ماذا يجري في الجزائر: صاعقة في سماء صافية أم "ثورة" لكسر الإذلال؟

الجزائر

ماذا يجري في الجزائر: صاعقة في سماء صافية أم "ثورة" لكسر الإذلال؟


14/03/2019

بينما انشغلت الباحثة في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، سارة فوير، في الإجابة عن سؤال "هل تقف الجزائر على حافة الهاوية؟" مضى باحثون آخرون في مراكز دراسات يتقصّون جوانب الأزمة الجزائرية، حيث أورد معهد كارنيغي آراء أكاديميين وخبراء جزائريين رأوا فيما يجري في بلادهم بأنّه جهد جماعي لاستعادة السيطرة على الحياة السياسية، كما قالت الباحثة في كلية الدراسات المتقدمة في العلوم الاجتماعية، بباريس أمل أبو بكر؛ فالأمر لايتعلق ببوتفليقة، بل بالجزائريين؛ إذ إنّ احتجاجاتهم لم تظهر كصاعقة في سماء صافية في سياق ثورة ضد الرجل القوي الذي كانوا يخشون. إنّهم بالأحرى يقومون بجهد جماعي لاستعادة السيطرة على الحياة السياسية التي أُقصُوا منها منذ العام 1962. هذا الإعلان عن الاستقلال السياسي يهدف إلى التخلّص من الخيارات الإصطناعية التي فرضها النظام على الجزائريين لشل مطالبهم في التغيير؛ وهذه الخيارات تشمل أن يكونوا مع أو ضد "استقرار" بلادهم، وأن يقبلوا فتات الريع النفطي بدلاً من العدالة الاجتماعية، وكذلك أن يقبلوا مفاوضات لاسياسية لمنع نشوب "حرب أهلية"، وانتخابات صورية مزوّرة لتجنّب ديكتاتورية عسكرية.
وما يجري في الجزائر، بحسب يحيى زبير أستاذ العلاقات الدولية والإدارة الدولية في كلية كيدج للأعمال في فرنسا، يؤكد أنه لم تعد ظروف الحياة في البلاد أكثر صعوبة وحسب، بل وصل الفساد أيضاً إلى ذرى عالية، وبات انهيار العقد الاجتماعي واضحاً للعيان.
 وصل الفساد إلى ذرى عالية، وبات انهيار العقد الاجتماعي واضحاً للعيان

الإذلال قوة دافعة للتاريخ
أما الأستاذ في جامعة الجزائر، رشيد تلمساني، فرأى في الاحتجاجات العارمة تعبيراً عن رغبة الجزائريين بوقف الإذلال الذي يتعرضون له. والإذلال، كما هو معروف، قوة دافعة للتاريخ، وغالباً ما كان حاسماً أكثر من العوامل الاقتصادية. كفى تعسفاً وجوراً. لم يعد الجزائريون خائفين من قمع الدولة. الاحتجاجات المتواصلة تتحدى أيضاً تهديدات رأس الدولة بتحويل الجزائر إلى سورية ثانية. يجب أن يبدّل الخوف موقعه.

باحث جزائري: ما يجري يؤكد أنّ الفساد وصل إلى ذرى عالية، وبات انهيار العقد الاجتماعي واضحاً للعيان

وبالعودة إلى سؤال سارة فوير، فهي ترى أنّ الأسباب الأعمق التي تكمن خلف الاضطرابات تعود إلى تصلّب النظام السياسي وتدهور الاقتصاد. فمنذ الحصول على الاستقلال من فرنسا في سنة 1962، حَكَمَ الجزائر تحالفٌ غامض من القادة العسكريين والمسؤولين الاستخباراتيين ونخب رجال الأعمال والسياسيين المعروفين معاً باسم Le pouvoir (السلطة). وعلى مر العقود، انبثقت شرعية هذه الفصيلة إلى حدٍ كبير من واقع أنّ الكثيرين من أعضائها شاركوا في النضال من أجل الاستقلال. وبوتفليقة، الذي استلم مقاليد الحُكم العام 1999، هو من بين النخب الأخيرة الباقية من ذلك الجيل، ويعود إليه جزءٌ كبيرٌ من الفضل في مساعدة البلاد على بلوغ قدرٍ من الاستقرار بعد الحرب الأهلية التي أودت بحياة حوالي 200,000 شخص.
 70 في المئة من 41 مليون ساكن في الجزائر لم يبلغوا سنّ الثلاثين

70% من الجزائريين لم يبلغوا سنّ الثلاثين
علاوةً على ذلك، لا يرتجع كثيراً صدى الإشارة إلى الكفاح ضد الاستعمار والتحذيرات من العودة إلى "العقد الأسود" للتسعينيات في آذان 70 في المئة من 41 مليون ساكن في الجزائر لم يبلغوا سنّ الثلاثين. فما يعني هذا الجيل أكثر بشكلٍ مباشر هو معدّل البطالة لدى الشباب الذي بلغ 25 في المئة والاقتصاد الذي يزداد سوءاً بانتظام، وهما أمران عجزت أم لم ترغب النخب السياسية في تحسينهما. فتعتمد الجزائر كثيراً على مردود مبيعات النفط والغاز، التي تشكّل 95 في المئة من عائداتها التصديرية و60 في المئة من مداخيل ميزانيتها. واضطرّت الدولة بسبب هبوط أسعار النفط العالمية في العام 2014 إلى الاستعانة باحتياطات العملة الأجنبية، التي تراجعت بنسبة 50 في المئة تقريباً منذ العام 2011. وفي الوقت نفسه، تحدّ الأحكام التجارية التقييدية من الاستثمار الأجنبي بشكلٍ كبير. لذلك كلُّ من يستلم السلطة بعد هذه الدورة من الانتخابات سيواجه وضعاً اقتصاديّاً ملحّاً بحاجة إلى الإصلاح العميق.

باحثة أمريكية: على واشنطن أن تستعد لاحتمال استمرار الاضطراب وأن تعمل في الوقت نفسه بهدوء مع الحلفاء العرب والأوروبيين

وفي ضوء هذه الحقائق الصعبة، يقول الباحث التونسي عبد الرزاق بلحاج مسعود، في دراسة نشرها مركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية: يجد الجزائريون أنفسهم، كما العرب عموماً، في مواجهة كلّ أزماتهم القديمة المتراكمة دفعة واحدة: تنوير مجهض وديمقراطية ساءت سمعتها قبل أن تبدأ، هوية دينية نجحت تيارات التعصّب والجريمة المخترقة مخابراتيّاً في تشويهها بالدم، دولة تملّكتها لوبيات الفساد المنظّم والجريمة المحمية بالقانون، مقدّرات مرتهنة لدى احتكارات رأسمالية استعمارية عابرة للحدود والسيادة بكل الوسائل بما فيها الاستخباراتية والعسكرية...
وبالتالي، أن يواجه مجتمع كلّ أزماته دفعة واحدة يعني أنه بلغ عمق المأزق. مأزق لا نظنّ، كما يتابع الباحث، أنّ الشباب المتظاهر بحماسة في الشارع الجزائري يدرك أبعاده ومتطلّبات مواجهته. ولا نظنّ أنّ نخب الحكم المكبّلة بمصالح ضخمة بما فيها المعارضة القديمة تملك من الإرادة ومن وضوح الفكرة والاستشراف والمرونة السياسية ما يؤهّلها لتوجيه هذا الزخم التاريخي الجديد نحو توافق تاريخي واسع يسمح بإرساء قواعد اجتماع سياسي وطني حديث يقوم على سيادة القانون.

الاحتجاجات لن تهدأ، على الرغم من إعلان بوتفليقة عدم الترشح لولاية خامسة

هل ما يجري في الجزائر ثورة؟

ويتساءل الباحث مسعود: هل ما يجري ثورة؟ مناقشاً ما يدور من أحاديث عن أنّ ما يحصل في الجزائر موجة ثانية من الربيع العربي المتعثّر والمنقلب عليه. إذ يذهب بعض المتفائلين، في نظره، إلى أنّ "الشعب الجزائري العظيم" لن يقع ضحية الخديعة التي سقطت في هاويتها شعوب مصر واليمن وسوريا وتونس أيضاً ولو بطريقة أنعم. ولذلك سينجح حتماً في إنجاز "ثورة" مكتملة تناسب حجم الجزائر. يبني هؤلاء تفاؤلهم بمستقبل الحراك الجزائري على مصادرة نفسية وجدانية محضة تقول بـ"نضج" الشعب الجزائري وقدرته على الاستفادة من أخطاء أشقائه من الشعوب العربية.

اقرأ أيضاً: إلى أين تسير الجزائر؟
ويتابع الباحث: طبعاً لا أحد من حقّه أن يثني الشباب الجزائري عن طرْق باب الحلم مهما كان طوباوياً ومجنّحاً. ولكنّ الرهان العاطفي على "وعي متقدّم وطليعي" و"رؤية إستراتيجية ثاقبة" و"قدرة أسطورية" على تركيع الاستعمار وعملائه وإجهاض مؤامراته ممّا يقع تداوله اليوم حول الانتفاض الشعبي الجزائري لا يعدو أن يكون حديثاً أيديولوجيّاً تبشيريّاً لا يحيط بتعقّد الحالة الجزائرية وعدم تأهّلها لإحراز تحوّل عميق في بنية النظام الحاكم، نظراً لضخامة الرهانات الداخلية والدولية المرتبطة به وفي بنية الوعي غير الديمقراطي لدى المعارضة المهترئة والشعب المحافظ أيضاً.

اقرأ أيضاً: الأخضر الإبراهيمي... مفتاح الحل للأزمة الجزائرية؟
ومقابل التيه الشبابي توجد نخب فكر وسياسة جزائرية ذات خصائص يمكن إجمالها فيما يلي: في ظلّ دولة الجيش صاحب الشرعية الثورية المقدّسة لم تنشأ في الجزائر تقاليد تفكير لا في السياسة ولا في كل فروع المعرفة. والنخب التي تلقت تعليمها في فرنسا وفكّرت من داخل ثقافته وتقاليده الأكاديمية لم تنجح في خلق جسور تفاعل مع شعب ظلّ في عمومه يتحصّن نفسيّاً بثقافته التقليدية حتى أنه تعامل مع لغته العربية كأداة حرب ثقافية/ دينية ضدّ المستعمر، وبالتالي ضدّ جزء كبير من نخبته ذات الثقافة الفرنسية. في المحصّلة يسود داخل النخب الجزائرية (والتي يعيش جزء مهم منها في الخارج) انقسام حادّ جدّاً بين تيّار محافظ تقليدي منقطع عن الحداثة الكونية من جهة، وتيّار تحديثي متماه كلّياً مع النموذج الأوروبي في التحديث، النموذج الذي ما يزال جرحه الاستعماري حيّاً في ذاكرة الجزائريّين.
ويخلص الباحث التونسي إلى أنّه ليس من السهل أن تلتقي نخب الجزائر وشبابها حول برنامج انتقال ديمقراطي وطني جامع في المدى المنظور، وهو ما يراهن عليه النظام الحالي لاستيعاب موجة الاحتجاج العالية حتى الآن.
غداً الجمعة يكون الرد
الاحتجاجات المتنامية في الجزائر لن تهدأ، على الرغم من إعلان بوتفليقة عدم الترشح لولاية خامسة، ودعوة رئيس الوزراء الجديد، نور الدين بدوي، اليوم الخميس المعارضة وكل الشركاء إلى "التواصل والحوار" لتمكين البلاد من تجاوز هذا الظرف الصعب؛ معتبراً، كما نقلت وسائل إعلام جزائرية، أنّ تجاوز هذه المرحلة "يمر عبر مخرج تغليب الحوار والاستماع إلى بعضنا البعض وتبادل الحديث"، وهي قيم "كرسها الجزائريون منذ أمد بعيد عبر مختلف المراحل العصيبة التي عاشتها البلاد".

اقرأ أيضاً: بعد عودة بوتفليقة.. ماذا سيحدث في الجزائر؟
غداً الجمعة سيكون رد الشارع الجزائري واضحاً باتجاه موقفه من الحلول السياسية التي لاحت في أفق الأسبوع المنصرم.
وفي نظر الباحثة في معهد واشنطن سارة فوير، فإنّ على الولايات المتحدة، أن تستعد لاحتمال استمرار الاضطراب، وأن تعمل في الوقت نفسه بهدوء مع الحلفاء العرب والأوروبيين على حث الجزائر على وضع خريطة طريق موثوقة للخروج من المأزق، تأخذ في الاعتبار بشكلٍ مناسب هواجس المحتجّين. كما عليها النظر في توسيع قنوات الالتزام لتشمل المحادثات بين "قيادة الولايات المتحدة في أفريقيا" ورئيس أركان الجيش الجزائري أحمد قايد صالح، الذي سبق أن تعهد بالحفاظ على استقرار البلد وأمنه.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية