ملحمة الحزب الشيوعي العراقي .. بدم الرفاق لا راية الثورة

الأحزاب العربية

ملحمة الحزب الشيوعي العراقي .. بدم الرفاق لا راية الثورة


12/06/2019

عقب انهيار الحكم العثماني للعراق وبدء استعماره من قِبل بريطانيا العام 1918 شهد المجتمع العراقي تحولات كبرى كان أبرزها تشكُّل طبقة عاملة لأول مرة في تاريخه بفعل حاجة الاحتلال البريطاني لتشغيل البنى التحتية اللازمة لوجوده مثل السكك الحديدية والموانئ، بالإضافة إلى المصانع التي تسد احتياجات قواته، ومع استقرار الحكم الاستعماري رأت النخبة الوطنية، المتأثرة بأفكار النهضة والتنوير في المنطقة العربية فضلاً عن ثورة أكتوبر في روسيا العام 1917، ضرورة التحرر من ربقة الاستعمار والإقطاع معاً.

اقرأ أيضاً: الحزب الشيوعي السوري.. حين ضيّعنا "السوفييت"
تكونت أولى الحلقات الماركسية من الطبقة الوسطى العراقية وأبناء الارستقراطية المتعلمين وسط شعب تهيمن عليه الأمية نتيجة الاحتلال العثماني لوادي الرافدين الذي دام أكثر من أربعة قرون، والمسماة بـ"الفترة المظلمة".
ورغم حضور الأفكار الاشتراكية في المجال العام إلا أنّ أول تجربة تنظيمية تعود إلى "بيوتر فاسيلي" وهو مسيحي أشوري نشأ وتعلم في جورجيا التي هاجر إليها والده، دخل فاسيلي العراق عن طريق إيران العام 1922 وبدأ لقاءاته مع النخب الفاعلة؛ ليبدأ تشبيك الحلقات الماركسية في أنحاء العراق، وهي الحلقات التي صهرها يوسف سلمان يوسف الملقب بـ"الرفيق فهد" في الحزب الشيوعي العراقي العام 1934.
 الحزب الشيوعي العراقي لازال حاضراً في المشهد السياسي

سنوات المخاض الدموي
ليس من الممكن مقاربة تاريخ الحزب الشيوعي العراقي إلا على ضوء فهم البيئة السياسية العراقية التي تتميز تاريخياً بالعنف بين الخصوم السياسيين الذين غالباً ما يتبادلون أدوار الضحية والجلاد كل فترة؛ وقد قُدّر للحزب الشيوعي العراقي أن يعمل ضمن هذه البيئة ووسط ظروف غاية في القسوة والوحشية، وفرضت السرية والهروب الدائم من التصفية والاعتقال ظلالها على تفكير وسلوك الحزب، عدا فترات انفراج نسبية والتي غالباً ما تكون فخاخ تنصبها السلطة لكشف تنظيماته وقادته استعداداً للانقضاض عليه.

تكونت أولى الحلقات الماركسية العراقية من الطبقة الوسطى وأبناء الأرستقراطية المتعلمين

وبسبب هذه الظروف الصعبة ارتبطت بدايات الحزب الشيوعي العراقي بالبراعة التنظيمية والنضالية، وليس الفكرية، للرفيق فهد الذي بعد دراسته في أكاديمية "كادحي الشرق" انفتقت قدراته التنظيمية.
كانت أدبيات الحزب آنذاك تتمثل بالترجمات السوفييتية المقتضبة للماركسية وكراسات فهد التنظيمية والتي تغطي القضايا التي عني بها الحزب الشيوعي آنذاك من قبيل مكافحة الاستعمار وسياساته في العراق (على الرغم من أنّ البلد نال استقلاله العام 1932 إلا أنّ تبعيته لبريطانيا كانت واضحة) ومحاربة الإقطاع والفئات المتحالفة مع الاستعمار.
كما انشغل فهد بالمعركة الفكرية التي كانت سائدة في أوساط اليسار العالمي بين التيار الشيوعي والتيارات الاشتراكية الديمقراطية، وأصدر كتابه "حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية" وكتاب آخر عن الصهيونية وهو له أثره في هذا الجانب؛ حيث شكّل اليهود العراقيون نخبة مهمة من قيادات الحزب الشيوعي العراقي، وفي وقت كان فيه الكيان الصهيوني في بدايات نشوئه، امتازت الأقليات العراقية بجهد فكري دؤوب بصدد محاربة الصهيونية، لتتشكل لاحقاً وبتوجيه من فهد "عصبة مكافحة الصهيونية".
في العام 1949 أعدم النظام الملكي فهد والقياديَين في الحزب حازم وصارم ليقع الحزب الشيوعي العراقي في حيرة تنظيمية أفقدته كثيراً بالنسبة لحزب ناشئ، مما أرغم أعضاءه الشباب آنذاك على القيام بمواجهات غير محسوبة مع السلطة في ظل انكشافهم بهذا الشكل، وانعدام توازن القوى وانعدام قدرتهم على الاختباء بعد انكشاف المخابئ السرية بفضل الخيانات.

الحزب الشيوعي العراقي يتحالف مع العلمانيين مرة ومع الأصوليين أخرى

اقرأ أيضاً: كيف تحول حزب البعث في العراق من الأيديولوجيا إلى العائلة؟
واستمرت الانشقاقات والاضطرابات التنظيمية داخل الحزب منذ إعدام فهد وحتى 1955 حين قرّرت اللجنة المركزية انتخاب حسين أحمد الرضى "سلام عادل " سكرتيراً لها، وهو مُعلّم تعرض لملاحقات عدة وقاد إضرابات وتنظيمات حزبية بكفاءة في ظروف صعبة؛ فعمل أولاً على توحيد الحزب؛ فلم تبقَ منظمة خارجه، ورجعت التنظيمات المنشقة إلى حضن الحزب.
ورغم هذا النجاح التنظيمي إلا أنّ الخسارات الكبيرة والتصفيات الجسدية وظروف العمل السري لم تتح للحزب الشيوعي بناء منظومة فكرية، وإنتاج مفكرين بالشكل الذي يوازي مسيرته النضالية والأدوار المهمة التي لعبها في تاريخ العراق الحديث؛ فاستلهم نموذج الحزب الشيوعي السوري ونقل منه الأفكار والشعارات، وفي بعض مراحل الخلاف والانشقاق داخل الشيوعي العراقي كانت الأطراف تُحكّم فيما بينها خالد بكداش أمين الحزب الشيوعي السوري.

اقرأ أيضاً: حزب البعث السوري: تجربة خمسة عقود من الحكم.. ما أبرز التحولات؟
رغم دراسة العديد من الشيوعيين العراقيين في أكاديمية "كادحي الشرق" الروسية ومشاركة الحزب في المؤتمرات الدولية إلا أنّ العلاقة بينه وبين "الكومنترن" (الأممية الشيوعية) لم تكن واضحة أبداً؛ ويعلّل الشيوعيون العراقيون ذلك بأنّهم ليسوا النسخة المفضلة لدى الاتحاد السوفييتي الذي كان يُركّز بشكل أكبر على الشيوعي السوري في المنطقة.
استطاع عبد الكريم قاسم سحق انقلاب الشواف بدعم من الشيوعيين

الجمهورية الأولى
تعاون الحزب الشيوعي العراقي مع أحزاب تقدمية أخرى وضباط وطنيين للإطاحة بالنظام الملكي العراقي، وبدأ التخطيط لهذا الهدف منذ العام 1956 لينجز العام 1958 وكانت أداة تنفيذ ذلك تنظيم الضباط الوطنيين الذي يقوده الزعيم الركن عبد الكريم قاسم.

اقرأ أيضاً: حزب الوسط المصري إذ يدور في فلك جماعات الإسلام السياسي
ففي صباح يوم 14 تموز (يوليو) العام 1958 سيطر الضباط على مفاصل الدولة؛ لتعلن الجمهورية العراقية الأولى وإنهاء حلف بغداد وتحرر العراق من سيطرة الجنيه الإسترليني؛ وبدأ مشروع اجتماعي اقتصادي كبير كان للشيوعيين دور بارز فيه، مثل تشريع قانون جديد للأحوال الشخصية الذي أقر المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، وكذلك قانون الإصلاح الزراعي الذي فتّت ملكية الإقطاعيين الكبار.

أول تجربة تنظيمية تعود إلى بيوتر فاسيلي وهو مسيحي أشوري نشأ وتعلم في جورجيا

وعلى هذا النحو تميّزت هذه الفترة بقُرب الشيوعيين من السلطة وسيطرتهم الكاملة على الشارع العراقي، ورغم ذلك لم تكن هذه الفترة التي تحرر فيها الشيوعيون من العمل السري على ما يُرام طوال الوقت.
بدأت المشكلات من شخص قائد ثورة 1958 عبد الكريم قاسم الذي فضّل الانفراد بالسلطة، وقد كان أقرب للحزب الوطني الديمقراطي الذي يرأسه آنذاك كامل الجادرجي (وهو حزب يؤمن بالاشتركية الفابية) منه للحزب الشيوعي العراقي رغم أنه لم يكن منتمياً للاثنين.
في المقابل قصر الحزب الشيوعي في بادئ الأمر مطالبه على إيجاد مؤسسات ديمقراطية ونظام حكم برلماني، ولم يطالب بالاشتراك بالحكم؛ إذ بدا له أن النتيجة الأكثر احتمالاً هي الفوز بالانتخابات والمشاركة في الحكم.
وعلى عكس المتوقع انتهى الوفاق بين قاسم والشيوعيين في السنة الأولى من الثورة بعد أحداث كركوك العام 1959 التي اتهم قاسم فيها الشيوعيين بالتورط في القتل وسفك الدماء؛ وقد كان بعض الكرد المنتمين للحزب الشيوعي شاركوا، دون أن يمثلوا سياسة حزبهم، في معارك عرقية بين الأكراد والتركمان (الأتراك) أدت إلى مقتل العشرات من الطرفين.

اقرأ أيضاً: كيف حفّز حزب النور سلفيي الدول العربية على العمل الحزبي؟
ومع ذلك حين حاول القائد العسكري عبد الوهاب الشواف، بدعم من مصر وبتحالف داخلي مع القوميين والإقطاعيين وتيارات دينية ناقمة على نفوذ الشيوعيين، الانقلاب على عبد الكريم قاسم، كان تدخل الشيوعيين حاسماً في وأد المحاولة، وإثر تلك الأحداث رفع شعار الحزب الشيوعي ضرورة المشاركة في الحكم وهو ما رأى فيه عبد الكريم قاسم مزاحمة في السلطة.
اقترب الحزب الشيوعي بالفعل من الوصول إلى السلطة خاصة أن أعداد المنتمين إليه شكلت رقماً هائلاً، وقد سجلت تنظيماته الآلاف بعد ثورة 1958، مما حدا بالحزب إلى وقف الانتماءات الجديدة بعد العام 1959 لعدم قدرة هياكله على استيعاب هذه الأعداد، فيما بلغ عدد أعضاء لجنته المركزية 33 عضواً؛ وعلى الرغم من أنّ الحزب كان مؤهلاً لتسلم السلطة وإدارة الدولة إلا أنّ ما أوقف القيادة عن المضي في مشروعها الذي كانت تؤيده القواعد هو مذكرة الحزب الشيوعي السوفييتي المليئة بالنقد للحزب الشيوعي العراقي.
اعتبرت المذكرة موقف الحزب الشيوعي تطرفاً يسارياً، وطالبته بضرورة دعم قاسم ضد ما يتعرض له العراق من "مؤامرات ودسائس إمبريالية"، ليبقى الحزب في موقف المنتظر لهبات عبد الكريم قاسم في إشراكه بالسلطة.
وهكذا تنازل الحزب عن برنامجه دون أي بديل، وبقي في "تحالف من طرف واحد" مع النظام، رابطاً مصيره بمصير شخص قاسم، ولم يرسم لنفسه أي آفاق مستقبلية.
عبد الكريم قاسم تقرب من الشيوعيين في البداية وتخلى عنهم لصالح القوميين الذين انقلبوا عليه

إبادة وانشقاق
كانت النتيجة المنطقية لحكم قاسم الفردي وتقريبه القوميين من هرم السلطة هو أن يستثمر هؤلاء هذا القرب في الانقلاب عليه، وهو ما حدث فعلاً في 17 تموز (يوليو) العام 1963، ورغم أنّه كان بإمكانه قلب الطاولة على القوميين بتسليح الشيوعيين إلا أنّه فضّل تجنب إراقة الدماء، لتنتهي فترة حكمه بنهاية مأساوية تمثلت في إعدامه ورفاقه، ثم أذاع قادة الانقلاب بياناً في الصحف وتم توزيعه في الشوارع يحث على "إبادة الشيوعيين" وهو ما تحقق فعلاً في حملة راح ضحيتها الآلاف منهم، وفقد الحزب فيها معظم كوادره وقياداته وعلى رأسهم سكرتير اللجنة المركزية للحزب سلام عادل الذي عذب بطريقة وحشية حتى فارق الحياة.

ليس من الممكن مقاربة تاريخ الحزب الشيوعي العراقي إلا على ضوء فهم البيئة السياسية العراقية

بعد رحيل عادل المأسوي استلم عزيز محمد سكرتارية الحزب (وهي فترة السكرتارية الأطول في تاريخ الحزب من العام 1963 حتى 1993) وكانت الفترة من 1963 إلى 1968 عهد الجمهورية العراقية الثانية ذات نشاط خافت للشيوعيين وتميزت بحدوث أكبر انشقاق في تاريخ الحزب.
فقد ظهرت العام 1964 اتجاهات لدى بعض قيادة الحزب تتحدث عن بروز البرجوازية الصغيرة القومية وتسلمها قيادة الثورة الوطنية الديمقراطية، وإمكان تحقيقها أهداف الثورة الاشتراكية، ورافق هذه الاجتهادات تقليل من دور الحزب والطبقة العاملة والفئات الكادحة، وعلى الرغم من أنّ ذلك كان محل رفض لدى تيار واسع من القاعدة الحزبية، إلا أنّه تم إقرار تلك الاستنتاجات في اجتماع اللجنة المركزية في براغ العام 1964 وعُرف هذا الاتجاه فيما بعد بـ"خط آب".
وعلى الرغم من تخلي الحزب عن "خط آب" بعد عام واحد، إلا أنّ هذا لم يلغِ جذور الانشقاق الفكري والتنظيمي الذي يبرز مع كل انتكاسة؛ فحصل الانشقاق الأول العام 1967 ليتم تشكيل "الحزب الشيوعي العراقي – القيادة المركزية" الذي شطر معظم منظمات الحزب، ورافق هذا الانشقاق اعتقال بعض قيادات الحزب الشيوعي العراقي من قبل التنظيم الجديد المنشق.

عزيز محمد سكرتير الحزب الشيوعي من عام 1963 حتى 1993

اقرأ أيضاً: حزب التحرير: الخلافة الإسلامية والأسطورة المهدوية
دعا التنظيم الجديد إلى أساليب "حرب العصابات" و"البؤر الثورية" و"الانتفاضات المسلحة في الريف" وأصرّ على رفض الانقلابات العسكرية وإنْ كان تقبل فكرة دعم الجيش انتفاضته الشعبية المأمولة، والتي كانت بمثابة محاكاة لتجارب الكفاح المسلح الصاعدة في التيارات الشيوعية العالمية آنذاك بتأثير التجربة الكوبية وبتأييد مباشر من السفارة الصينية في العراق.
ومع ذلك ظلّت المحاولات العسكرية للتنظيم الجديد ضد السلطة محدودة ولم تمسّ بنيته، بل كانت خبرة الأجهزة الأمنية في قمع نشاط الشيوعيين التي تراكمت منذ العهد الملكي قد تنامت بعد إمساك البعثيين بمفاصل العمل الأمني خاصة بعد انقلاب 1968 الذي قام به البعثيون ضد القوميين ليترأس الجمهورية أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين الذي تولى الملف الأمني حتى تنحيته البكر العام 1979.
شهد التنظيم ضربة موجعة بعد نجاح الأجهزة الأمنية في القبض على قسم معتبر من كوادره، إلا أنّ الضربة الأكثر إيلاماً تمثلت في اعتقال مسؤوله عزيز الحاج العام 1969 الذي تم إظهاره بشكل مُهين في التلفزيون الرسمي معترفاً على كل مفاصل التنظيم، ليتم إعدام رفاقه، بينما تم تعيينه لاحقاً سفيراً للعراق في اليونسكو جزاء وشايته.
أحمد حسن البكر الأب الروحي لصدام حسين

فخ الجبهة الوطنية
بدأ حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق منذ العام 1970 مشاريع مهمة، فأعلن تأميم النفط ذلك العام، وأصدر بيان آذار (مارس) العام 1971 وهو أول بيان في العراق يمنح الحكم الذاتي للأكراد العراقيين، واعترف باللغة الكردية، وبذلك أنهى (مؤقتاً) مشكلة مستعصية عجزت الأنظمة العراقية المتعاقبة عن حلها.

اقرأ أيضاً: التجربة الحزبية عند الإخوان المسلمين: التنظير والعمل السياسي
كما عقد البعث معاهدة تعاون وصداقة مع الاتحاد السوفييتي واعتراف في وقتٍ مبكر بألمانيا الديمقراطية (الشرقية) وهو ما دفع الاتحاد السوفييتي للضغط على قيادة الحزب الشيوعي للتعاون والتحالف مع حزب البعث، بل وصل الأمر إلى اعتبار السوفييت نظام البعث أكثر جدارة للدعم من الشيوعيين.

كانت أدبيات الحزب الأولى تتمثل بالترجمات السوفييتية المقتضبة للماركسية وكراسات الرفيق فهد التنظيمية

ولم يصدر الضغط على الشيوعيين من قِبل الاتحاد السوفييتي فحسب، بل كان هناك ضغط موازٍ من قبل النظام البعثي أيضاً، ولم يكن هذا الضغط في بادئ الأمر بطرق الإرهاب المعتاد ضد الشيوعيين بل جرى على الساحة الصراع على النفوذ الجماهيري وعلى برنامج الشيوعيين أنفسهم، مما دفع الحزب الشيوعي إلى توقيع ميثاق العمل الوطني مع البعث العام 1973 من موقع التابع.
أتى درس الانقلاب الفاشل الذي حاول القوميون القيام به 1963 بثماره؛ وتجنب البعث العداء للشيوعيين إلى أن ثبّت دعائم سلطته، وكان للبعثيين عدة أسباب للمضيّ في التحالف، أهمها إظهار الشيوعيين في موقع الداعم لهم والاستفادة من امتدادات الحزب الشيوعي العربية والدولية، بالإضافة إلى المكانة التي يحوزها الحزب بين الجماهير العراقية والمثقفين، فكان التحالف معهم بمثابة تزكية للبعثيين على كافة المستويات خاصة مع تاريخ دموي ينوء بحمله البعثيون.
استمر التحالف بين الطرفين، إلى أن اتضح أنّ هدف البعثيين هو تجريد الحزب من مواقعه الجماهيرية عبر الإرهاب والقانون، خاصة مع ضغط البعثيين على الحزب لحل منظماته الجماهيرية التي كانت تضم عشرات الألوف من العراقيين في قطاعات الطلبة والشباب والنساء.

 خاض مصطفى البارزاني حرب عصابات في شمال العراق ضد الأنظمة العراقية ومنها البعث

اقرأ أيضاً: الأحزاب الكردية: صراعات وأحلام تنتظر التغيرات الدولية
استفاد البعثيون من شق الحركة الوطنية العراقية في الانفراد بالقوى الكبرى آنذاك، وهي؛ الحزب الشيوعي العراقي والحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يقوده الملا مصطفى البارزاني الذي خاض حرب عصابات ضروساً في شمال العراق ضد الأنظمة العراقية ومنها البعث.
كانت سياسة البعث في العمل الجبهوي قائمة على التحالف الثنائي مع الأحزاب الأخرى، وتجنب الدخول في تحالف جماعي بين الأحزاب، بهدف السيطرة على الأحزاب وتسهيل تقديمها لتنازلات فكرية وتنظيمية كبيرة لم يكن من المتصور تقديمها لو دخلوا معاً في جبهة مع البعث، ومن جانب آخر رفض الحزب الديمقراطي الكردستاني التحالف مع الشيوعيين رغم المواقف المشتركة والقتال جنباً إلى جنب ضد البعث، رغبةً منه في الاستئثار بالوضع في كردستان وعدم تقوية الشيوعيين الأكراد.
كان عمل الجبهة معتمداً على اللجان القاعدية للحزبين؛ البعثي والشيوعي، ترأستها لجنة مركزية في بغداد يتولى صدام حسين بنفسه إدارتها، ولجان قيادية في كل المحافظات، شريطة أن تكون ممثلة من مستويات قيادات الحزبين، مع امتياز أن يفتح الحزب الشيوعي مقراته في كل أنحاء العراق، وهذا ما كانت تنتظره بشغف الأجهزة الأمنية التي سجلت كل شاردة واردة بانتظار ساعة الصفر.
كانت ساعة الصفر، بعد فترة من الانتعاش النسبي بين عامي 1973 و1976، متزامنة مع موعد انعقاد المؤتمر الحزبي الثالث، علنياً، في بغداد للمرة الأولى منذ وصول البعث إلى السلطة، وكانت علانية المؤتمر بمثابة فخ للحزب؛ إذ انكشفت قواعده التنظيمية لأجهزة الأمن المختصة بمكافحة الشيوعية.

وسط ظروف غاية في القسوة فرضت السرية والهروب الدائم ظلالها على تفكير وسلوك الحزب

تصاعد الإرهاب ضد الشيوعيين، وبعد سيطرة الشيوعيين الأفغان على الحكم في أفغانستان ارتفع مؤشر الخطر لدى البعثيين من عمل مشابه في العراق، وقرر النظام العراقي إعدام 31 من العسكريين العام 1978 بتهمة انتمائهم للحزب الشيوعي داخل الجيش، ورغم الحملة العالمية ضد إعدامهم وتدخُل بريجنيف الذي أبرق للنظام العراقي، إلا أنّ البعث قام بإعدامهم وتسيير جنازاتهم أمام المقر الرئيسي الحزب الشيوعي كنوع من التحدي والاستهانة.
وكان آخر مسمار دُقّ في نعش الجبهة هو رفض الحزب الشيوعي إدانة النظام السوري بناءً على رغبة حزب البعث؛ إذ بيّن الشيوعي العراقي أنّ النظام السوري ينطبق عليه ما ينطبق على النظام العراقي، وأنّ المشكلة البعثية-البعثية لا تعنيهم، وكذلك رفضه إدانة منظمة التحرير الفلسطينية بعد خلافها مع النظام العراقي، ومع تصاعد الإرهاب ضد الحزب رفع كوادره شعار "دبر نفسك رفيق" في إشارة إلى أنّه على الرفاق الهروب فوراً من العراق.
ولأنّه لم تكن هناك خطة لهروب الشيوعيين، فقد سقط الآلاف منهم رجالاً ونساءً بيد الأجهزة الأمنية؛ لتبدأ حملة إبادة ثانية للشيوعيين فقد الحزب فيها معظم كوادره الوسطى وقاعدته إما عبر الإعدام أو السجن، واستطاع بعض كوادره الهرب إلى كردستان العراق التي وجدوا فيها ملاذاً مؤقتاً.
جدارية للرفيق فهد مؤسس الحزب الشيوعي العراقي

الكفاح المسلّح
تشكلت أولى خلايا الكفاح المسلّح الشيوعية في شمال العراق العام 1979 ليقر الحزب لاحقاً هذا المنهج فكرياً وتنظيمياً كوسيلة للإطاحة بالنظام البعثي، وأطلق على تلك الخلايا اسم "قوات الأنصار"، وقد سبق للشيوعي العراقي أن خاض كفاحاً مسلحاً وكان له متدربون في اليمن الجنوبية ولدى التنظيمات الفلسطينية.

في العام 1949 أُعدم فهد والقياديان الشيوعيان حازم وصارم ليقع الحزب في حيرة تنظيمية

إلا أنّ هذه الفترة لم تخل من بعض المفارقات المُنغِّصة؛ فكان الحزب الشيوعي العراقي يحارب إلى جانب القوى القومية الكردية ضد النظام العراقي، وكانت القوتان الرئيسيتان لتلك القومية هما؛ الحزب الديمقراطي الكردستاني، بقيادة الملا مصطفى البارزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، المنشق عنه، بقيادة جلال طالباني، يخوضان حرباً موازية ضد بعضهما البعض، وكلما شعر فريق منهم بقرب هزيمته استعان بالنظام العراقي ضد غريمه لتغيير المعادلة.
عانى الشيوعيون من هذا الصراع، وحاولوا مراراً التوفيق بين الطرفين دون جدوى؛ فاضطروا للدخول في جبهتين مختلفتين معهما بشكل منفرد، وهو ما أثار حنق الاتحاد الوطني الكردستاني؛ فهاجم في الأول من أيار العام 1983، المقرات المركزية للحزب الشيوعي في جبال كردستان العراق وأوقع فيهم مقتلة كبيرة فيما بات يعرف اليوم بـ"مذبحة بشتاشان".
أدى انعدام توازن القوى بين الشيوعيين والنظام واستعمال الأخير للأسلحة الكيماوية في شمال العراق، بالإضافة إلى الخلافات بين رفاق السلاح من التنظيمات القومية الكردية إلى فشل استراتيجية الكفاح المسلح في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، رغم مساحات الأراضي الهائلة التي سيطر عليها الحزب وكم الشهداء الذين قدمهم.

اقرأ أيضاً: الأحزاب العربية: خيبات الفرص الضائعة
في المحصلة خرج الحزب الشيوعي العراقي من كل التحالفات خاسراً؛ فتحالفه مع الأحزاب الوطنية فترة عبد الكريم قاسم ودفاعه عن ثورته، من منطلق مساندة الحكم الوطني، أسفرا عن ملء السجون بالشيوعيين، وحصلوا في ختام تلك المرحلة على مذبحة، وسلّمهم تحالفهم مع البعثيين في منتصف سبعينيات القرن الماضي إلى مجازر العام 1979، وتحالفه مع الأحزاب القومية الكردية في تجربة الكفاح المسلح كان خاضعاً لتقلبات "الأخوة الأعداء" وكانت نتيجته مذبحة بشتاشان.
وقد أقدم قسم كبير من الشيوعيين على مراجعة سياسات الحزب عبر تاريخه، واعتبروا تلك التحالفات غير مبررة، بينما رأى فيها الآخرون ضرورة لالتقاط الأنفاس، وأنّه في ساحة عمل كالعراق من المحال إنجاز برنامجهم بمفردهم، ومنذ البدايات وصى فهد رفاقه بالقول "قووا تنظيم حزبكم قووا تنظيم الحركة الوطنية".
انتهى الوفاق بين قاسم والشيوعيين في السنة الأولى من الثورة

مأزق الاحتلال والطائفية
أدركت القوى السياسية العراقية المعارضة خارج العراق استحالة إسقاط نظام صدام حسين، كما أنّ كل محاولة لإسقاطه من الداخل ستكون نتائجها وخيمة؛ فسياسة العقاب الجماعي التي كان يمارسها النظام ضد أقارب المعارضين إلى الدرجة الرابعة أنهت بشكل مطلق مجرد التفكير بالتغيير من العراق، سواء عبر الانتفاضة أو الانقلاب العسكري.
ومع اندلاع أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 واحتلال أفغانستان بات غزو العراق مسألة وقت، وبين قسوة النظام العراقي الذي في رقبته دماء آلاف من الشيوعيين العراقيين وبين احتلال قوة إمبريالية للعراق رفع الحزب شعار "لا للحرب لا للدكتاتورية"، وهو الشعار الذي تبناه اليسار الأوروبي أيضاً.

استمرت الانشقاقات والاضطرابات التنظيمية داخل الحزب منذ إعدام فهد وحتى العام 1955

رفض الحزب الشيوعي الحرب باعتبارها الخيار الأسوأ والأشد تدميراً، مؤكداً أنّ مشروعه في الخلاص لا يتأتى بدعم احتلال أجنبي، وفضّل خياره السياسي المعتمد على الشعب والقوات المسلحة ووحدة القوى الوطنية المعارضة.
لكن القوى المعارضة التي راهن عليها الحزب من التيارات الرئيسة: الإسلامية والقومية والليبرالية تعاملت مع الاحتلال واعتبرته أمراً واقعاً، وهيأ الجميع نفسه لمرحلة ما بعد صدام حسين.
أرسى المشروع الأمريكي منهج المحاصصة الطائفية والعرقية كأسلوب لحكم العراق، وكانت النتيجة صعود الهويات الفرعية وممثليها كأطراف حاكمة، مع ما تستثمره من تهييج وصراع عرقي وطائفي.
إلا أنّه مع هامش الحرية النسبية المتاح في عراق ما بعد الاحتلال، فضّل الحزب الشيوعي الدخول في العملية السياسية الجديدة، رغم انقطاعه عن الشارع العراقي منذ العام 1979؛ فأعاد افتتاح مقراته في جميع أنحاء العراق وأعاد الصلة بتنظيماته، إلا أنّ الواقع الجديد الذي يعيشه الحزب أصبح مخيباً لآمال الشيوعيين وأنصارهم، وترجع حالة الضعف التي يعانيها الحزب وتنظيماته إلى سببين رئيسين:
أولاً، ضعف اليسار والتيارات الشيوعية في العالم بعد انهيار جدار برلين وسقوط الاتحاد السوفيتي وبروز القطب الواحد، على الرغم من أن الحزب حاول تلافي تبعات الانهيار مبكرا؛ فعقد مؤتمره الخامس "مؤتمر الديمقراطية والتجديد" العام 1993 وأقر الديمقراطية منهجاً في تنظيماته، لكن انهيار اليسار العالمي، الذي ألقى بظلاله على كل الأحزاب الشيوعية في العالم، كان أكبر من أن تُعالجه إصلاحات التنظيم الداخلي لحزب مُهّشم.

فقد الحزب الشيوعي معظم كوادره وقياداته

اقرأ أيضاً: الأحزاب الدينية المصرية بعد ثورة يناير: متى تتجاوز مربع الشعارات؟
ثانياً، صعود التيارات الإسلامية السياسية في العراق، ورغم أنّ ذلك يعد جزءاً من حالة عامة في الشرق الأوسط بعد نكسات القومية، إلا أنّ العراق عانى من التداعيات الكارثية لصعود تلك القوى التي ساهم في نموها واستفحالها سياسة النظام السابق الطائفية التي تبناها بعد حرب الخليج العام 1991، متمثلة في "الحملة الإيمانية" التي استهدفت القوى الشيعية التي حصدت بدورها ثمار مظلوميتها بعد العام 2003 وما زالت مستمرة في استثمار السياسات الطائفية للنظام السابق.
وعلى هذا النحو أفقد النهج الحاكم الجديد المبني على الطائفية والعرقية، بالإضافة إلى تفضيل الأقليات تنظيم نفسها بعيداً عن الإطار التاريخي للدفاع عنها وهو الحزب الشيوعي العراقي، الشيوعيين كثيراً وضاعف حجم عزلتهم في المجتمع عن الشرائح الفقيرة والكادحة التي أصبحت وقوداً للتيارات الإسلامية في معاركها الطائفية.

الخسارات الكبيرة والتصفيات الجسدية وظروف العمل السري لم تتح للحزب الشيوعي بناء منظومة فكرية

ومع ذلك مازال الحزب محتفظاً بتنظيماته ويحاول الانتشار في كل مناطق العراق، مستثمراً في إرثه التاريخي وعدم تورطه في قضايا الفساد المالي وهي السمة الأبرز للأحزاب العراقية، وكذلك عدم دخوله في مطحنة الاحتراب الطائفي، وما يزال مشروعه الحالي هو وحدة القوى المدنية الديمقراطية في برنامج اقتصادي اجتماعي قائم على العدالة الاجتماعية والديمقراطية، رغم أنّ برنامجه يحظى اجتماعياً بنسب قبول كبيرة خاصة بين الطبقة الوسطى العراقية، إلا أنّه من الصعب ترجمة هذه المقبولية العالية إلى أصوات انتخابية، لكن الحزب مُصرّ على أن يبلور نفسه كبديل يقف دائماً قرب الأحداث مهما كان حجم تأثيره.
يحتفل الحزب هذا العام بذكرى تأسيسه الخامسة والثمانين، ليكون بذلك عميد الأحزاب العراقية، إلا أنّ التاريخ وحده لا يشفع أمام التحديات التي تواجهه في الساحة العراقية، ولعلّ أهمها تجديد دمائه بالشباب، وإعادة تصعيد مسألة توزيع الثروات كأساس للاستقطاب السياسي، في ساحة سياسية كالعراق يتم الاستقطاب فيها على أسس عرقية وطائفية.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية