بأي معنى هو تجديد الخطاب الإسلامي؟

بأي معنى هو تجديد الخطاب الإسلامي؟


21/10/2019

تشيع في أدبيّات الإسلاميين عموماً فكرة أنّه لا بدّ من "تحديث" الخطاب الإسلامي كي يستطيع مواكبة الأحداث ليست الراهنة فحسب، ولكن من قبل ذلك عندما بدأ هذا الخطاب يشتبك مع مشاكل نظريّة وعمليّة عالية حول السلطة والمجتمع والفرد والحقوق.

اقرأ أيضاً: الحداثة وعقلنة الخطاب الإسلامي
إنّ تصفّحاً في أدبيات الإسلاميين وفي خطاباتهم؛ مكتوبة ومشفوهة، يوحي لنا بالفكرة التالية: نحن نمتلك مضامين صحيحة -سواء أكانت قديمة تراثيّة أو حديثة أُنتجت على غرار القديمة-، وما نحتاج إليه ويعوزه خطابنا إلى الغير -سواء أكان هذا الغير السياسي ليبرالياً واشتراكياً أو إلى آخر غير دينيّ عامّة- هو "صورة" جديدة لتلك المضامين الصحيحة التي نمتلكها.

ينظر الإسلاميون للدولة على أنّها أداة مُفرغة يمكن ملأها بأيّ مكوّن أيديولوجيّ دون الاعتبار أبداً لطبيعة الدولة الحديثة وعملها

نُلاحظ دائماً هذه الثنائيّة في خطابات الإسلاميين عامّة بين الخطاب والمضمون، ليس فقط على مستوى الطرح النّظري الذي يطرحه هؤلاء الإسلاميّون، بل إنّ ذلك امتدّ إلى فهم منتجات الفكر عامّة، والفكر الغربي بشكل أخصّ. إنّ الأفكار الشائعة حول قبول المنتجات الغربيّة دون الفلسفة الكامنة وراءها، كما وجدنا مَن يقول إنّ الديمقراطيّة آليات وفلسفة، ومن ثمّ فهو يقبل بالآلية دون الفلسفة، كلّ ذلك ليس سوى امتداد للمشكل الوجودي للإسلاميين المتعلّق بهذا السّؤال: أيّ رؤيّة للعالَم تلك التي نروم بناءها لأنفسنا الحاليّة، وما موقعنا في الزمان؟

سعى الإسلاميّون على الدّوام لأن يكونوا في منطقة وسط بين التراث الذي يعتقدون أنّهم يمثّلونه من حيث جوهره الأخلاقيّ والعقديّ (الشريعة) وبين منجزات العصر الذي وجدوا فيه (الحداثة)، وبالتالي فهم يحاولون دوماً أن يقدّموا خطابات تقارب التراث (الشريعة) بمصطلحات العصر (الحداثة) دون وعيٍ بالفارق المنهجيّ بين نظامين من الخطاب -بتعبير ميشيل فوكو- مختلفين من حيث البنية والرؤية والغاية. هذه المنطقة الوسط هي ما أنتجت تلك الإشكالات النظريّة والأخلاقيّة الكبرى في الوعي الإسلامويّ فيما يتعلّق بمفاهيم حيويّة كالدولة والدين والشريعة.

اقرأ أيضاً: من يتحمل مسؤولية تجديد الخطاب الديني؟

يمكن التعريج مثلاً على مفهوم الدولة عند الإسلاميين، حيث ينظرون إلى الدّولة على أنّها أداة مُفرغة يمكن ملأها بأيّ مكوّن أيديولوجيّ، دون الاعتبار أبداً لطبيعة الدولة الحديثة واختلاف عملها عن أيّ شكلٍ من الحكم سابقٍ عليها. ومن ثمّ، فعندما يربط الإسلاميّون مشروعهم بالدولة –والإسلامويّة منذ الأساس هي حركة اجتماعيّة-سياسيّة- فإنّهم لا يعون لهيكل الدولة وطبيعته البيروقراطيّة والقطاعات داخل الدولة التي تُسيّر بمنطق مختلف.

في كتابه "الدولة المستحيلة"، كان وائل حلاق بالأساس مهجوساً بمحاولة كشف الخطاب الإسلامويّ حول الدولة وكيف أنّه خطاب غير معرفيّ في أحسن توصيفاته، وأنّ الإسلاميين لا يفهمون بنية الدولة ولا بنية العصر الذي يحيوه؛ بحيث إنّ مفهوماً كمفهوم الشريعة غدا "قانوناً"، والأمّة ستغدو كجماعة، والأخلاق ستتحوّل إلى ترسانة عِقابيّة.

يقول حلّاق بشكل واضح وذكيّ موضحاً هذا التشوش: "تفترضُ الخطابات الإسلاميّة الحديثة أنّ الدولة الحديثة أداة حكمٍ محايدة، يمكن استخدامها في تنفيذ وظائف معيّنة طبقاً لخيارات قادتها وقراراتهم. كما تفترض أنّ بمقدور القادة أن يحوّلوا آلة حكم الدّولة، حين لا تُستخدَم للقمع، إلى ممثّل لإرادة الشعب، محدّدين بذلك ما ستكون عليه الدّولة […] هكذا، تنظرُ الخطابات الإسلاميّة إلى الدولة الحديثة كما نظر أرسطو والأرسطيّون إلى المنطق، أي كتقنية محايدة أو كأداة توجّه التفكير السليم في ما يخصّ أي موضوع أو مشكلةٍ في العالم". (حلّاق، الدولة المستحيلة، 275-276).

اقرأ أيضاً: تجديد الخطاب الديني بين الوهم والواقع.. هل سيكون الجيل الجديد أقل أصولية؟

لا أريد الإطالة بالأمثلة، التي هي ناتجة بالأساس عن "توفيقيّة ملتبسة" في الخطاب الإسلامويّ بخصوص تحديث خطابه. غير أنّ التشوّش ليس فقط المفهومي، بل التشوش الرؤيوي لدى الإسلاميين غير متعلّق باللغة من حيث هي أدوات توصيل، بل متعلّق باللغة من حيث هي إمكان وجودي للتعبير عن الذات في الزمان؛ فالفكر نفسه ليس سوى لُغة مقلوبة، وكلّ فهم يُطرح للذات أو للغير ما هو إلّا فلسفة كامنة للغة نكتنفها لأنفسنا. لا يمكن أن تبقى اللغة منضبطة خطابياً، وهي معوجّة وجودياً.

المشكل، أنّ ثمّة أسطورة في مخيال الإسلاميين عموماً أنّه يمكن تحديث الخطاب حول قضايانا القديمة، وأنّ الخطاب منفصل عن القضيّة التي يتضمّنها الخطاب؛ ممّا يوحي أنّ الإشكال العربي-الإسلامي داخلياً وخارجياً هشّ ويحتاج إلى إصلاحات لغويّة ظاهريّة يمكن ترميمها من خلال "حاذق"، ليس إلّا، وأنّ المسألة ليست أنّ هناك زماناً نظريّاً مختلفاً يفرض لغته بحدودها وبمفاهيمها. أيّة علاقة تلك التي يتصورها الإسلاميون حول اللغة؟ أو هل التحديث ظاهريّ إلى هذا الحدّ؟

ينبغي التأكيد أنّ اللغة ليست وسيلة تواصل كما هو شائع، إنّما هي أداة خلْق لمواضيع لم تكن متاحة للغة أخرى تناقش مواضيعَ أخرى.

اقرأ أيضاً: جناية "أل" في الخطاب الديني

بمعنى؛ اللغة ليست فقط "أداة" جافّة لبناء تواصل بين الذوات، بل اللغة نفسها تتدخّل في المضمون. لا ينبني المضمون إلّا عن طريق اللغة، لا بدّ له من المرور باللغة كي يُنجز هذا المضمون، ومن ثمّة إن هناك إشكالية أخرى في مخيال الإسلاميين يمكن تسميتها "توصيل المنفصل"، وتتمثّل في الآتي: إنّ الإسلاميين لا يفرّقون بين "توصيل" المضامين بشتّى وسائل خطابيّة، بحيث تأخذ كلّ وسيلة شكلاً ملائماً وتداولياً لكلّ مقام، وبين "إنشاء الخطاب" والذي لا تنفصل فيه اللغة عن المضمون. لا بدّ من هذا التفريق كي نكتشف هذا العطب.

إنّ اللغة ليست تحديثاً يُدخل على خطابٍ ما، ليغدو هذا الخطاب جديداً -جدّة زمانيّة ونظريّة- وراهناً ومؤمناً بالآن وهنا، وإنّما التحديث هو أن نغيّر من نمط "مَقُولنا" عن أنفسنا من خلال لُغة جديدة وجودياً تؤمن بالزمان، وبكوننا في علاقة "مختلفة" –وليست نقيضة- مع العالم. وهذا التصوّر، الذي أقلّ ما يُوصف بأنّه غير معرفيّ، لا يمكن أن يعي بأنّ التحديث يكون موضوعاتياً وليس لغوياً، إذا فهمنا اللغة بالمعنى الشائع والعمومي.

تحديث الخطاب هو الذي أنتج كلّ هذا التشوّش المفهومي لدى الإسلاميين فصارت الشورى هي الديمقراطيّة والخلافة هي السيادة

إنّ تحديث الخطاب هو الذي أنتج كلّ هذا التشوّش المفهومي الذي ملأ به الإسلاميّون الأماكن والأوراق والأمكنة. تحديث الخطاب هو مَن جعل الشورى هي الديمقراطيّة، والخلافة هي السيادة، والأمّة هي الأمّة المواطِنة الحديثة. تحديث الخطاب هو مَن جعل السياسة هدفاً، وليس مجالاً مفتوحاً لإنشاء سياسات صداقة ملائمة كي نعيش معاً كاحتمال جذري لأنفسنا المتشظيّة من الدولة الأم ومن التاريخ الطويل الذي لم يبتكر مفهوم الفرد الحديث.

ثمّة تفكير رغائبي توسيليّ عند الإسلاميين، وثمّة إرادة لتوسيل العالم واللغة والناس والسياسة لأهداف نظريّة لم يُحسم أمرها بعدُ نظرياً. ليس عيباً أن نفكّر بشكل رغائبيّ، فإنّي أرى أن كلّ تفكير هو تفكيرٌ رغائبي، وكلّ تأويل هو تأويل رغائبيّ، بشكل ما. لكن علينا أن نسأل: أيّة رغائبيّة تلك التي ينبغي أن نعمل عليها؟ رغائبيّة المبنى أم رغائبيّة المعنى؟ رغائبيّة تريد تملّك الموجود لتوسيله وجعله تقنية مستباحة، أم رغائبيّة لإنتاج أفقٍ للتداول معاً؟

ولا يخفى أن تحديث الخطاب الذي قاموا به لم يقف عند مجرّد التحديث الظاهري والشكلي. فالشكلي ليس شكلياً أبداً، وهذا التحديث لخطابهم جعلهم يفتحون نقاشات حول موضوعات لم تكن تخطر لهم. فمن يتابع شأن الإسلاميين يُلاحظ أنّهم لم يقدروا على السيطرة الخطابيّة لخطابهم بالقدر الذي يرومون، بل وجدوا أنفسهم منغمسين في أطروحات نظريّة جديدة طارئة ومهمّة لا بدّ من معالجتها. إن التلفيق اللغوي يجرّ إلى تلفيق معرفي ولا بدّ، وإنّ كلّ طرح يقوم على معالجة الراهن من خلال فصله عن راهنيته ووضعه في غير راهنه، يجرّ إلى كلّ هذا التشوّش الذي يعاني منه الإسلاميّون.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية