خيارات تركيا الجديدة: أردوغان يُرقّع علاقاته مع خصومه

خيارات تركيا الجديدة: أردوغان يُرقّع علاقاته مع خصومه


كاتب ومترجم جزائري
23/12/2021

ترجمة: مدني قصري

لم يعد الرئيس رجب طيب أردوغان الرجل نفسه؛ لقد أفسح توهّجُه العدواني المجالَ للبحث في كلّ الاتجاهات عن تحالفات في الشرق الأوسط، حتى إن كان ذلك على حساب تنازلات أيديولوجية مريرة، ذلك لأنّ المال، العمود الفقري لدبلوماسيته الهجومية، يُعوزه اليوم بشكل قاسٍ وأليم.

لكنْ ما الذي يحدث في تركيا؟

إنّ الذي يحدث هو أنّ رئيس الجمهورية العاصف بدأ يُغيّر لهجتَه، ويراجع مبادئه التوجيهية ويمدّ يده الآن إلى أولئك الذين كانوا منذ وقت ليس ببعيد من بين أسوأ خصومه الإقليميين. الأوقات صعبة، وهذا صحيح؛ لقد تلاشت نشوة بداية القرن الحادي والعشرين. الطفرة الاقتصادية، "المعجزة التركية" لم تعد إلا ذكرى باهتة، ناهيك عن أنّ واقع وجود عملة وطنية هالكة يَفرض خيارات جذرية مؤلمة ومؤذية.

إقرأ أيضاً: البكتاشية في ألبانيا تعرقل مشروع أردوغان الإسلاموي

قد يكون النمو بنسبة 7,4٪، في الربع الثالث من عام 2021، مضلِّلاً، لكن مع تحديد معدل التضخّم رسمياً عند 21,31٪، على مدار عام واحد، حتى 3 كانون الأول (ديسمبر) 2021، وهو رقم يراه البعض مقتضباً،  يَدخل نظامُ أردوغان في مرحلة شائكة وصعبة.

تضخّم متماشٍ مع الاستياء

تستمرّ صفوف مؤيدي رجب طيب أردوغان في التراجع والتشتّت، كما تشير المنحنيات المنتكسة لنتائج الانتخابات منذ بضع سنوات، وتبدو الانتخابات الرئاسية والتشريعية، المقرّر إجراؤها في تموز (يونيو) 2023، سيئة للغاية؛ إذ تُظهِر استطلاعات الرأي أنّ أردوغان سيُهزَم في أعلى منصب مِن قِبل عمدة إسطنبول، كما حدث مع عمدة أنقرة.

تركيا رجب طيب أردوغان نفسها ليست بمنأىً عن منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية"، التي تواصل توجيه أصابع الاتهام إليها بسبب انتهاكاتها العديدة لحقوق الإنسان

إنّ انخفاض العملة الوطنية، بنسبة 45٪ أمام الدولار الأمريكي، منذ أوّل كانون الثاني (يناير) 2021، وحتى 30٪ منذ نهاية تشرين الأوّل (أكتوبر)، ليس غريباً عن هذا السخط والاستياء، لقد أدّى هذا الانخفاض في الواقع إلى الارتفاع المذكور أعلاه في الأسعار، ناهيك عن ارتفاع تكلفة الواردات، وهي زيادة تشعر بها بمرارة الغالبية العظمى من الأسر في تركيا.

ومع ذلك، فإنّ العلاج الأوّل الذي اقترحه، أو بالأحرى فرضه، الرئيس أردوغان، ما انفكّ يفاجئ أو يربك الاقتصاديين؛ إذ ضغط أردوغان على البنك المركزي، بشكل مستقل من الناحية النظرية، لخفض أسعار الفائدة، وهو ما فعله البنك في الحال ثلاث مرات خلال شهرين اثنين، في حين أنّ النظريات الاقتصادية الكلاسيكية ترى أنّه من المناسب زيادة هذه المعدلات لمحاربة وكبح جماح التضخم.

إقرأ أيضاً: نموذج أردوغان الاقتصادي الذي سيؤدي إلى الكارثة

لمواجهة الهجمات ضدّه، ردّ أردوغان، في الأوّل من كانون الأوّل (ديسمبر)، قائلاً: "ما نقوم به هو الصواب؛ لقد تابعنا، وما نزال نتّبع، خطة محفوفة بالمخاطر سياسياً، لكنّها صحيحة (...)، ونحن نعرف ما نقوم به، هذه وظيفتنا"؛ فكلّ من يعارضون خطة أردوغان سيواجهون ردوداً انتقامية، كما أشارت إلى ذلك "رويترز"، في 2 كانون الأول (ديسمبر): "أقال أردوغان ثلاثة محافظين للبنك المركزي منذ منتصف عام 2019، وأقال ثلاثة من كبار السياسيين في البنك، في تشرين الأوّل (أكتوبر)".

تجديد الروابط المقطوعة

لكنّ أبرز القرارات التي اتخذها الرجل التركي القوي في هذا السياق تكمن في توجّهاته في السياسة الخارجية التي بدأ في مراجعتها مع محاولته من خلال عملية استعادة توازن صعبة جداً، عدم خيانة التحالفات والخيارات التي كانت له لفترة طويلة؛ لذلك يسعى أردوغان الآن للتحدث مع القوى الإقليمية التي كان يعدّها في السابق دولاً مخاصمة، وكان يعاملها على هذا الأساس: مصر وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة.

أنقرة اصطفت لصالح قطر خلال الأزمة الدبلوماسية في الخليج، بين تموز (يونيو) 2017 وذلك العام، وبذلك وضعت نفسها في مواجهة ثلاث عواصم في المنطقة؛ الرياض وأبو ظبي والمنامة، والتي اضطرت في ذلك الوقت إلى فرض حصار على الإمارة الصغيرة، المتَّهمة من بين "جرائم" أخرى على غرار تركيا بدعم حركة الإخوان المسلمين عبر منطقة مضطربة بسبب هزات "الربيع العربي".

10 مليارات دولار وعصر جديد              

هل اختفت هذه التوترات، وكأنّها بفعل سحر ساحر؟ مطلقاً. لكنَّ أكبر اثنين من كبار المسؤولين؛ رجب طيب أردوغان في أنقرة، وولي العهد الشيخ محمد بن زايد، وجدا أنّ التقدير الصحيح لمصالح بلديهما يتطلب تحقيق المصالحة. وهي المصالحة التي جسّدتها زيارةٌ رسمية قام بها المسؤول الإماراتي لأنقرة، في 24 تشرين الثاني (نوفمبر)، ولم يأتِ محمد بن زايد خالي الوفاض؛ إذ تحدّث عن استثمارات في الاقتصاد التركي خلال السنوات القليلة المقبلة بقيمة 10 مليارات دولار (8,86 مليار يورو). من جهته أشاد الرئيس أردوغان بميلاد "حقبة جديدة" في العلاقات بين بلاده ودولة الإمارات العربية المتحدة.          

الثمن شلّ نشاط الإخوان

ما الثمن الذي دفعه الرئيس التركي مقابل هذه المساعدة الواردة من قوّة كانت خصماً حتى تلك اللحظة؟ قال إنّه قبِل أن يستولي على نشاط الإخوان المسلمين العرب الذين لجأوا إلى الأراضي التركية وعلى وسائل الإعلام القريبة منها في إسطنبول.

إقرأ أيضاً: انهيار الليرة التركية.. هل يُسقط السلطان أردوغان؟

وهذا ما أكّده موقع "Middle East Eye"، في 25 تشرين الثاني (نوفمبر): "في وقت سابق من هذا العام،  طلبت السلطات التركية من بعض القنوات، بما في ذلك عدة قنوات تابعة لجماعة الإخوان المسلمين، تعطيلَ بعض برامجها الإذاعية السياسية. على الرغم من أنّ هذه القنوات لم تُطرد من البلاد إلا أنّ هذا الإجراء كان بمثابة تصريح واضح بأنّ أنقرة تنأى بنفسها عن جماعة الإخوان المسلمين، وأنّها مستعدة لتعزيز العلاقات مع دول مثل الإمارات العربية المتحدة ومصر".

تستمرّ صفوف مؤيدي أردوغان في التراجع والتشتّت، كما تشير المنحنيات المنتكسة لنتائج الانتخابات منذ بضع سنوات، وتبدو الانتخابات الرئاسية والتشريعية، المقرّر إجراؤها في تموز (يونيو) 2023، سيئة للغاية

لكن، من ناحية أخرى؛ من السهل أن نتصور أردوغان يغيّر موقفه تجاه قطر البلد المستثمر الكبير في تركيا، أو حتى أنّه يمكن أن يغيّر موقفه في ليبيا.

سفيران قريباً في القاهرة وتل أبيب

تتجه الأمور نحو التهدئة تجاه دولتين أخريين في المنطقة كان للرئيس التركي معهما علاقات إشكالية: مصر وإسرائيل.

 قال الرئيس التركي، في 29 تشرين الثاني (نوفمبر)، في شأن هاتين الدولتين: "مثلما تمّ اتخاذ خطوة بيننا وبين الإمارات العربية المتحدة سنتّخذ إجراءات مماثلة مع الآخرين"، الآن عندما نتخذ قرارنا سنتمكن بالطبع من تعيين سفراء وفق جدول زمني محدد".

إقرأ أيضاً: مأزق الإقتصاد التركي في ضوء سياسات أردوغان

   مع القاهرة كانت تركيا أردوغان غاضبة للغاية في صيف 2013، بعد الإطاحة من قبل الجيش المصري بأوامر من عبد الفتاح السيسي، والذي وضع حدّاً لتجربة ديمقراطية، بأخطائها ونواقصها، بدأت قبل ذلك بعامين، بعد سقوط نظام حسني مبارك، لم يستطع الرئيس التركي أن يغفر للجندي الذي أطاح بحكومة قريبة منه كان يؤمن بها، حكومة الإخوان المسلمين والرئيس المنتخب محمد مرسي. استدعى البلدان سفيريهما وظلت العلاقات بين البلدان باردة، ولم يفت أردوغان أن ينتقد بشدة مرات عديدة صديقه المصري الموثوق ...

أول دولة مسلمة تعترف بإسرائيل

أما بالنسبة لعلاقات تركيا مع دولة إسرائيل؛ فقد كانت في مستوى أدنى؛ منذ أن تولى أردوغان منصب رئيس الوزراء، عام 2003، أدّى دعمه للقضية الفلسطينية بشكل عام ولحركة حماس الإسلامية بشكل خاص إلى تصاعد التوترات بين تركيا وإسرائيل، في حين كانت تركيا، عام 1959، أول دولة يسكنها مسلمون تعترف بإسرائيل.

أدّى هجوم الكوماندوس الإسرائيلي، قبالة مياه غزة، على السفينة التركية مافي مرمرة كانت على رأس أسطول إنساني، عام 2010، (10 قتلى) إلى مزيد من التدهور في العلاقات، حيث تمّ استدعاء السفيرين إلى عواصمهما لفترة استمرت خمس سنوات. وفي غزة أيضاً، في ربيع 2018، عندما نظّم الآلاف من سكان غزة احتجاجات تحت شعار "مسيرة العودة" دفع القمعُ الإسرائيلي الرهيب (عشرات القتلى) أنقرة إلى طرد السفير الإسرائيلي، وخلال تلك السنوات حذّر أردوغان إسرائيل، مراراً وتكراراً، وقارن سلوكها أحياناً بسلوك النازيين.

إقرأ أيضاً: تركيا تحثّ الخطى في المدار الروسي

يبدو أنّ تلك الفترة قد دخلت بالفعل في التاريخ؛ لأنّه مثلما تغيّر الموقف السياسي للرئيس التركي تجاه أبو ظبي والقاهرة بشكل كبير في الأشهر الأخيرة، فإنّ الموقف الذي ينوي اتباعه فيما يتعلق بدولة إسرائيل يسير على المسار نفسه، في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر)، وللمرة الأولى منذ عام 2013، تحدّث أردوغان أوّلاً مع نظيره الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، ثم مع رئيس الوزراء، نفتالي بينيت، في تعهّدٍ تركي حسن النية جاءت هذه المحادثات بعد ساعات فقط من إطلاق سراح سائح إسرائيلي وزوجَين إسرائيليَّين متّهمين بالتجسس، كانوا محتجزين في تركيا وتمّت إعادتهم إلى بلدهم. بالتالي؛ فإنّ مسألة عودة سفيري البلدين مسألة أسابيع على الأكثر.

"السياسة الواقعية" باللغة التركية؟

يبدو الأمر برمّته كما لو أنّ تغيير المواقف السياسية والتشنجات هي التي فرضت نفسها بالفعل على الرئيس التركي؛ بسبب التدهور الشديد في الوضع الاقتصادي للبلاد. من المؤكد أنّه لا يستطيع الإقرار بأنّ جميع خيارات السياسة الخارجية الراديكالية التي ظلّ يفضّلها لما يقرب من عقدين من الزمن خيارات خاطئة، لكنّ براغماتيته الجديدة تقنعه بأنّ مصلحته تتمثل في إعادة الاتصال بالدول التي ظلّ يشوّهها ويحقّرها حتى الآن بطريقة لاذعة للغاية، وفي التخلي عن التحليقات الانفعالات المعادية للغرب والخطابات النارية حول الدفاع عن المسلمين أو المصالح القومية لتركيا.

إقرأ أيضاً: كيف تهدّد منصات التواصل الاجتماعي ديمقراطية أردوغان؟

في الوقت الحالي، أصبح تطوره نحو مزيد من الاعتدال والتهدئة يناسب الكثير من الجهات في العالم: يناسب الناتو حيث بدأ يشرق قدرُ ضئيل من الراحة، ويناسب الأوروبيين بالتأكيد، بينما كان ماريو دراغي، رئيس المجلس الإيطالي، ما يزال يطلق عليه لقب "الديكتاتور"، في 8 نيسان (أبريل) 2021، وأخيراً يناسب الدول المعنية في الشرق الأوسط؛ حيث يجبرها سحب الاستثمارات الأمريكية على إعادة النظر في تحالفاتها.

فقط المملكة العربية السعودية، بقيادة محمد بن سلمان، لم تقدم بعدُ بيادقها نحو أنقرة، على الأقل بشكل علني.

تركيا رجب طيب أردوغان نفسها ليست بمنأىً عن منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية"، التي تواصل توجيه أصابع الاتهام إليها بسبب انتهاكاتها العديدة لحقوق الإنسان. يمكننا أن نراهن على أنّ الدول التي في طريقها للتصالح مع سلطة أنقرة، ولن تجد ذريعة لمخاصمتها.

"السياسة الواقعية" عبارة ألمانية شائعة لدى الأتراك، لكن من البديهي أنّها متاحة أيضاً على وجه الخصوص، بالعربية أو العِبرية.

مصدر الترجمة عن الفرنسية                                                      

orientxxi.info/magazine

https://orientxxi.info/magazine/la-turquie-se-racommode-avec-ses-anciens-ennemis-regionaux,5234



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية