"الدولة والدين" لعبد الإله بلقزيز: وهم الدولة الدينية وحصاد الإسلام الحزبي

"الدولة والدين" لعبد الإله بلقزيز: وهم الدولة الدينية وحصاد الإسلام الحزبي

"الدولة والدين" لعبد الإله بلقزيز: وهم الدولة الدينية وحصاد الإسلام الحزبي


17/02/2024

كيف أمكن لفريق أن يختطف الإسلام ويقدم روايته عنه بوصفها الرواية الوحيدة الموثوقة، والمطابقة لحقيقة الدين؟ وكيف له أن يحوّله من عقيدة للأمة جمعاء تشتق من مبادئها أخلاقها ومنظومة قيمها، إلى أيديولوجيا سياسية في يده، يستخدمها في صراعه مع خصومه على السلطة ليحوله تالياً إلى موضوع نزاع، والى سبب للانقسام والفرقة والحرب الأهلية؟

يبدأ بلقزيز في استقصاء العلاقة بين الدولة والدين في الاجتماع السياسي عموماً وعلاقة الدولة والإسلام بشكل خاص

كيف أمكن هذا التزوير الصارخ لصورة الإسلام ورسالته السامية أن يحصل وأن تذهب مجتمعاتنا نحو هذه المآلات الدراماتيكية خلف المأخوذين بفكرة المشروع السياسي الإسلامي؟
ما حاجة الدولة إلى الدين وما حاجة الدين إلى الدولة؟ وما هي حدود التداخل بين الحقل السياسي/ الاجتماعي والحقل الديني في بعديه؛ العقدي والإيماني؟
ينطلق الباحث والمفكر المغربي د.عبد الإله بلقزيز في كتابه "الدولة والدين في الاجتماع العربي الإسلامي" الصادر عن منتدى المعارف، بيروت، 2015، من مقاربة هذه الأسئلة الإشكالية مقاربة فكرية أكثر عمقاً على ضوء ما استجد من تطور في مناهج العلوم الحديثة من جهة، وما تكشف للناظر بفعل التطورات الأخيرة لأحداث "الربيع العربي" ومآلاته الدراماتيكية من جهة أخرى؛ فكان بحثه هذا تتويجاً لمسيرة فكرية طويلة للباحث تمتد منذ تسعينيات القرن الماضي، ويكاد يكون موضوع العلاقة بين الدين والدولة خلالها موضوعه الأثير، بل هاجسه الأثير الذي قدم من خلالها جملة من المباحث تحمل أسماء متشابهة ومتقاربة إلى حد كبير.
غلاف الكتاب

معاينة البعد التاريخي
وبمنهج أقرب ما يكون إلى تاريخانية المفكر المغربي عبدالله العروي، يبدأ بلقزيز في استقصاء العلاقة بين الدولة والدين في الاجتماع السياسي عموماً، وعلاقة الدولة والإسلام بشكل خاص، بتأسيس نظري يقوم على معاينة البعد التاريخي لطبيعة تلك العلاقة ليحصرها في ثلاثة أشكال أو أنماط وتكوينات لا تتفاصل مع بعضها تفاصلاً قطعياً، إنما قد تتقاطع وتحمل أي منها سمات من نمط آخر في كثير من الحالات وهذه الأنماط الثلاثة هي: "نمط الدولة المتماهية مع الدين؛ أي ما يعرف بالدولة الثيوقراطية (الدينية)، ونمط الدولة القائمة شرعيتها على الدين وأحياناً بالتجاور مع شرعيات أخرى؛ أي الدولة السلطانية (دولة الخلافة وما تساقط منها من دويلات في تاريخ الإسلام)، والدولة الإمبراطورية من النمط الآسيوي القديم، ويُطلق عليها اسم (الدولة المتأدينة)، والنمط الثالث هو نمط الدولة المحايدة تجاه الدين أو (الدولة العلمانية) الحديثة القائمة على شرعيات مدنية بشرية لا مكان فيها لأي نوع من أنواع استغلال الدين في السياسة".

اقرأ أيضاً: العلمانية كحلّ؟.. الإسلاموية وعلاقة الدولة بالدين
ثم يلفت الباحث بلقزيز إلى أنّ هذه النماذج غير انتقالية في الزمان؛ وغير موضعية في المكان؛ بل امتدت لقرون عدة وشملت مجتمعات متعددة، ويخلص بعد تمحيص تلك النماذج إلى أنه لم تنشأ في تاريخ الإسلام  دولة من طراز دولة "الحق الإلهي" في الحكم على غرار أوربا المسيحية، إنما "تسرب نموذج تلك الدولة إلى بعض الوعي الإسلامي المعاصر عن طريق قراءة مغالية أعادت التداخل بين الدولة بالدين"، من طريق الإسلام غير العربي على غرار فكرة الحاكمية في فكر سيد قطب في الإسلام السني، والتي استمدها من فكر المودودي، وفكرة ولاية الفقيه في فكر النراقي ثم منتظري والخميني من بعده في الإسلام الشيعي.

الدولة السلطانية: دولة الخلافة وما تساقط منها من دويلات في تاريخ الإسلام

أزمة العلمانية العربية

وما تزال مجتمعاتنا تعاني وطأة نتائج هذا الوعي الدرامية حتى اليوم، في حين سقطت النزعة العلمانية هي الأخرى في فلك النماذج الغربية الأكثر تشدداً تجاه الدين وتشديداً على النزعة اللائكية (فصل الدين عن الدولة) ببعدها الفلسفي الوضعي وفق منظورات الثورة الفرنسية على النمط الفرنسي وامتداده التركي المتطرف في حقبة أتاتورك، أو وفق منظورات النزعة المادية في النمط الاشتراكي السوفيتي الإقصائي في المرحلة الشيوعية.

سقطت النزعة العلمانية هي الأخرى في فلك النماذج الغربية الأكثر تشدداً تجاه الدين

في حين بقيت النماذج الأكثر اعتدالاً، كالنموذج الإنكليزي مثلاً، أقل تأثيراً وأقل اهتماماً من قبل المشتغلين في الحقل الفكري والسياسي، مما وسّع الهوة بين الفرقاء السياسيين، وغيّب إمكانية الحلول المتدرجة الهادئة التي بالإمكان أن تفضي إلى تجاوز تلك السلبيات، وتقديم التأثير الايجابي للقيم الدينية في إطار ديمقراطي تتميز به المجتمعات المدنية في حل أزماتها، بل ذهب الأمر باتجاه عكسي إذ زاد الطلب على الدين، "كشرعية يتوسلها كل فريق لاستكمال الشرعية السياسية المنقوصة".
ولم يقتصر توسل الشرعية من الدين على دولة الأمراء والسلاطين في تاريخ الإسلام الماضي فحسب، بل امتد الأمر ذاته إلى الدولة الزمنية "الحديثة" ذات الولادة العسيرة والشوهاء في الوطن العربي وتركيبها الهجين من مقدمات سلطانية وجرعات قسرية من التحديث الكولونيالي، والتي وجدت نفسها مدفوعة لالتماس السند لها من الدين لتسويغ سياساتها الرسمية. لكنه وبالرغم من أن الدولة قد أوسعت للدين دائماً مكانة معتبرة فيها، إلا أنها لم تكن يوماً دولة دينية.
انسحاب الدولة من المجال الديني
إنما كان التداخل بين الدولة والدين قائماً في أذهان العامة ومتخيلهم، وفي الثقافة الشعبية العامة للأفراد والجماعات، وتعزز أكثر بفعل حضور الديني إلى هذه الدرجة أو تلك في دساتير الدول العربية بشكل عام، الأمر الذي مهّد الطريق عريضاً أمام الإسلام الحزبي "الذي انتعش في الفراغ الذي تركه انسحاب الدولة من المجال الديني ومناخ العداء الذي جهرت به سياساتها تجاه المشاعر الدينية للجمهور" من جهة، أو عبر هيمنة الدولة على المجال الديني وإلحاقها المؤسسات الدينية الرسمية بمؤسسات الدولة واستثمارها للرأسمال الديني عبر تجنيدها جيشاً من علماء الدين يعمل على تبرير سياساتها الفاشلة. 

التداخل بين الدولة والدين قائم في أذهان العامة ومتخيلهم

وهو ما حدا بالحركات الإسلامية أن تركب المركب نفسه، فتعيد إقحام الدين في السياسة كردّ على تلك السياسة الخرقاء بالوسائل والأدوات نفسها من جديد؛ "فالإسلام  الحزبي" أو "الإسلام النضالي" كما يرى الباحث بلقزيز "قد ولد في رحم إستراتيجية التلاعب بالمقدس التي مارستها الدولة "الحديثة" وفي مواجهتها، بإعمال مفرداتها ومشروعياتها التأسيسية نفسها، لكن في أفق حسابات سياسية مختلفة"، وقد حقق نجاحاً سريعاً في منافسة الدولة على استثمار الرأسمال الديني في السياسة بفعل خطابه الاحتجاجي على أوضاع اجتماعية رديئة واستبداد وفساد سياسي من جهة،  ونفسه الطوباوي  التبشيري الواعد من جهة ثانية، وإخفاق قوى اليسار الديمقراطي والقومي والاشتراكي وحالة الانسداد السياسي الخانق في المجال السياسي بعد هزيمة التيار القومي واليساري بعد حرب عام 1967 وما تلاها من هزائم شكلت للإسلام السياسي ما يشبه ولادة ثانية من جهة ثالثة.
تلاعب الإسلام الحزبي بالمقدس
ولعل التلاعب الأكبر بالمقدس والاستثمار الذي مارسه الإسلام الحزبي والجهادي فيه هو طوبى الدولة الإسلامية أو الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، سواء تخيلها على غرار دولة المدينة، أو دولة الخلافة، أو الدولة السلطانية التي نظّر لها فقهاء السياسة الشرعية، والتي لم تكن يوماً محل إجماع إسلامي ولا تعدو في نظر الكاتب كونها "ضرباً من نوستالجيا (حنين للماضي) مستحيلة تخاتل وعياً منفصماً ومنفصلاً عن التاريخ والواقع، وليس لها من وظيفة سوى دغدغة مشاعر المؤمنين بجنة في الأرض لكسب ولائهم لمشروع سياسي يسربل نفسه برمزية دينية ".

اقرأ أيضاً: الدولة في الفكر الإسلامي
وإذا كان ثمة تداخل حصل في الماضي التاريخي بين الدولة والدين (الإسلام) بحكم تزامن نشأتهما معاً في المرحلة الأولى، وقبل أن يعرف البشر الدولة الوطنية الحديثة، لا يقدم إلا مبرراً أيديولوجياً لتأسيس الدولة على الدين، يخلط ما بين نسبية الدولة ومطلق الدين، فيقيناً أن الدولة الحديثة المحايدة تجاه جميع مكوناتها لم تعد خاصية غربية أو أوروبية؛ إنما أضحت حقيقة كونية لا محيد عنها، ولا سبيل أمامنا إلى التقدم إلا بإقامة هذه الدولة الحديثة باعتبارنا جزءاً من هذا البشرية المعاصرة والعالم الحديث لا نختلف عنه إلا بدرجة التقدم.

 


وهذه الدولة هي دولة لكل مواطنيها بمعزل عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية والعرقية، وهي دولة تبنى على التواضع على المصالح العمومية وليس على المبادئ الأخلاقية غير القابلة للتفاوض، في حين أنّ الدولة (الدينية) المزعومة أو المنشودة والتي تتوسل شرعيتها من خارجها، أي من الدين ومبادئه، أو تقوم لخدمة أهداف وغايات أبعد منها، كنشر الإسلام أو صون العقيدة وما إلى ذلك، لم تنتج ولن تنتج غير التمذهب  السياسي والانقسام؛ "فالكثير مما بدا خلافات دينية بين المسلمين، حول تعاليم دينهم بالشأن العام (الإمامة تحديداً)، إنما كان جوهره سياسياً وإن هو استعار مفردات الدين للتعبير عن نفسه"، ولا طريق للخروج من هذه "النازلة" في رأي المؤلف غير الحوار البناء والاعتراف بحق الاختلاف "وإعادة بناء المجال السياسي بعد تحريره من تدخل العوامل غير السياسية فيه، وبناء التمايز الضروري بين المجال الديني كمجال للمؤمنين، والمجال السياسي كمجال للمواطنين".
حصاد الإسلام الحزبي
يفرد الكاتب قسماً مهماً من كتابه لدراسة ظاهرة الإسلام السياسي والحزبي المعاصر ومآلاته بعد التأسيس النظري، والمعاينة التاريخية الطويلة لرصد وتحليل العلاقة بين الدين بالدولة، مشيراً إلى الفارق النوعي بين الأحزاب الوطنية التي استلهمت مبادئ الإسلام في مشروعها السياسي ضد الاحتلال الأجنبي، وتنظيمات الإسلام الحزبي التي استلهمتها "لغاية إسقاط شرعية الدولة الحديثة، بدعوى الزعم أنها تتعارض مع مبادئ الدين".

 

لم يقتصر توسل الشرعية من الدين على دولة الأمراء والسلاطين بل امتد إلى الدولة الزمنية الحديثة

فالدين في اعتبار هذا الإسلام رغم الاختلافات الجزئية في فسيفساء تنظيماته، دين ودنيا ومصحف وسيف، والشعار الجامع لتلك الفسيفساء، الإسلام هو الحل، وكل من أحزابه يرى نفسه المخوّل بملء "الفراغ الحاصل" من غياب الدين عن السياسة، ويأخذ على عاتقه إعلاء كلمة الله، الأمر الذي يؤكد طابعه المذهبي والطائفي الانغلاقي تحت زعم "الإسلام الصحيح"،  وهو ما لا يخرج عن إعادة إنتاج حزبي لفكرة "الفرقة الناجية"، فلم ينتج الإسلام الحزبي من ولوجه عالم السياسة غير النتائج الكارثية على الدولة والمجتمع والدين ولعل أهمها خطورة حسب المؤلف: "زعزعة الاستقرار الداخلي؛ إحداث انقسامات أهلية من طبيعة طائفية ومذهبية؛ الإساءة إلى صورة الإسلام في الخارج؛ ثم استدراج التدخلات الأجنبية في البلاد العربية". ولا يستطيع أحد أن يتوقع إلى أين سينتهي مآل هذه الانقلابات الخطيرة بعد تبني هذا الإسلام خيار العنف باسم "الجهاد"، وإشاعة ثقافة العنف السياسي.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية