عند مطلع عام 2011، فإن الوقائع تعود إلى أبعد من ذلك بكثير.

البلد الذي يقال إنه منح القارة الأفريقية اسمها (أفريقيا)، قدم للعالم مجموعة أسماء، لم يقتصر تأثيرها على تونس بل امتد ليشمل العالم العربي والإسلامي. برز من بينهم ابن خلدون، محمد الطاهر بن عاشور، يوسف الصديق، صاحب كتاب “هل قرأنا القرآن أم على قلوب أقفالها”، صدر باللغة الفرنسية قبل أن تتم ترجمته إلى العربية، والطاهر الحداد الذي بدأ حياته كاتبا في الصحف، وقبل أن يصل إلى العشرين من عمره استطاع أن يلفت إليه الأنظار لتكون كتاباته محل جدل بين زعماء البلاد.

مهدت جهود الحداد لظهور النقابي فرحات حشاد، الذي أسس النواة الأولى لنقابة اتحاد الشغل في تونس المدافعة عن العمال وعن سيادة البلاد، حيث أصدر كتابه الأشهر “العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية” (1927) الذي منعت سلطات الاستعمار تداوله.

وكما كان للحداد، الذي رحل في سن مبكر (36 عاما)، الفضل في تطور الحركة النقابية، كان له أيضا كبير الأثر في مجلة الأحوال الشخصية الصادرة بعد وفاته بعشرين عاما.

رأى الحداد أن الإصلاح لا يقوم بغير الصلاح: صلاح الناس والأفكار… داعيا إلى إصلاح العائلة والمنزل وتحرير المرأة فقامت ضدّه أصوات محافظة وجرّد من شهاداته العلمية ومنع من العمل. والسبب هو كتاب “امرأتنا في الشريعة والمجتمع ” الذي نشره عام 1930.

سارع رجال الدين إلى مهاجمة الكتاب، كما شنت صحف مشرقية حملة ضد صاحبه، ومن بين عناوين المقالات “حول زندقة الحداد” و”موقف الصحافة العربية حول نازلة الطاهر الحداد” و”خرافة السفور” و”أين يصل غرور الملحدين”.

المرأة التونسية مدينة اليوم للحداد بإقرار القانون التونسي بأهلية المرأة لتزويج نفسها مما يستحيل معه تزويجها دون رضاها. وبمنع  تعدد الزوجات إذعانا للشرط الإلهي بوجوب العدل واحتراما للجزم الإلهي باستحالته.

عندما نشر الحداد كتابه كانت النساء في أوروبا يناضلن للمساواة بالأجور مع الرجل، وفي بعض الدول كانت المرأة تناضل للوصول إلى حق الانتخاب.

وبعد 65 عاما من صدور مجلة الأحوال الشخصية في تونس، مازالت المرأة في الدول العربية تحلم بما وصلت إليه المرأة في تونس.

تونس أجبرت محيطها العربي على إعادة التفكير. إن كانت شاهدتي بها لا تقبل، فإن لشهادة الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو وزنها، وهو القائل “لم يكن مايو 1968 بفرنسا هو ما غيّرني، بل أحداث مارس 1968 في بلد من العالم الثالث اسمه تونس”.

فوكو يشير إلى أحداث الثورة الطلابية في فرنسا، ويؤكد أن الثورة الطلابية في تونس سبقتها وكانت أكثر عمقا.

تراث مثل هذا لا يمكن هدمه أو تجاوزه بسهولة.

عام 2011 لم يخرج التونسيون إلى الشارع دفاعا عن أيديولوجية، علمانية كانت أم دينية، بل خرجوا دفاعا عن حقهم بالحياة. خرجوا ضد مظاهر الفساد التي هددت مستقبل بلادهم الاقتصادي والثقافي والأمني.

ماذا حدث بعد ذلك، وكيف سطا الإسلام السياسي على المشهد؟

الإسلاميون لم ينتزعوا السلطة بالقوة بل قدّمت لهم من قبل الشعب التونسي، المؤمن والحداثي، على طبق من فضة.

هذا هو الحكم، فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.

فرحة استلام الحكم حجبت عن الإسلاميين حقائق كثيرة؛ أهمها أن الدين لله، أما الحياة اليومية فتحكمها قوانين مدنية.

الإسلام السياسي تيار يسير ضد الحداثة، ولن تنفعه بعض المساحيق يتخفى وراءها. في فبراير 1989 غيرت حركة النهضة التي كانت تعرف بحركة الاتجاه الإسلامي اسمها، وتجاهلت تغيير ما بنفسها. كان الأجدر بالحركة أن تحافظ على الاسم القديم وتجدد ما في داخلها.

الحزب الديمقراطي المسيحي في ألمانيا، لم يضطر إلى تغيير اسمه ليحكم ألمانيا، لأن الألمان يقيّمون أداءه في مجال الاقتصاد والأمن والصحة.. ولا يأبهون بعمق إيمان أعضائه أو باسمه.

ما ينطبق على النهضة والإسلام السياسي ينطبق أيضا على أحزاب اليسار التونسي التي أنزلت الأيديولوجيا منزلة مقدسة.

كل شيء بدأ من اللحظة التي أحرق فيها محمد البوعزيزي نفسه.

لم يضرم البوعزيزي النار في جسده دفاعا عن حزب أو أيديولوجيا، بل من أجل حياة تضمن حق العمل والتعليم والعلاج الصحي… وقائمة من المطالب الأخرى.

الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة خبر ذلك وأدركه جيدا.

في 29 ديسمبر 1984 انطلقت أحداث انتفاضة الخبز من الجنوب التونسي وأدت إلى مواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن.

ومع دخول مشروع الزيادة في أسعار الخبز حيز التنفيذ توسعت رقعة الاحتجاجات لتشمل مناطق الشمال والوسط الغربي، مما استدعى دخول الجيش بعد أن سجل عجز قوات النظام العام في الحد من توسع الانتفاضة، والتحق طلبة الجامعات والمدارس الثانوية بالشوارع معبرين عن رفضهم إلغاء الدعم عن الخبز.

في يوم 3 يناير أصبح العنف سيد الموقف في شوارع العاصمة وضواحيها.

ورغم إقرار رئيس الوزراء التونسي (محمد مزالي حينها) أن تلك الإجراءات نهائية وغير قابلة للتراجع، تواصلت المظاهرات في اليوم التالي. ولم تتوقف الحركة الاحتجاجية إلّا مع إعلان بورقيبة التراجع عن الإجراءات وإعادة النظر في الميزانية مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الاقتصادية المنهارة وعدم تحميل المواطن أعباء التدهور.

التونسيون رفعوا خلال ثورتهم عام 2011 شعار الشعب يريد، ولكن السياسيين لم يتوقفوا ليفكروا ماذا يريد الشعب التونسي.

رسالة البوعزيزي فهمتها الأحزاب السياسية ومن ضمنها حركة النهضة ومعها دول العالم بشكل خاطئ. لم تدرك أن الأيديولوجيا أصبحت بضاعة كاسدة. احتاج الأمر إلى عشر سنوات ومئات الآلاف من الضحايا تكبدتها دول “الربيع العربي” لتصحيح الموقف.

من سوء حظ الإسلام السياسي، وعلى رأسه حركة النهضة، أن التونسي اليوم لا يقيّم أداء الإسلاميين بناء على النوايا، مهما بلغت طيبتها، ولا بناء على التزامهم بالعبادات، فهذا أمر بينهم وبين خالقهم. النهضة حوسبت على أدائها في الاقتصاد والعلاقات الدولية وتحقيق الأمن والاستقرار. وكانت وفق غالبية التونسيين فاشلة.

اليوم عاد التونسيون ليلقنوا العالم درسا جديدا، فكانوا سباقين لإعلان موت الأيديولوجيا. الأحزاب التي ستنجو هي الأحزاب التي ستبدي استعدادا للتغيّر، وتدرك أنها مجرد مؤسسة يسند إليها الشعب إدارة شؤون البلد اقتصاديا وأمنيا وصحيا وتعليميا مهما كان اسمها ولونها…

التونسي لن يساوم على حقه بالحياة، ولن يساوم على مكتسبات الحداثة، لأنها ليست حدثا عارضا في حياته، بل هي جزء من الشخصية التونسية.

عن "العرب" اللندنية

الصفحة الرئيسية