عرايا في الزحام: نبوءة داوود عبدالسيد‎

عرايا في الزحام: نبوءة داوود عبدالسيد‎


30/04/2020

حينما قرّر المخرج المصريّ الكبير داوود عبد السيّد تحويل رواية الروائيّ المصريّ الراحل إبراهيم أصلان المعنونة بـ"مالك الحزين" العام ١٩٩١ إلى فيلم مدهش يحمل عنوان "الكيت كات"، لم يكن يخطر ببال عبد السيّد أنّ هذا الفيلم سيحتلّ الصدارة في قائمة أهمّ الأفلام العربيّة التي مسّت الأوتار العميقة عند الجماهير حتى هذه اللحظة، في تجسيدٍ مبهر للممثّل محمود عبد العزيز (بدور الشيخ حسني) الذي أخرجه عبد السيّد في نوعٍ من الواقعيّة السحريّة، حوّلت الحياة إلى نوعٍ من التراجيديا المضحكة، والمبكية معاً.

في "الكيت كات" نجح داوود عبدالسيد بالمزج بين السخريّة والواقعيّة في أعلى صورها

تميّزت سينما داوود عبد السيد، تقاطعاً وافتراقاً عن رفاقه المرحليين في آن، بالانخراط في الشارع/ الواقع المصريّ، دون الوقوع في واقعيّة فجّة تُفْقِدُ العملَ أبعاده التي تنقلنا إلى أسئلةٍ وجوديّة متعلّقة بالمصير والحياة والدّولة التي نعيشُ في ظلّها.

في "الكيت كات" سيحاول عبد السيّد تجسيد واقع بأكلمه من خلال منطقة صغيرة، سيلعب أشخاصها أدواراً تنمّ عن أزمة الحياة التي تختلطُ فيها المأساة البشريّة مع الواقع الاقتصادي الشّرس الذي سببّته سياسات الانفتاح الاقتصاديّ المنتهَجة في مصر، والتي أدّت إلى إفقار الفقراء أكثر، والانتصار للأغنياء، وترك الهامش وحيداً حول "الجوزة"، والحشيش الذي سيجدُ فيه سلوته وأغنيته الحلوة لـ"البلبل" الذي غنّى له الشيخ حسني حتى الفجر.

اقرأ أيضاً: هل أخفق فيلم "حرب كرموز" في إظهار فظائع الاستعمار البريطاني؟

في "الكيت كات"، حاولَ داوود عبدالسيد المزج بين الواقعيّة في أعلى صورها والسخريّة التي تلفّ الشخصيّات وضرب من المقاومة للسّلطة بعملها الواضح والخفيّ الذي يفسد ليس الحياة المشاغِبة، بل الحياة البسيطة في تفاصيلها الصغيرة؛ فـ"الكيت كات" درسٌ في كيف يُفسد الهامش الحُرّ السلطة، وكيف تعكّر السلطة صفوه، وكيف تنخرُ سياسات الانفتاح الاقتصاديّ والغلاء "العرايا في الزحام".

تجسيد مبهر للممثّل محمود عبد العزيز (بدور الشيخ حسني)

هذا الزحام لا أحد

في حوارٍ مع داوود عبد السيّد (في كتاب داوود عبد السيد.. محاورات أحمد شوقي)، معلّقاً على شخصيّة الشيخ حسني بطل فيلم الكيت كات، بأنّ الاسمَ الذي كان مقترحاً والذي يؤمن عبد السيّد بأنّه يمثّل الفيلم هو "عرايا في الزحام"، بيد أنّ الرقابة، يقول عبد السيد، رفضت هذا الاسم، لأنّها "ربما ضدّ العرايا، أو ضدّ الزحام!". 
من المعلومات المهمّة أيضاً التي ينبغي التنويه بها هي، وللمصادفة، أنّ عبد السيّد قد حوّل رواية أصلان من التركيز على "يوسف" ابن الشيخ حسني، ليغدو البطل الذي يتمركز حوله الفيلم هو الشيخ حسني نفسه؛ باعتباره الأعمى الذي يصدق فيه قول نزار قباني "ما أنتَ أعمى.. إنّما نحن جوقة العميانِ".

تميّزت سينما داوود عبدالسيد بالانخراط في الشارع المصريّ دون الوقوع في واقعيّة فجّة

في فيلم الكيت كات، بالإضافة إلى المتعة التي تتّسم بها سينما عبد السيّد، والحوارات المليئة بالدراما، والانتصار للإنسان ضدّ السّلطة والأحجار والأزلام، فإنّ هناك ولعاً بتفاصيل المكان. في الكيت كات، يدخلنا داوود عبد السيّد إلى "الحارة" أو "المكان" المصريّ بكامل زخمه، من تفاصيل بسيطة، من ضيقٍ في الأزّقة، ومن تشابه في الاختيارات رغم الاختلاف الذي يميّز شخصيّةً عن أخرى، ومن هذا الزحام الذي تكتظ به الحياة، رغم أنّ السلطةَ والرقابة لا تقصر مخالبها عن هذا الزحام أيضاً، بل هي ترسمه، وتحدّده، وتخترقه على الدوام.

أخرجَ عبد السيد الشيخ حسني كأعمى استثنائيّ، فهو يقدّم لنا أعمى غير الذي نعهدُ، بل هو أعمى بصير بالحياة، ما أفقده البصر ليس مرضاً عضوياً، بل بالأحرى وجع الحياة، و"النّور" الذي ذهبَ عندما روى للسّامرين حوله، في جلسة حشيش، كيف ذهب بصره، وعندما ينهي حكايته، يسأله "عميت؟"، فيرد الشيخ حسني: "اسمها راح النور.. مش عميت يا حمار". وللتأكيد على بصيرة -بل وبصر- الشيخ حسني، قدّم لنا عبد السيد الشيخ عبيد كأعمى نموذجيّ، فقدَ عينه عضويّاً في الوظيفة -ما سيضحكُ عليه الشيخ حسني لاحقاً بقوله "إصابة عمل يعني" في نوعٍ من السخريّة والمأساة ممّا تفعله الوظيفة بالإنسان-. فهناك تشديدٌ من عبد السيد على أنّ الشيخ حسني ليس أعمى، بل هو من يراقب هذا الزحام، ويعرف تفاصيله، ويختزنُه بكلّ دقاته في عقله وروحه.

اقرأ أيضاً: لماذا يُتهم فيلم "الآباء والأبناء" بالانحياز إلى النظام السوري؟

يبدو الفيلم، للوهلة الأولى، دائراً حول مأساة جليّة: يوسف ابن الشيخ حسني، الشاب المتخرّج الذي يعشق الفنّ والعود كأبيه ولا يجد عملاً، ويريد السفر إلى الخارج باعتبار الخارج أرض العمل، والقبض بالدّولار. والخارج بالتحديد يتمثّل في أوروبا، فعندما يعرض عليه صاحبه منشور الصحيفة التي تعلن عن حاجة في الكويت لعمّال مصريين، يصرّح له بأنّه يريد الذهاب إلى أوروبا تحديداً. هذا من ناحية، ومن ناحية مأساويّة أخرى، هناك البيت الذي باعه الشيخ حسني مقابل حفنة من المال والحشيش، هذا البيت الذي بناه أبوه برفقة "عمّ مجاهد" -الشخصيّة شبه الصامتة، لكن الحاضرة جداً، في الفيلم.

 النّاس أم البيت؟: الانتصار على الماضي

يمثّل نموذج عم مجاهد -الذي يعتبره الشيخ حسني بمثابة والده- ذلك الضمير المشبَع بالماضي فينا، الذي يتمسّك بالماضي رغم نوائب الحاضر الجديد؛ إنّه يؤنّب الشيخ حسني على بيعه البيت الذي بناه هو وأبوه. وفي لحظة "اعتراف" بالمعنى الخلاصيّ والدينيّ، يواجهه الشيخ حسني بالحاضر، وبالغلاء الذي صار يحفّ كلّ حياته، وبالمصاريف التي يتكبّدها جرّاء تخرّج ابنه وكبره، وأمّه التي تحتاج إلى الأدوية، ويكمل الشيخ حسني، ببلاغةٍ مولّهة نادرة، بأنّ الحكاية "مش حكاية البيت يا عم مجاهد، الحكاية حكاية الناس اللي عايشة ولازم تعيش".

اقرأ أيضاً: فيلم "واجب": الفلسطيني خارج إطار الأسطورة

في محاورة الشيخ حسني وعم مجاهد، حاول داوود عبد السيد -بطريقةٍ رمزيّة- تبيان أنّ الأمر لا يتعلّق ببيت، بل بنمط من التفكير، بتوضيح بؤس التمسّك بالأرض على حساب الناس، وبؤس الحاضر أيضاً الذي يعاني من انفتاح اقتصاديّ، سعى عبد السيّد إلى توضيحه بصورة معقّدة في "الكيت كات" وأفلامه الأخرى. لكنّنا نلمحُ في تجسيده لمحاورة الشيخ حسني وعم مجاهد فكرة الانتصار للإنسان على الأرض، وكأنّه درسٌ ضدّ الحنين، والارتكاس، والماضويّة التي تفرغ الحاضر من أيّ معنى.

"الكيت كات" درسٌ في كيف يُفسد الهامش الحُرّ السلطة وكيف تعكّر السلطة صفوه

وعليه، لا يبدو الحشيش الذي يعشقه الشيخ حسني كإدانةٍ أو كتعاطٍ وجريمة، كما حاول عم مجاهد وابنه يوسف حتّى وسم الشيخ حسني به، بل سيبدو الحشيش كنجاة أخيرة من الوحدة للشيخ حسني. ففي لحظة الاعتراف تلك، سيبكي قائلاً: "الحشيش ده هو الذنب الوحيد اللي في حياتي. بعد ما ماتت أم يوسف، ماكانش عندي حتى بني آدم أكلمه. أنا بكلم الناس حوالين الجوزه، بفضفض...بضحك وأغني في قعدة حلوة لغاية لما أموت".

يوضّح داوود عبد السيد في جلسات الشيخ حسني مع رفاقه حول الجوزة كيف يصنع الهامش مجدَه الاستثنائيّ في حواري الليل، بالغناء والشرّب والضّحك الذي لا ينتهي. ورغم هذا الهامش الذي يُسليهم ويُبعدهم عن كآبة العالم الخارجيّ، إلّا أنّ أصابع السلطة تطاله أيضاً حينما تدلهم عليهم حملة بوليس ليليّة، وكأنّ داوود عبد السيّد يريد القول إنّ السلطةَ في كلّ مكان، وهي منتشرة، حتى في الزّحام الذي يكتظّ، وفي الهوامش التي أفلتت من رتابة النظام والاعتياد والروتينيّ.

التطهير والنبوءة: الشيخ حسني كمستقبل لأنفسنا

كانت جاذبيّة عمل "الكيت كات" في العمى الاستثنائيّ للشيخ حسني، هذا العمى المصحوب بخفّة ظلّ، وببصيرة حادّة لا يمكن أن تكون إلّا لحكيم. أراد داوود عبد السيّد بيان كيف أنّ رغم كلّ هذا الزحام، إلّا أنّ الجميعَ يعرف ما يقوم به الآخر، من ممارسة للجنس، من بيع وشراء، من خيانة، إلخ؛ فالجميع يعرف الجريمة، ويتواطؤ عليها، دون إفصاحٍ بذلك: هذا النوع من التواطؤ الواقعيّ على تكملة الحياة، والاعتياد على "الستر" في هذا الزحام الذي سعى عبد السيّد إلى توضيحه بصورة فاضحة ومنتهِكة لهذا الغلاف الصّامت، والهشّ، والتواطئيّ على استمراره، كطبيعة حياتيّة.

اقرأ أيضاً: فيلم "ليلة طولها اثنتا عشرة سنة".. تحفة فنية عن أدب السجون

يُبيّن الفيلم أنّ هذا التواطؤ الجماعيّ، ومعرفة الجميع عن الجميع كلّ شيء دون التصريح، هو جوهر الحياة في اعتياديّتها. وبالتالي، عندما سُيمسك الشيخ حسني بالميكروفون في عزاء عم مجاهد للحديث عن كلّ ما يعرفه من فضائح يوميّة في الحارة سيكون ذلك بمثابة "التطهير" الذي سيغسلُ هذا التواطؤ الضمنيّ والجماعيّ.. الجميع سينكشفُ، رغم الزحام الذي كان يظنّ أنّه بمثابة الستار الذي يحمي اليوميّ في استمراريّته.

يمثّل نموذج عم مجاهد الذي يعتبره الشيخ حسني بمثابة والده ذلك الضمير المشبَع بالماضي فينا

لم يكن الذي قاله، أو انتهكَه بالأحرى، الشيخ حسني جديداً، أو لا يعرفه أحد، بل كان مزعجاً بالتحديد لأنّ الجميع يعرفه أصلاً، لكنّ هناك عقْداً من الصمت بين الجميع على هذا كلّه، وكأنّ الأمور تجري في السرّ. سيكون الشيخ حسني بهذا المشهد العبقريّ والاستثنائيّ كالمسرحيّ على خشبة المسرح الذي يغسلُ الحارة من خطاياها بالاعتراف بالذنوب، وبالفضائح، والخيانة التي تقريباً شملت الجميع.

الشيخ حسني هو الهاتك الأكبر الذي يكشف أنّ "هذا الزحام لا أحد" -بعبارة شعريّة لأحمد عبد المعطي حجازي-. فرغم الزحام الذي يلفّنا، وازدياد أعداد السّكان، إلّا أن حياتنا مكشوفة ومفضوحة، وهذا نعرفه تماماً، ولكنّنا دائماً نتجاهل أنّنا نعرفه، أو نتواطأ على السكوت عنه وعدم الإفصاح عنه.

اقرأ أيضاً: فيلم "كتاب أخضر": صورتنا في مرآة العنصرية

درس داوود عبد السيّد أنّ القاهرة، كزحامٍ أبديّ من ركام بشريّ لا ينتهي، هي منتهَكة من قبل الجميع تجاه الجميع من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّ السلطة في كلّ مكان، منتشرة، داخل الأبواب والحارة، ولا يمكن الإفلات منها ولو كنت على الهامش. بل هي تحديداً ضدّ هذا الهامش، ضدّ العرايا، والزحام، والمنضوين في زاويا بعيدة عن العاديّ.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية