لقمان سليم.. "طفل باحث" رفض أن "يعفو الله عما سلف"

لقمان سليم.. "طفل باحث" رفض أن "يعفو الله عما سلف"


06/02/2021

حسين طليس

تبدأ قصة لقمان سليم من على مدخل منزله، القابع في ساحة منطقة الغبيري، قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، مجاهراً باختلافه عن كل ما كان يحيط به من عمارة. المنزل التراثي العتيق لآل سليم ينضح من خارجه بما اجتمع فيه من أصالة واختزن من تاريخ. مفتوحا على مصراعيه يستقبل زواراً اعتادوا من كل مشاربهم على ارتياد المكان والتنقل فيه دون دليل، باحثين ومثقفين، إعلاميين وسينمائيين ومصورين، أصدقاء وأقارب وأهل، احتضنهم المنزل واستقبلتهم حديقته، كما اعتادوا أن يفعل لقمان، قبل اغتياله. 

يرى المراقب لتقاطر المعزين والوفود الإعلامية، كيف كانوا يسلكون اتجاهاً واحداً من عموم الدار الكبيرة، مع العلم أن الجثمان لم يصل إلى المنزل ولم تبدأ الاستقبالات والتعاز بعد. شقيقة لقمان، وزوجته ووالدته كلهم موجودون في المشهد خارج المنزل، ورغم ذلك يستمر الحاضرون بالتوجه إلى الداخل، باتجاه مكتبة الأرشيف التي تضم مكتب لقمان ومكان عمله.

يتفقدونها من أسفل رفوفها إلى أعلى دعائم الخشب التي تتحمل سقفها. يتنقلون بين عناوين الكتب وتسميات الأرشفة، يصورون المكان والموظفين فيه، يبث المراسلون رسائلهم المباشرة من الداخل فيستعرضون الأرشيف إلى جانب الخبر المفجع، يخرجون من المكتبة وعليهم آثار الحزن والصدمة وكأنهم ألقوا النظرة الوداعية على شخص لقمان في الداخل. 

لا مكان لمساحات بيضاء فارغة، الكتب تفترش الجدران، واقفاص الصحف والمجلات القديمة ترسم ممرات داخل المكتبة. "وكأنها انعكاس مادّي لعقل لقمان"، يصفها من عملوا إلى جانبه على امتداد مشاريعه، تختزن كل ما فكر به وعمل عليه، ما أحبه وجمعه واستعرضه، وما كرهه ودرسه وحلله والتصق به، وأكثر ما كره الحرب. 

حسن، ليال، باسل وأديب، جمعتهم مشاريع عمل متنوعة مع لقمان سليم في مراحل وظروف مختلفة من حياتهم. عاشوا معه وبين أرشيفه، شاركهم أفكاراً ونقاشات، وشاركوه أحلاماً ومشاريع، فعرفوه واقتربوا منه. يتحدثون لموقع "الحرة" عن جوانب أبرز في شخص لقمان سليم وحياته المهنية ونشاطه الثقافي، غابت بفعل البعد السياسي لاغتياله. 

"وقف إطلاق النار"

"كنت طالباً جامعياً في سنتي الأولى، 18 عاماً، وعاطلا عن العمل حين التقيت بلقمان. عرض علي العمل معه في مركز "أمم" من أجل تأمين تكاليف جامعتي". يقول الناشط الشاب باسل الأمين، "كنت أمسح الجرائد إلكترونياً، هذه وظيفتي أتفحّصها كلّ يوم، أمسحها بيدي، أبحث فيها عن خبرٍ واحد أو اثنين، أكويها إذا ما كانت باهتة أو قديمة، توجّب عليّ أن أقرأ التواريخ، وأن أتعرّف على الحروب والمجازر وعلى أسماء مرتكبيها، كان ثمّة ذاكرةٌ في متناول يدي، إرثُ بلدٍ بحاله، كان ينبش الماضي ليعمل عليه في الحاضر".

يذكر باسل مشروع "وقف إطلاق النار" الذي عمل عليه تالياً، "كان مطلوباً مني أرشفة كل إعلانات وقف إطلاق النار التي شهدتها البلاد خلال الحرب الأهلية. المشروع يتعلق بفكرة السلام أسماه حينها "السلام عليكم". يعشق لقمان التعمق في إطلاقه للعناوين والأسماء على مشاريعه، وبطريقة ما تعود الأمور لترتبط وتأخذ أبعاداً سوريالية، فيُغتال لقمان بإطلاق نار كان يدرس وقفه، وينضم اسمه إلى عامود الاغتيالات السياسية الذي كنّا نؤرشفه".

"اكتشفت بعد عامين ونصف من العمل معه، أن المشروع الذي كنت قد بدأت العمل فيه قد توقف منذ مدة طويلة، وأبقاني موظفاً لديه سنتين ونصف السنة، خجلاً من أن يصارحني بتوقف المشروع وانتهاء العمل، وحرصاً على مساعدتي في تكاليف جامعتي". هذه الواقعة تلخص لباسل أخلاق لقمان في تعامله مع الناس والعاملين معه. 

"أحداث فردية"

تشارَك الصحفي حسن عباس العمل مع لقمان في مشاريع بحثية عدة، منها مشروع طويل بعنوان "من الحادث الفردي إلى تهديد السلم الأهلي"، كانت نتيجته ثلاثة كتيّبات تتناول "أحداثاً وُضعت في سياق ما يحلو لكثيرين تسميته بـ "الحوادث الفردية" في لبنان، رغم أنها كانت متشابكة مع انقسامات دينية وطائفية ومناطقية موروثة عن الحرب الأهلية، وما يختزن وصف "حادث فردي" من محاولة لعزله عن السياق العام ورفع المسؤولية عن الفاعلين في تحديد هذا السياق العام، أي القوى السياسية التي تشحن المواطنين بخطابها السياسي".

يتحدث عباس بالتحديد عن هذا المشروع لأنه يعكس جزءاً أساسياً من اهتمامات لقمان. "كان يتحدث عن ضرورة إنتاج خطاب عن الحرب الأهلية 'يروّضها'، وهنا أستخدم تعبيره، لأن إرساء السلم الأهلي حالياً يحتاج إلى ذلك كي لا تطلّ ذاكرة الحرب وما خلّفته فينا برأسها دورياً وتضيف عناصر افتراق جديدة بين اللبنانيين. اهتمام لقمان بذاكرة الحرب هو مشروع كبير يضعنا في مواجهة مع ماضينا لنفهم ما جرى، كطريق إلى تجاوزه نحو مستقبل مختلف، لا تكون الصراعات المحدد الأساسي لحياة اللبنانيين فيه، لأن حاضرنا ‘حمّال حروب’، بحسب تعبير لقمان، أي حمّالٌ لذاكرة حروبنا".

اهتمام لقمان بالتاريخ وبالماضي وبأثره على الحاضر كان سببا لشغفه بجمع الوثائق والكتب القديمة والصحف والمجلات. يروي عباس أن لقمان "كثيراً ما ابتاع مكتبات منزلية يريد ورثتها التخلّي عنها، دون أن يعرف ما فيها من كتب. برأيه، سيجد بدون شك أموراً مفيدة وهامة، ولو لم يكن لها استخدام واضح في لحظتها سيكون لها استخدام لاحقاً، في إطار مشروع ما".

"لن يعفو الله عما سلف"

الصحافية ليال بو رحال عملت مع لقمان متحدثة إعلامية باسم "أمم"، خلال تنفيذها لمشاريع توثيقية حول ذاكرة الحرب الأهلية اللبنانية. "جمعنا بيانات كثيرة تتعلق بالمفقودين والمخفيين قسراً، عملنا على فكرة "العدالة الانتقالية" بعد الحرب كضرورة للوصول إلى السلم، وأهمية المصالحة مع الماضي مع مساءلة ومحاسبة، إذ لا يمكن لمجتمع أن يغلق صفحة حرب ويفتح صفحة جديدة و"عفا الله عما سلف" دون استخلاص عبر وإجراء مراجعات كافية لما ارتكب ويراد طمسه ونسيانه. 3 سنوات نراجع أعداد الصحف صفحة صفحة، لمتابعة جرائم معينة وأحداث محددة يمكن من خلالها استخلاص كل ما جرى حينها، كان عملا يومياً لفريق كامل".

ترى ليال أن لقمان كان يحمل رؤية مستقبلية، "لقد قام بما كان يجب على الدولة اللبنانية أن تقوم به، كان مقتنعاً بعد اطلاعه على تجارب دول عدة شهدت نزاعات، أنه لا يمكن للبنان أن يتخلص من مشاكله دون وجود عمل توثيقي وأرشيف لتلك المرحلة من الحرب للوصول إلى رواية موحدة ومشتركة بعد سماع كل الأطراف والاطلاع على كل التفاصيل الأرشيفية، كان يرى أهمية هذا العمل البالغة في غياب كتاب تاريخ موحد للبنان لاسيما لمرحلة الحرب".

"الموقف السياسي للقمان سليم لم يدخل أبداً في عمله التوثيقي والأرشيفي"، تؤكد ليال، "كل من عمل معه يدرك كم كان يفتح أفاقاً لمحاوره والعاملين معه للتفكر والتفكير بكل التفاصيل وكل الروايات والأحداث وتحليلها وربطها. كان يحفزنا على هذا النمط من التفكير، بتواضع وأخلاق ورقي".

دار الجديد

للقمان تجربة أخرى مع الكتب، عبر دار "الجديد" للنشر، افتتحها عام 1990 وأرادها مع شقيقته كـ"دار حرّة، مستقلّة وطليعيّة، كتّابها نجومٌ أينما حلّوا، وكتبها لا تشيخ، الجديد فكرة والأفكار لا توصد أبوابها". فأنتجت الدار مجموعة مهمة من الكتب في مجال الأدب العربي والمحتوى المثير للجدل، أبرزها كان آثار مؤلفات الفقيه اللبناني عبد الله العلايلي، وكتب طه حسين التي أصدرها بنسخات طبق الأصل عن طبعتها الأولى، وديوان الحلاج ومحمود درويش وأنسي الحاج، إضافة إلى عدد كبير من المجموعات الشعرية والدواوين، كذلك طبعت الدار مؤلفات لأسماء مشهورة عالمياً كالرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي وألكسندر سولجنتسين، ونورمان ميلر وغيرهم الكثير من أسماء الكتاب والأدباء المعاصرين والراحلين. 

ألّف سليم وشقيقته رشا كتاب «في قبرٍ في مكانٍ مزدحم يليه بيتنا زجاج ونرشق بالورد والحجارة»، كذلك ترجم كتب عدة من بينها للفيلسوف الروماني إميل سيوران والشاعر الألماني بول تسيلان والكاتب اللبناني جوزيف سعادة. 

"طفل يعشق البحث"

لم تنج السينما من اهتمامات سليم، فاهتم بالإنتاج بقدر الأرشفة والثقافة السينمائية، أخرج مع زوجته الألمانية مونيكا بورغمان فيلمين، أحدهما وثق مجزرة "صبرا وشاتيلا" التي حدثت خلال الحرب الأهلية في لبنان واستجوب فيه مرتكبيها، والثاني وثق ما تعرض له سجناء لبنانيون من تعذيب في سجون النظام في سوريا. 

كذلك كان قد خصص مكانا لعرض الأفلام السينمائية وإقامة الندوات والحوارات في بيته نفسه، أسماه "هنغار أمم" وقدمه لكل من أراد تقديم عرض او إجراء ندوة أو عرض فيلم. يتحدث المصور والمخرج أديب فرحات عن موقف جمعه بلقمان "عندما قررنا البدء بعرض الأفلام في نادي السينما اللبناني، كنا نواجه صعوبة في إيجاد مكان لعرض الأفلام، مجاني ولا يتدخل في مضمون ما نقوم بعرضه. ذهبنا لزيارة لقمان الذي كان سعيداً بما نقوم به. فتح لنا أبواب منزله بدون شروط و لا أحكام وقدم لنا "الهنغار" لنعرض فيه الأفلام مجاناً وأسبوعياً".

ينقل أديب عن أصدقاء لقمان وصفهم له بـ "طفل يعشق البحث"، دائما كان لديه على مكتبه ما يبهر به زواره، مادة أرشيفية، صورة، ورقة بخط يد أحدهم، فيلم نادر أو منسي، ومع كل ما يقدمه قصة. "اتصل بي في إحدى المرات وقد حصل على "نيغاتيف 35 مل" لفيلم مفقود للمخرج برهان علوية، الذي سرقت أفلامه خلال الحرب، اطلعت على الفيلم ليتبين فعلاً أنه فيلم "رسائل من زمن الحرب" بنسخته الأصلية غير المعدلة من قبل المخرج نفسه، حيث عاد وغير اسم الفيلم فيما بعد. كنت أتمنى على لقمان أن نبدأ بتظهيره بأسرع وقت كي لا تفسد النسخة فيجيبني "أنت بصلتك محروقة، فيه وقت".

"حين سمع عن نية إغلاق ستوديو بعلبك"، يسرد أديب "استقدم شاحنة وحمل المواد الأرشيفية فيها وكل ما كان موجود في المكاتب، بسعر كيلو الحديد اشتراها وعالجها وفرغها وحافظ على أرشيف الاستديو الثمين من التلف والضياع".

"لكل مقام قبّعة"

ترى ليال أن اختصار لقمان بموقفه السياسي، ومعارضته لحزب الله فيه نوع من التغييب لمزاياه وجوانب شخصيته الأخرى ودوره كمفكر ومثقف وقيمته كباحث وساعٍ لاكتشاف التجارب وتوثيقها، وهذا ما انكب عليه واستثمر به مجهوده الأكبر.

بدوره لم يستوعب أديب حجم الخسارة الثقافية التي يمثلها رحيل لقمان، "بينما تتحدث الناس والعالم عن مواقفه ونشاطه السياسي، أرى في اغتياله تغييباً لكنز من المعلومات والأرشيف. المميز فيه أنه متاح لكل الناس، لم يسأل يوما عن سبب الحاجة للمعلومات أو البحث، لم يطلب يوماً بدلاً لهذه المواد الأرشيفية، كما لم يقف في وجه حصول أي أحد إلى أين ما انتمى، على أي مادة أو معلومة أو وثيقة موجودة لديه، كان استثناءً في هذا المجال".

"من الصعب وضع حدود فاصلة بين اهتمامات لقمان سليم. لا يمكن التمييز بين لقمان الباحث ولقمان الكاتب ولقمان الناشر ولقمان الناشط السياسي". يختم الصحفي حسن عباس، "كل هذه الصفات كانت متداخلة وما يجمعها هو اهتمامه بتجاوز الماضي وببناء حاضر أكثر سلماً وأكثر أمناً. وتحقيق ذلك، حسبما كان يرى، له طرق مختلفة، فلكلّ مقام يتقدّم بالصفة الأنسب له. كانت له عدّة قبّعات يضعها، وتعبير 'القبّعات' هذا له".

عن "الحرة"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية