كيف حفّز حزب النور سلفيي الدول العربية على العمل الحزبي؟

حزب النور

كيف حفّز حزب النور سلفيي الدول العربية على العمل الحزبي؟


16/05/2019

منذ إشهاره، في 24 أيار (مايو) 2011، وإلى اليوم، وحزب النور السلفي يمثل نموذجاً سياسياً لافتاً، في ظلّ ما أحدثه من زخم سياسي ومجتمعي؛ ففي الداخل المصري استطاع الحزب أن يكون ثاني أكبر القوى الحزبية في مصر، بعد فوزه بنحو 122 مقعداً من مقاعد مجلس الشعب، 2011-2012، في أول انتخابات تشريعية يخوضها، قبل أن يتراجع تواجده لأسباب متعددة في انتخابات 2015، إلى 11 مقعداً، ليصبح بلا تأثير في الواقع السياسي المصري، ومن حيث تأثيره الخارجي؛ دفعت تجربة "النور" سلفيي عددٍ من الدول العربية إلى تبنّي العمل الحزبي، سواء بتأسيس أحزاب، كما في اليمن وتونس، أو محاولات تأسيس لم تكتمل، كما في المغرب.

اقرأ أيضاً: حزب التحرير: الخلافة الإسلامية والأسطورة المهدوية
ليظل التساؤل مطروحاً للتفكر حول واقع هذه التجربة الحزبية ومساراتها المستقبلية في ضوء إشكاليات التأسيس والممارسة، وهو ما سوف نحاول الاقتراب منه.

حزب النور السلفي يمثل نموذجاً سياسياً لافتاً، في ظلّ ما أحدثه من زخم سياسي ومجتمعي

أولاً: سياقات التأسيس

لم ينشأ حزب النور، العام 2011، من فراغ؛ بل هو نتاج عقود من النشاط السلفي (التقليدي والسياسي) حيث ثمة تمايز بين صورتين من السلفية، فالسلفية التقليدية جماعة أنصار السنّة المحمدية؛ تأسست 1926، وهي التي اهتمت بالعمل الدعوي والاجتماعي، دون أيّة ممارسة سياسية، في حين نعني بالسلفية السياسية؛ "التيار السلفي" الذي نشأ في السبعينيات، في إطار الحركة الطلابية الإسلامية، والتي عرفت "الجماعة الإسلامية" قبل أن تنقسم في أواخر السبعينيات، وتتمايز مجموعاتها بتوجهات مختلفة.

دفعت تجربة حزب النور سلفيي عددٍ من الدول العربية إلى تبنّي العمل الحزبي أو محاولة ذلك

والنشاط السلفي للحزب تمّ على المستويات الاجتماعية والدعوية، سواء كان نشاطاً منظماً عبر جمعيات خيرية، أو غير منظم عبر المساحات الدعوية شبه الفارغة، ومع حالة السيولة السياسية في مصر، في أعقاب 25 كانون الثاني (يناير) 2011؛ كان من الطبيعي أن تشتبك كتلة مجتمعية ظلت لعقود على الهامش السياسي، بدرجات متفاوتة، مع الحياة السياسية؛ حيث دفعتها اللّحظة التاريخية، لتترجم هذا التواجد المجتمعي في مشروعات حزبية سلفيّة الهوّية، مختلفة الأوزان، مثل: النور، والفضيلة، والأصالة.
كان "النور" أثقل هذه الأحزاب وزناً، بسبب وجود تنظيم خلفه؛ هو "الدعوة السلفية بالإسكندرية"؛ لذا تمكّن الحزب من الإفادة من أصوات الأعضاء التنظيميين بجماعة الدعوة السلفية، فضلاً عن الكتل السلفية غير المؤطرة في أيّة جماعة، والتي مثّل أغلبها داعماً تقليدياً للحزب الوطني أو الإخوان المسلمين؛ وهي الأصوات التي صوّتت لاحقاً لصالح "النور"، العام 2011، رفضاً للإخوان المسلمين، وضدّ عودة الحزب الوطني، وتعاطفاً مع "الدعوة" باعتبارها جماعة "سلفية"، تبشّر بنموذج سياسي إسلامي مختلف، لتعود هذه الكتل وترفض التصويت لاحقاً للحزب، عام 2015، نتيجة ما رأوه من سوء أداء ومواقف سياسية تخالف الفكرة السلفية خاصة، والإسلامية عامة.

اقرأ أيضاً: تأييد حزب النور السلفي للسيسي .. خوفاً أم طمعاً؟
كان قرار السلفيين بالمشاركة الحزبية، إذاً، محاولة عاجلة للاستفادة من انفتاح المجال السياسي، وفرض الوجود في ظلّ مُعطيات قد لا تتوافر مرة أخرى؛ لذا لم تأخذ عملية التأسيس وقتاً في الإعداد الفني للكوادر أو مأسسة الأفكار، رغم أنّ الجماعة المرجعية للحزب اشتهرت بمواقفها الفقهية الرافضة للعمل السياسي، ولم تُؤصل فقهياً موقفها الجديد والمنُاقض لما سبق ورفضته.

كان قرار السلفيين بالمشاركة الحزبية محاولة عاجلة للاستفادة من انفتاح المجال السياسي

ثانياً: أزمات الأيديولوجيا

تعكس مسارات التّكييف الشّرعي للمواقف السّياسية لحزب النّور ومن ورائه الدّعوة السلفية في مضمونها أزمة أيديولوجية مُرتبطة بالنظرة إلى الذّات السّلفية؛ ومن ثمّ دورها الشرعي والحركي والسياسي عبر ثلاث دوائر متداخلة، هي:

1- الهوية

فمع غياب المشروع السياسي للدعوة السلفية، تمّ تضخيم خطابها الهوياتي، كمشروع بديل قائم على إثارة المخاوف المجتمعية، من ضياع الهوية الإسلامية لمصر، والدعوة إلى تبنّي فكرة "تطبيق الشريعة"، وإظهارها كمطلب مجتمعي، وليس خاصاً بالإسلاميين فقط، وهو في مضمونه خطاب وعظي مُبسط أكثر منه خطاباً سياسياً مُركباً.

اقرأ أيضاً: التجربة الحزبية عند الإخوان المسلمين: التنظير والعمل السياسي

وتعود الجذور التاريخية لهذا الخطاب إلى لحظات التأسيس، الأولى لسلفية الإسكندرية، التي نشأت كمدرسة متميزة داخل تيار "الجماعة الإسلامية" للمحافظة على المنهج السلفي؛ ومن ثمّ الهوية الإسلامية التي منحتها بمرور الوقت نوعاً من التمايز بين الإٍسلاميين؛ ونظراً لمركزية هذه الفكرة في وعيهم، أصبحت كلّ القضايا التي يشتبكون معها، بالتالي؛ مُدرجة تحت راية "الحفاظ على الهوية"؛ فزيّ المرأة، وعملها، والاختلاط، على سبيل المثال، نتاج لحملات تغريبية مخالفة للهوية، والانفتاح يهدّد الهوية، ...إلخ.
نجحت الدعوة السلفية نسبياً في خلق حراك شبه جماهيري حول قضية الهوية، العام 2011، وهو ما مثّل نقطة تمايز لها؛ حيث كانت الصوت الوحيد الذي حمل هذا المشروع، رغم انتقاد "سلفية القاهرة" لهذا المطلب على اعتبار أنه لا أحد يتبنى فعلياً مشروعاً يخالف هوية مصر الإسلامية، وتحول هذا الهوس بالهوية إلى سمت مُميز لأداء حزب في اشتباكه مع غالب القضايا السياسية المثارة.

 

 

2-  قاعدة المصالح والمفاسد

بناءً على القاعدة الفقهية "درء المفاسد أولى من جلب المصالح"؛ يتحرك حزب النور سياسياً، وذلك وفق مخارج شرعية تُقدمها مرجعية الحزب الدعوية أمام انتقادات مُخالفيها واستفسارات أبنائها؛ حيث تُتيح له الخروج من أزماته، بالتالي، نوعاً من الحصانة لمواقفه؛ فطالما وُجد الدليل فالمسألة المثارة منتهية، إذاً، عند العقل السلفي؛ فالتربية الشّرعية التي يتلقّاها السّلفي تجعله يَهتم بالدّليل، وبأن يكون كلامه مُوثقاً بالكتاب والسنّة.

الجماعة المرجعية لحزب النور لم تُؤصل فقهياً موقفها الجديد المناقض لمواقفها التاريخية الرافضة للعمل السياسي

وفي حين اعتمدت أدبيات التنظيم النظرية، وأبرزها ما كتبه ياسر برهامي، في "فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، و"الموازنات بين المصالح والمفاسد في السياسة الشرعية" على وضع ضوابط يجب توافرها فيمن يقوم بهذه الموازنة، إلا أننا نجد المُمارسات الفعلية في النهاية محض اختيار شخصي للشيوخ عن طريق آلية "القياس"، وذلك طبقاً لإدراكهم وتجاربهم وقراءاتهم وما يتوافر لديهم من معلومات. 
وليس هذا النمط من الالتفاف والتبرير للمواقف بإطار شرعي سوى تعبير عن أزمة تشترك بها عموم الجماعات الإسلامية، ومنها الدعوة السلفية، وتتعلق بجدلية "الفكر يسبق الحركة أم العكس"؟ وهي الجدلية لم تحسمها مُمارسات غالب هذه الجماعات؛ لذا ظلّ مسار الدعوة السلفية ومن ورائها حزب النور مُعتمداً على التّكييف الشرعي للمواقف المُتناقضة سياسياً، بهدف التوافق مع القيود القانونية، رغم تصادم هذه القيود مع ثوابتهم الفكرية التقليدية، سواء الموقف من الدور السياسي للمرأة، وما يتعلق بمشاركتها الانتخابية، وكذلك مشاركات الأقباط على قوائم الحزب، ودعم المادة (219) في دستور 2012، ثم التّخلي عنها في دستور 2014، ...إلخ.

لا ترتبط السلفية، كمنهج وفكر، بكيان بذاته، أو بجماعة بعينها

3- من السلفي؟

رغم بساطة التصور المقدم لمفهوم السلفية باعتبارها "منهجاً يسعى لفهم الكتاب والسنّة بفهم سلف الأمة"، وبالتالي، كلّ من يتبنى ذلك الفهم يكون سلفياً؛ وبالتالي؛ لا ترتبط السلفية، كمنهج وفكر، بكيان بذاته، أو بجماعة بعينها، إلا أنّ واقع الحالة السّلفية يشير إلى عكس ذلك؛ حيث التبديع من طرف كلّ مجموعة سلفية تجاه الأخرى، وإخراجها من نطاق السلفية الصحيحة.

اقرأ أيضاً: سلفي يروي صدمته بحزب النور: جعلوا الدعوة أشبه بولاية الفقيه
ولم يقتصر الأمر على الاختلافات الفكرية؛ بل تعداه إلى صراعات وتنافسات تنظيمية، وحقوق متعددة، مترتبة على هذا التنافس، رمزياً عبر مساحات النشاط الدعوي، واجتماعياً عبر شبكات المُجتمع السّلفي المتشكل، وما يترتب عليه من شبكات مصالح متعددة المستويات. بمعنى آخر؛ هناك "المجال السلفي العام"، وهو مجال غير محدد المعالم، أو مُؤطّر تحت أيّة راية، تتحرك من خلاله كافة الكيانات الإسلامية عامة والسلفية خاصة؛ حيث تستخدمه كقاعدة داعمة وتسويقية لها، وهناك "الكتلة السلفية"، التي تتحرك بشكل منظم في شكل (حزب- جمعية)، أو بشكل غير منظم (كمشيخيات لها جمهورها)، وتتخذ المنهج السلفي مرجعيةً لها وقاعدة فكرية.

في المجمل؛ استطاعت الدعوة السلفية بالإسكندرية، بخطابها وشبكات أنصارها، جذب قطاعات كبيرة من المجال السلفي العام إلى دعمها، وهو ما مكّنها من بناء وحداتها الحزبية؛ حيث كانت مُنفتحه إلى حدٍّ ما على التيار السلفي، في ظلّ الضعف العددي للكوادر التنظيمية واتساع المساحات المطلوب شغرها مع ضيق الوقت.
ومع واقع الممارسة السياسية والمواقف المتناقضة والصراعات بين بعض قيادات الحزب وشيوخ الدعوة، بدأ التّفرق والتّمايز بين "ابن المنهج" و"ابن التنظيم"، وهو ما يعكسه انسحاب قطاعات معتبرة من السلفيين من الحزب، بالتوازي مع عمليات إحلال القيادات والكوادر السلفية بأخرى تنظيمية؛ لضمان الولاء وتماسك الحزب.
يقول ياسر برهامي: "انفض عنها بعض المؤيدين الذين أيدوها بشكل عام، دون تبنٍّ واضح لمنهجها" بحسب جريدة الفتح..

 

 

ثالثاً: واقع الممارسة السياسية

يرى قطاع عريض من التيار الإسلامي حالياً؛ أنّ الممارسات السياسية لحزب النور غير مُنضبطة؛ بسبب مختلف مواقفه منذ تأسيسه وحتى اليوم، وهو ما يعكس إشكالات متعددة تتعلق بطبيعة علاقة السلفيين بالسياسية، فضلاً عما يستهدفونه جراء الانخراط في الصراعات الحزبية على النحو الآتي:

1- ما السياسي؟ وما الدعوي؟

رغم حرص شيوخ الدعوة وقيادات الحزب على التأكيد على انفصال الحزب عن جماعته المُنشِئة؛ فكلّ منهم له كوادره وإستراتيجياته ومساراته، التي تنبع من طبيعة نشاطه؛ فالعمل السياسي للحزب والدعوي للجماعة، إلا أنّ واقع الحال يشير إلى أنّ الانفصال صوري وغير دقيق؛ فالكثير من مسؤولي الدعوة في المناطق المختلفة هم مسؤولو العمل الحزبي، وبعد أزمة القيادة، عام 2012، واستقالة عماد عبد الغفور، المؤسس والرئيس الأول للحزب، وتوالي الانسحابات عقب ذلك؛ ترسّخت قبضة الدعوة على العمل الحزبي.

اقرأ أيضاً: أهو دا اللي صار.. أو هكذا اختطف السلفيون مصر
ويعدّ هذا نتاجاً لعدم التمايز بين الدعوة والسياسة في وعي قيادات الدعوة والحزب؛ فالحزب يحرص في اشتباكه السياسي على تأكيده على "تديين السياسة"، وبتعبير عبد المنعم الشحات، القيادي التنظيمي البارز: "نرى إخضاع السياسة للدين، لا العكس"، كما ذكر عبد المنعم الشحات، في مقال "نصائح بعد الانتخابات" ، ويتعجب برهامي قائلاً: "كيف يُظَنُ أنّ السياسة تخرج عن دين الله؟!، لا بدّ من أن يتم التعامل في السياسة بالدين، نريد سياسة شرعية" كما ذكر موقع "إسلام أونلاين"، ويضيف: "أبناء الدعوة هم من أسس الحزب، وهل يخرج الابن عن طاعة أبيه؟ هؤلاء أبناء الدعوة، وأبناء الحزب هم من يقررون، هناك آليات للحزب، والدعوة لن تتخذ القرارات عوضاً عن الحزب، نُبين حكم الشرع، ونُبين لكل واحد وليس للحزب فقط".

الحزب يحرص في اشتباكه السياسي على تأكيده على "تديين السياسة"

2- أزمة الوجود

لم يسبق إنشاء الحزب عملياً جدل حقيقي حول المستهدف تنفيذه؛ كان هاجس الوجود في المشهد المُتشكل هو المُسيطر؛ رغبةً في تحسين الأوضاع أمام دُعاته وجماعته، في ظلّ سابق التضييق على الدعوة اجتماعياً ودعوياً، في مراحل مختلفة من حياتها؛ لذلك ظلّ الهدف المركزي هو ضرورة الاستمرار بأي ثمن، دون السماح لأيّ مبرّر يدفع للعودة لسابق أوضاعهم قبيل 2011؛ حين كانوا يتحركون وفق السياسية الأمنية المحلية في كلّ منطقة. 

اقرأ أيضاً: الحركات السلفية في نيجيريا.. هل تختلف عن بوكو حرام؟

والآن؛ يسعى الحزب كي يكون هو الطرف الديني في المُعادلة السّياسية المصرية، كمنافس وبديل في آن للإخوان المسلمين، بعد خروجها من المشهد السياسي، ولا يبدو أنّ هذا المطلب سيتحقق دون تعميق تمايزه عن الإخوان، وحرصه المستمر على إظهار دعمه الدولة؛ بل والإيمان التام بأنّ أيّ تهديد للنظام السياسي الحالي هو تهديد وجودي لهم بالتبعية.

جميع المكونات الاسلامية لا بدّ من إخضاعها لسلطة الدولة سواء كانت مؤيدة أو معارضة

عن المستقبل

بعد المسارات السياسية لحزب النور، التي سبق الإشارة إليها، يظل مُستقبل الحزب مرتبطاً بدرجة كبيرة بموقف الدولة منه سياسياً وقانونياً؛ لذا يحرص الحزب ومرجعيته الدّعوية على استمرار شراكتهم السياسية مع النظام القائم، وذلك رغم ما يتعرضون له من تضييقات إجرائية في العمل الدعوي، فيما يتعلق بالخطابة والحلقات العلمية، فضلاً عن الهجوم الإعلامي المتكرر على مُمارسات السلفيين وأطروحاتهم الدينية، التي تثير جدلاً من حين لآخر، وذلك في إطار محاولات تتعلق بتحجيم مساحات اشتباكهم مع المجال الدّيني العام، في ظلّ رغبة الدولة في تنظيم المجال الدّعوي بإخضاع مُنتجي الخطاب الديني غير الرسميين للجهات الرّسمية المعنية: الأزهر والأوقاف؛ وإذا كان الأزهر هيئة علمية مرجعية في أمور الدين، لا تملك عملياً تطبيق سياسات الدولة؛ فإنّ وزارة الأوقاف هي الأداة التنفيذية المُسيّرة والمُتابِعة والمُقيّمة لممارسات هؤلاء.
وفي هذا السياق؛ لم يكن هناك موقف واضح للدولة تجاه وجود الحزب في ظل المطالبات المُستمرة بحلّه على مدار الأعوام الماضية، على اعتبار أنّه حزب ديني؛ حيث ترك الأمر للقضاء، رغم سابق تأكيد المحكمة الإدارية العليا، أكثر من مرة، بعدم جواز نظر الطعون المطالبة بحلّ الحزب، وفق موقع اليوم السابع.

بقاء الحزب من عدمه مرهون عملياً برؤية أركان النظام لموقع ومساحة الإسلاميين في المشهد السياسي

ومهما يكن من أمر؛ فإنّ بقاء الحزب من عدمه مرهون عملياً برؤية أركان النظام لموقع ومساحة الإسلاميين في المشهد السياسي، وهو ما يعيدنا لسابق مُمارسات الأنظمة المصرية المتعاقبة، التي حكمها  إجمالاً مساران مختلفان: أولهما ترك مساحات متنوعة من وقت لآخر للجماعات الدعوية، لهدفين:  الأول إحداث توازن في المشهد الإسلامي، في مواجهة تمدّد التكفيريين، وكي تسير الإستراتيجية الأمنية في طريق المواجهة المباشرة مع جماعات العنف، في وقت تعمل فيه الجماعات الدعوية على المواجهة الناعمة بتفكيك البنية الفكرية والشرعية لهذه الجماعات في أوساط الإسلاميين.
ويفرز هذا بالتبعية قيام بعض القيادات بـ "تزكية الأفراد" وبيان سلامتهم الفكرية، أو "فسادهم الفكري"، وتقييم مدى خطرهم أمام الأجهزة الأمنية، ويؤكّد القياديون الذين التقيناهم؛ أنّهم لعبوا هذا الدور في بعض الفترات السابقة لحماية العمل الإسلامي والشباب من الزجّ بهم في تجربة اعتقال، نتيجة سوء تقدير من رجال الأمن أو بلاغات كيدية، وهم لا يستحقون ذلك، فتكون هذه التجربة سبباً في الدفع بهم نحو ممارسة العنف ضدّ الدولة، فيما يرى شباب الإسلاميين مثل هذه الممارسات "عمالة للأمن"، ليست لها علاقة بأخلاق من يتصدر للدعوة.
والهدف الآخر يتعلق بعدم صدام الأنظمة مع المجتمع، في ظلّ أنماط التدين المتعددة والمتغلغلة في طبقات متنوعة؛ أي إنّ الأمر يحمل درجات من المهادنة مع المجتمع لضمان شرعية للأنظمة، والتأكيد على عدم معاداتها للإسلام، مثلما يجادل الخطاب المناهض لها من قبل جماعات العنف الديني على اختلاف مسمياتها.

اقرأ أيضاً: خوفاً من "السلفية".. دعواتٌ لمراقبة الدروس بمسجد شهير في برلين
أما المسار الثاني؛ فيرفض سياسة التوازن نهائياً؛ على اعتبار أنّ الجماعات الدينية جميعها قابلة للتحول من السلمية للعنف، وأن خضوع الدولة لتيار ما في بعض الفترات يدفعها للرضوخ لابتزاز مُستقبلي منه، سواء في المجال العام، كبعض الممارسات التي تُفهم على أنّها استعراض قوة وإرهاب للدولة، كاللقاءات الجماهيرية المختلفة، أو دفعها نحو التغاضي عن مُمارسات شخصية غير قانونية لبعض القيادات وأتباعهم، مقابل استمرار التعاون مع الدولة.

كان المسار الأول هو الغالب عبر عقود طويلة مضت، لكن المسار الثاني أصبح حاضراً إلى جانبه، وإن لم تكن له مساحة للتمدّد؛ نظراً إلى اعتبارات محلية وإقليمية ودولية متباينة، فضلاً عن طبيعة توزيع السلطات ومراكز الثقل بها من نظام لآخر، إلا أنّه في ضوء ممارسات النظام الحالي يغلب المسار الثاني على الأول؛ فجميع المكونات الاسلامية لا بدّ من إخضاعها لسلطة الدولة سواء كانت مؤيدة أو معارضة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية