"ماما بوكو حرام": قصة امرأة نيجيرية تتوسط بين الدولة والمتمردين

"ماما بوكو حرام": قصة امرأة نيجيرية تتوسط بين الدولة والمتمردين


03/12/2020

ترجمة: محمد الدخاخني

كانت ظهرية حارة أخرى في مايدوغوري، غرب المدينة، شمال شرق نيجيريا، جلست عائشة وكيل، البالغة من العمر 51 عاماً، في مكتبها تتحدث إلى مقاتل جهادي يدعى عثمان، وكانت مستورة من الرأس إلى أخمص القدمين بالشيفون المطرز، وقد غطى النّقاب معظم وجهها، الذي ظهرت منه عيناها الداكنتان فقط، والغرفة بدورها كانت معطرة بالكائجي، وهو بخور حلو وخشبي تركته وكيل يحترق في إحدى الزوايا.

اقرأ أيضاً: بوكو حرام.. غول الإرهاب غربي أفريقيا

حافظ كلّ من وكيل وعثمان على انخفاض صوتهما، فقد كانا يتفقان على خطّة سرّية لتحرير فتاة تبلغ من العمر 16 عاماً، كانت رهينة لدى بوكو حرام، حصل ذلك في أيار (مايو) 2019، أي بعد عشرة أعوام من بدء الجماعة الإسلاموية نشاطها الإرهابي في نيجيريا كجزء من الجهاد الذي تشنه ضدّ الحكومة، وقد أسفر العنف، الذي امتدّ إلى البلدان المجاورة، عن مقتل أكثر من 30 ألف شخص.

لم تكن أعمال الإغاثة أولوية ملحّة لـ"ماما بوكو حرام"؛ لقد أرادت بشكل عاجل أن تجعل أولادها يوقفون العنف، وأثّر هذا في صحة جسدها بشكل سلبي

على مرّ الأعوام، أصبحت سمعة بوكو حرام سيئة، وارتبطت بخطف النساء والفتيات، والحادث الأكثر شهرة وقع عام 2014، عندما أسر مقاتلوها 276 تلميذة من مدرسة ثانوية في قرية شيبوك النائية، لكن كانت هناك حوادث اختطاف قبل شيبوك، وعشرات بعدها، واضطرت بعض النساء اللواتي اعتقلن أن يكنّ انتحاريات، ويذكر أنّ بوكو حرام قد استخدمت أكثر من 460 انتحارية، أي أكثر من أيّة جماعة إرهابية أخرى في التاريخ، والفتاة المراهقة التي ناقش كلّ من وكيل وعثمان قضيتها كانت واحدة من أحدث ضحايا الجماعة، ولعدة أشهر، توسّلت وكيل إلى مقاتلي بوكو حرام من أجل تحريرها.

مايدوغوري في شمال نيجيريا

ومع محاولة جنود ومتطوعين محليين مطاردة أعضاء الجماعة، فرّ أغلب الأعضاء من مايدوغوري، أكبر مدينة في ولاية برنو، ومن مدن المنطقة الأخرى، لقد أقاموا مخيمات منزوية بعيدة، في أراضي الأدغال القاحلة الممتدة عبر شمال نيجيريا والكاميرون وتشاد والنيجر، وذهب بعض المقاتلين للعيش في مخابئ بالمحمية البرية الشاسعة السابقة في غابة سامبيسا وفي الجزر النائية التي تنتشر في بحيرة تشاد؛ حيث احتجزت الجماعة آلاف الرهائن، من النساء والفتيات والرجال والأطفال الجنود، الذين أجبروا على الانضمام إلى صفوفهم.

اقرأ أيضاً: بوكو حرام تذبح 43 مزارعاً في نيجيريا

وبعد إبادة القرى، يعود المقاتلون إلى مخيماتهم، ويتدافع الجنود النيجيريون خلفهم، لكنّ المركبات الثقيلة للجيش تعلق في الشجيرات الشائكة والأرض الرملية الناعمة في سامبيسا، وهكذا لم يتمكن الجيش من المغامرة بعيداً في ساحل بحيرة تشاد المستنقعية، خاصة خلال موسم الأمطار، ومن جانبهم؛ يتحرك المتمردون بسرعة فوق هذه الأرض، في قوافل من الدراجات النارية، ثم يختفون بعد ذلك كالدخان.

تعدّ وكيل واحدة من قلة ممن هم خارج بوكو حرام ويمكنهم التواصل مع أعضائها؛ فهي على اتصال بكبار المقاتلين.

 في مكتبها ذلك اليوم، كانت تستخدم هذه القدرة على التواصل للتفاوض على تحرير رهينة، الرهينة هي فتاة مسيحية، وفي مقابلات مع وسائل الإعلام المحلية، طالب والداها الحكومة النيجيرية بإنقاذها، وأرادت وكيل تحريرها بأمان، وقد تكوّن لديها اعتقاد بأنّ عثمان هو الشخص المناسب لإنجاز المهمة؛ فقد كان، في النهاية، واحداً من مقاتلي بوكو حرام، من مقاتلي الصفّ المتوسط، الذين سافروا جيئة وذهاباً بين الأدغال والمدينة للقيام بمهمّات خاصة.

اقرأ أيضاً: لماذا يعجز العالم عن اجتثاث جماعة بوكو حرام؟

بغية الوصول إلى مكتب وكيل، كان على عثمان المرور عبر المدينة دون جذب أيّ انتباه نحوه؛ فالشوارع يملؤها دبيب أفراد الأمن، جنود وضباط شرطة وعملاء مخابرات ومتطوعين من فرقة العمل المدنية المشتركة، وهي مجموعة محلية شبه عسكرية، وفي ذلك الوقت، كانت هجمات بوكو حرام تتزايد مجدداً، وتحرك السكان المحليون في الشوارع بحذر، وكذلك فعل عثمان.

 كان في ملابس منسلة، وحظي بيدين مخدوشتين وجسم مشدود، وهو ما لاءم المظهر المادي لمقاتل ينتمي إلى بوكو حرام تماماً.

أراد عثمان القيام بفعل خير، وقرّر التعاون مع وكيل، ونقل رسائلها إلى المجاهدين في المخيم، وانتهى اجتماعهما بنبرة متفائلة؛ فقد بدا أنّه من الممكن إطلاق سراح الرهينة.

جنوبية في مدينة السلام

تقع مايدوغوري ضمن ما كانت سابقاً أطول مملكة في التاريخ الأفريقي، والتي كانت بدورها دولة إسلامية قوية قبل الاستعمار، تعرَف بإمبراطورية "كانم برنو"، تأسست الإمبراطورية على يد أسلاف شعب كانوري الحالي، واستمرت من القرن الثامن إلى القرن التاسع عشر، وفي مرحلة ما، امتدت أراضي الإمبراطورية شرقاً، بداية مما يعرف الآن بنيجيريا وعبر تشاد إلى السودان، وشمالاً إلى ليبيا، وكان ملوك الإمبراطورية، الذين عرفوا أولاً باسم "ماي"، ثم فيما بعد باسم "شيخو"، المشتق من اللقب العربي "شيخ"، من بين أوائل السلاطين الذين مارسوا الإسلام في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

ملصق "مطلوب" لزعيم بوكو حرام أبو بكر شيكاو في مايدوغوري عام 2013

لفترة طويلة، كانت مايدوغوري تعدّ "بيت السلام"؛ فالحياة تدور حول التقاليد الإسلامية هناك؛ حيث يتردّد صوت الأذان من المساجد، ويوم الجمعة، تكتظّ الشوارع بالناس وهم يشقّون طريقهم إلى الصلاة، ويجلس آلاف الأولاد تحت الأشجار، وهم يقرؤون آيات من القرآن تحت أنظار معلميهم.

ومن الصحراء، تتدفق شلالات الرمال على المدينة، مغطية المنطقة بطبقات الغبار الناعم، وفي منتصف النهار؛ تصبح مايدوغوري حارة بشكل شديد، حرارة جافة تخترق الجلد تختصّ بها هذه المدينة، وفي الليل، تنخفض الحرارة قليلاً وتفسح المجال للنسائم التي ترتفع فوق نهر نجادا المعتم؛ حيث يصدر حفيف أشجار النيم المتناثرة عبر الأرض.

اقرأ أيضاً: تشاد: الحرب على بوكو حرام ومراعاة حقوق الإنسان

انتقلت وكيل إلى المدينة، عام 1989، لتسجيل أوراقها في جامعة مايدوغوري، وعلى عكس العديد من زملائها الطلاب، لم تكن من بنات شعب الكانوري الأصلي، إنما من الإيغبو، وهي مجموعة عرقية تقع أرض أجدادها في جنوب شرق نيجيريا.

هناك ولدت وكيل، عام 1968، ونشأت، فيما كانت البلاد تحاول عقد المصالحة وإعادة البناء في أعقاب الحرب الأهلية، التي انتهت عام 1970.

انحدرت وكيل من عائلة متدينة من الإيغبو، تنتمي إلى طائفة الروم الكاثوليك، وكانت، أيضاً، شديدة التعلق بإيمانها، لقد قادها إلى الإله، على حدّ قولها، وطوال شبابها اعتادت أن تقرأ الكتاب المقدس وتواظب على الصلاة لساعات متواصلة، لم تتحول إلى الإسلام حتى أوائل التسعينيات، بعد أن التقت بالرجل الذي ستتزوجه، القالي غانا وكيل، وهو مسلم من الكانوري.

اقرأ أيضاً: نيجيريا تحاصر بوكو حرام.. لكنها ليست النهاية

تقول وكيل: "وفق التقاليد؛ فإنّه يجب على المرأة أن تتبع دين الرجل، وقد فعلت ذلك للحفاظ على تلك الثقافة، كي يسود السلام في بيت الزوجية خاصتي".

أصيب أقاربها في الجنوب بخيبة أمل عميقة، بسبب تحوّلها وحقيقة أنّها امرأة "جنوبية" رحلت وتزوجت من رجل "شمالي"، وغيّرت اسمها إلى واحد من أكثر الأسماء توقيراً في الإسلام، ألا وهو عائشة، على غرار زوجة النبي محمد ﷺ المفضلة، و"أم المؤمنين"، (ترفض وكيل اليوم الكشف عن الأسماء التي تدلّ على أصل انتمائها إلى الإيغبو أو أصولها المسيحية)، وقد انتقلت هي وزوجها إلى بيت قديم وذي جاذبية بالقرب من أقدس مكان في مايدوغوري، قصر شيخو ومجمع المسجد المجاور له.

سلمت ماما بوكو حرام" نفسها للشرطة النيجيرية، واستجوِبت قرابة ثماني ساعات، سألها أفراد الأمن عن قصة حياتها، وكيف تعرفت على المتمردين

المرة الأولى التي التقيت فيها وكيل، كانت عام 2018، تبسّمت واحتضنتني بحنان عندما أخبرتها أنني، أيضاً، أنتمي إلى الإيغبو، وقالت وهي تضحك: "يشبه الأمر أن أكون مع أختي"، ورفعت نقابها للسماح لي برؤية وجهها، بذلت وكيل قصارى جهدها لتبني ثقافة الكانوري؛ فقد أحرقت بخور الكائجي، وأخذت عادات الجمال المحلية، مبقية يديها وأصابعها مغطاة بالـ "لال"، وهي شكل من الحناء، واتّبعت التوقعات المحلية من الزوجة المسلمة أيضاً؛ حيث قامت بتغطية رأسها بالحجاب كلما خرجت من منزلها، وعندما بدأ زوجها يخبرها بأنّه لا يحب الطريقة التي ينظر بها الرجال إلى وجهها، شرعت في ارتداء النقاب لإخفائه.

اقرأ أيضاً: رياح أزمتيْ كورونا وليبيا تلائم سفن "بوكو حرام" وحلفائها

وبعد فترة وجيزة من انتقال وكيل إلى منزلها في مايدوغوري، قررت أن تبدأ في ترك بابها الأمامي مفتوحاً، كانت ما تزال جديدة إلى حدّ ما في المدينة، وأرادت أن تكون مرحِّبة، وسرعان ما بدأ فتيان الكانوري الفقراء، الذين تتراوح أعمارهم بين ستة أو سبعة أعوام، في التدفق، وتركتهم وكيل يلعبون في مجمعها السكني، وفي نهاية المطاف، سمحت لهم بالعناية بالحديقة معها والتقاط الفاكهة من أشجارها.

عائشة وكيل في مكتبها في مايدوغوري في أبريل 2019

ورغم أنّها كانت أماً لطفلين في ذلك الوقت، فقد بدأت تطلق على أولاد الجيران النحيلين هؤلاء "أبنائي"، وبدورهم، كان الأولاد ينادونها "ماما"، ولإظهار مدى تقديرهم لها، بدؤوا في دعوتها لحضور مراسم ختانهم، وانتهى بها المطاف برعاية هذه المراسم بشكل مادي كوسيلة لمساعدة أسرهم، التي كانت تكافح مالياً.

اقرأ أيضاً: بوكو حرام: قصة كابوس نيجيري عمره 10 أعوام

يعدّ ختان الصبية المسلمين طقساً مقدّساً في شمال نيجيريا، وفي مايدوغوري، يحدث الأمر عادة عندما يكون الأولاد في سنّ السابعة تقريباً، وقد كانت وكيل متواجدة هناك عند ختان أبنائها الجدد، ممسكة بأيديهم وهم ينتفضون من أثر الشفرة، وعندما ينتهي كبار السنّ من العملية، تغسل وكيل بلطف قضيب الصبي، وتغمره في الكائجي لتطهيره وإبعاد الأرواح الشريرة، وفي النهاية، تذبح دجاجة للاحتفال بطقوس ختان كلّ صبي.

اقرأ أيضاً: الحركات السلفية في نيجيريا.. هل تختلف عن بوكو حرام؟

لكنّ وكيل ما تزال تعتاد على عادات شمال شرق نيجيريا، وقد نظر إليها بعض الناس هناك على أنّها غريبة، جنوبية، وفي بعض الأحيان شعرت بأنّها غريبة أيضاً، وبينما كانت تعمل على التكيّف مع ثقافة مختلفة تماماً عن الثقافة التي نشأت فيها، أبق أبناؤها على صحبتها، وعشقوا أطباق الإيغبو التي طهتها لهم، مثل وجبة إيسي إيو، التي تتكون من رأس الماعز المتبل المنقوع في زيت النخيل الأحمر، كان بإمكان المرء، في تلك الأيام، الشعور بأنّ مايدوغوري ما تزال مدينة السلام.

بذور بوكو حرام

مع اقتراب الألفية الجديدة؛ بدأت الحياة في مايدوغوري تتغير، فبعد عام 1999، عندما انتهى الحكم العسكري وعاد الحكم المدني إلى نيجيريا، زادت التوترات الطائفية، بين عامَي 1999 و2001، للتأكّد من أنّ الحكومة العلمانية الديمقراطية الجديدة في أبوجا لن تتعدّى على المبادئ الإسلامية، اعتمدت 12 ولاية شمالية الشريعة الإسلامية بشكل كامل، وقال المسيحيون الذين يعيشون في الشمال إنّهم شعروا بالتهديد من الشريعة، رغم وعود المسؤولين بأنّها لن تطبَّق عليهم.

اقرأ أيضاً: بوكو حرام: هل يبرر فساد الدولة النيجيرية كل هذا التوحش؟

كانت التوترات الدينية صريحة، خاصة في المنطقة الواسعة من الأراضي الخصبة في جنوب ولاية برنو، والمعروفة في نيجيريا باسم الحزام الأوسط، وفي عام 2001، في جوس، إحدى مدن الحزام الأوسط، قتل حوالي ألف شخص في أعمال عنف وقعت بين مسيحيين ومسلمين، وفي مايدوغوري، في العام نفسه، أثار الكسوف الكلي للقمر أعمال شغب بعد أن أخذ رجال مسلمون محليون الكسوف باعتباره إشارة إلى أنّ المدينة قد اجتاحتها الفجور.

وذكرت وكالات أنباء أنّ الرجال أشعلوا النيران فيما لا يقل عن 40 فندقاً وبيت هوى وحانة، ولم تقم هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) الإرهابية في نيويورك ونصائح أسامة بن لادن للمسلمين في إفريقيا بالوقوف ضدّ غير المؤمنين سوى بإشعال الصراعات القائمة.

اقرأ أيضاً: بوكو حرام تشرد آلاف النيجيريين

ومنذ التسعينيات، بدأ رجل يدعى محمد يوسف في السفر حول شمال شرق نيجيريا، واعظاً ضدّ التأثيرات الغربية، وانضمّ يوسف هذا إلى تيار راديكالي متشدد من المدرسة الإسلامية السنية المحافظة المعروفة باسم السلفية، وفي خطبه، هاجم بوكو (أي التعليم العلماني) واعتبره محرماً، وبحلول عام 2001، حظي يوسف بمجموعة مخلصة من الأتباع، عرفت باسم اليوسفية، وبدأ الناس يشيرون إلى أيديولوجيته باسم بوكو حرام.

محمد يوسف، زعيم بوكو حرام في ذلك الوقت، بعد أسره من قبل القوات النيجيرية في عام 2009

استغلّ يوسف الغضب المتزايد من تفاقم عدم المساواة في ولاية برنو؛ حيث افتقرت معظم القرى إلى الطاقة والمياه النقية النظيفة، وعاش معظم الناس على أقلّ من 1.25 دولار في اليوم، كذلك شجب يوسف الفساد الحكومي والتأثير المتزايد للثقافة اليهودية والمسيحية الغربية في الشمال، ودان تأليه نجوم كرة القدم العالميين وإعطاء أولوية للدستور العلماني لنيجيريا على الإسلام، ودفع الحكومة لجعل التعليم الابتدائي إلزامياً للأطفال.

خطاب متطرف

وفي عام 2005، أقام يوسف مسجد ومجمع ابن تيمية بالقرب من محطة قطار مايدوغوري، وانتقل بضع مئات من أتباعه إلى هناك، واستقروا حول خطوط القطارات، أصبح خطاب يوسف أكثر تطرفاً، وطالب حاكم ولاية برنو بفرض الشريعة، إلى مستويات أبعد من اعتمادها الرسمي، عام 2000، وشجب الغزو الأمريكي للعراق وتعذيب المعتقلين المسلمين في أبو غريب وخليج غوانتانامو، وأخبر أتباعه بأنّ نيجيريا دولة كافرة، وأنّ الوقت قد حان للاستعداد للجهاد ضدّ الحكومة في غضون ذلك، استمرّ تصاعد العنف بين المسيحيين والمسلمين عبر نيجيريا، وأدّت الاحتجاجات العالمية التي أعقبت نشر صحيفة دانيماركية لرسوم الكاريكاتير التي صوّرت النبي محمد ﷺ، عام 2005، إلى حالات قتل في نيجيريا أكثر من أي مكان آخر في العالم، وتحول جزء من الاحتجاجات إلى أعمال عنف، وبدأت حلقة مفرغة من الهجمات والهجمات المضادة بين المسيحيين والمسلمين، ما أسفر عن مقتل العشرات.

اقرأ أيضاً: في الغارديان: ما الذي يجعل امرأة تعود إلى بوكو حرام؟

كانت وكيل تعرف يوسف وصادقت زوجته ووالد زوجته في الوقت الذي بدأ فيه بجمع أتباعه، وعدّته واحداً من أولادها، وقد أخبرني سكان مايدوغوري، الذين عرفوا يوسف، أنه كان يحترم وكيل؛ فقد اعتادت الطبخ له في منزل والد زوجته وحثّه على عدم محاربة الحكومة.

في هذا الوقت، لاحظت أنّ أبناءها الآخرين يقضون المزيد من الوقت في مسجد يوسف، وكما قالت لي: "بدؤوا في الاختفاء".

تتذكر أنّ أحد أولادها قد غاب عنها ثلاثة أشهر، وعندما عاد إلى البلدة، لم يكن المراهق المرح الذي ذهب، لقد عاد بسلوك هادئ ومتجهم، وعندما سألته أين كان، أخبرها أنّه ذهب إلى مكان ما ليتعلم كيف يقتل الناس.

اقرأ أيضاً: كيف عاد عناصر بوكو حرام النيجيرية إلى الواجهة؟

تقول وكيل: "اعتقدت أنّها مزحة! قتل الناس؟!".

في البداية، لم تكن لديها أيّة فكرة عن ظهور معسكرات تدريب جهادية في نيجيريا، ناهيك عن أن يشارك أحد أولادها فيها، بناء على تعليمات يوسف، لقد واجهت الأخير بالأمر، تقول: "لم ينكر ذلك، وأخبرني أنّهم يستعدون للجهاد"، وفي وقت لاحق، علمت بوجود معسكر في الحزام الأوسط، وطلب منها أولادها دعوتهم بأسمائهم الجديدة، كانوا يقصدون أسماءهم الحركية.

أصبح يوسف وأتباعه أكثر عدوانية وتقاتلوا بشكل متكرر مع عملاء الأمن، وتضخمت شعبية يوسف بعد كلّ اعتقال، والحادث سيئ السمعة الذي وقع في حزيران (يونيو) 2009، هو الذي أشعل الأمور؛ ففي أحد الأيام، استقل أتباع يوسف، الذي كان خارج البلدة، قافلة من الدراجات النارية في طريقهم إلى جنازة وواجهتهم دورية حكومية لسؤالهم عن سبب عدم ارتدائهم الخوذ أثناء القيادة، تجادل اليوسفية مع الدورية، وسرعان ما اندفعت الطلقات النارية، لم يتّضح حينها مَن أطلق النار أولاً، لكنّ الأمر انتهى بجرح العديد من الضباط، وتوفَّى بعض أنصار يوسف، ولم تحقق الحكومة قط فيما حدث.

مطالبة المسلمين بحمل السلاح

كان يوسف غاضباً، وردّ بسلسلة من الخطابات القاسية، هدّد فيها الحكومة النيجيرية بشكل مباشر، وطالب المسلمين بحمل السلاح، وتجاوزت هذه الرسائل حيّز مايدوغوري، فسجِّلت على أقراص "دي في دي" وأشرطة انتشرت في كافة أنحاء المنطقة.

اقرأ أيضاً: نيجيريا تخفق في هزيمة بوكو حرام .. وهذه هي الأسباب

أدركت وكيل أنّ أبناءها ويوسف في طريقهم نحو مشكلات كبيرة، تحدثت إلى والد زوجته حول مخاوفها، وقد كان قلقاً أيضاً، وفي 21 تموز (يوليو) 2009، داهمت الشرطة منزل أحد أفراد الطائفة، وضبطت موادّ تصنيع قنابل، وأحرق اليوسفية مركز شرطة، في 26 تموز (يوليو)، في ولاية بوتشي، غرب برنو؛ التي كان ليوسف مزرعة فيها، فداهمتها الشرطة وقتلت عشرات المسلحين، وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، هاجم الجهاديون أيضاً مركزاً للشرطة في مايدوغوري، وعلى مدار الأيام الأربعة التالية، قاموا بترويع المدينة، وقتلوا أفراد شرطة وجنوداً وذبحوا المدنيين الذين قُبض عليهم وسط المعارك، وردّاً على موجة القتل، أطلقت القوات النيجيرية النار على أكثر من مئة من أتباع يوسف، ثم أسر الجنود يوسف وسلّموه إلى الشرطة التي أعدمته، ولا يمكن لوكيل أن تنسى ليلة الثلاثين من تموز (يوليو) 2009؛ عندما شاهدت جثة يوسف الدامية في الأخبار المحلية المسائية على التلفزيون.

اعتقدت الحكومة أنّ وفاة يوسف كانت نهاية بوكو حرام، لكنّها لم تسهم سوى في جعل الأمور أسوأ؛ فبعد اختبائها لفترة، عادت الجماعة للظهور، عام 2010، مع وجود نائب يوسف الوحشي، أبو بكر شكوي، قائداً جديداً لبوكو حرام، ومنذ ذلك الحين، بدأت بوكو حرام تستهدف المدارس وتخطف النساء، وتهدف الجماعة إلى الإطاحة بحكومة نيجيريا واستبدالها بدولة إسلامية.

اقرأ أيضاً: نيجيريا: "بوكو حرام" تعيد التلميذات المخطوفات إلى بلدتهن

أصبح العديد من أبناء وكيل الآن تحت قيادة شكوي، لكن، ورغم صدمتها من المسار المدمر الذي اختاره أبناؤها، شعرت وكيل بأنّها لا تستطيع التخلي عنهم، أو تسليمهم إلى الحكومة، وطوال عامين تقريباً قضيتُهما في تقصّي أخبارها، لم أسمع وكيل قط تصف أياً منهم بـ "الإرهابي"؛ إنهم بالنسبة إليها رجال كان عليها الاعتناء بهم حتى يكبروا، والآن، قررت أن تدعو لهم بالتوبة، كما استمرت في الاعتناء بهم؛ فقد زوّدتهم بالملابس والأموال والهواتف، معتقدة أنّها تستطيع إصلاحهم بالحبّ. واعتنت بالزوجات والأطفال الذين تركوهم وراءهم في المدن، وعندما كان عملاء أمن الدولة يبحثون عن أبناء وكيل، أخفَتهم داخل منزلها؛ ناموا في غرفة الاستقبال ونامت هي وابنتها، يومي، في الغرفة المجاورة.

لكنّها خشيت المدى الذي يمكن أن يذهب إليه أبناؤها، لقد أصبحت مايدوغوري منطقة حرب حضرية، في الليل، يملأ صوت إطلاق النار الهواء، وخلال النهار، يخشى السكان تجمعات الزفاف والحفلات، وبما أنّ التحدث علانية ضدّ المسلحين يمكن أن يجعلك في عداد المقتولين، فقد اعتاد السكان الصمت.

لكن وكيل كانت استثناء؛ لم تكن صِلاتها ببوكو حرام سرّية، ودعاها المنتجون في محطة إخبارية تلفزيونية محلية إلى الاستوديو للتحدث عن انعدام الأمن المتزايد، وخلال البثّ قالت وكيل؛ إنّ المقاتلين يجب أن يتوقفوا، وإنّها "تناشدهم كما تناشد أمّ أبناءها".

اقرأ أيضاً: نداءات تحذيرية من غرب أفريقيا

بعد ذلك، بدأ السكان والصحفيون ينادونها بـ "ماما بوكو حرام"، وكانت المرأة الوحيدة التي صرّحت علانية بأنّها تتحدث بانتظام مع المسلحين.

وسيط محايد أم طرف مريب؟

تعدّ جامعة "مايدوغوري" أرقى جامعة في شمال شرق نيجيريا وفخر المدينة، وتحظى بحرم جامعي واسع وحديث، وأكثر من 20,000 طالب، وموظفين دوليين، ولأنها مؤسسة علمانية مختلطة، فقد كانت أيضاً هدفاً واضحاً لبوكو حرام.

وفي عام 2012؛ نفّذت الجماعة سلسلة من الهجمات البارزة، وفي أوائل كانون الثاني (يناير)، اعترف غودلاك جوناثان، رئيس نيجيريا في ذلك الوقت، بأنّ أعضاء بوكو حرام قد اخترقوا حكومته والأجهزة الأمنية للدولة، وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، في كانون الثاني (يناير)، أكبر مدينة في نيجيريا، نفّذت بوكو حرام سلسلة من عمليات إطلاق النار والتفجيرات المنسّقة، التي خلّفت أكثر من 178 قتيلاً، وهناك في مايدوغوري، لم يكن حتى شيخ برنو المحبوب، الذي شجب علانية بوكو حرام ووصفها بأنّها غير إسلامية، في أمان، فقد نجا بالكاد من تفجير انتحاري في المسجد المركزي، حيث كان الناس يتعبدون.

وفي العام نفسه؛ تلقت وكيل مكالمة من أحد أبنائها يحذّرها من السماح لابنتها، يومي، التي كانت طالبة في الجامعة، بالذهاب في ذلك اليوم؛ فقد كان الحرم الجامعي على وشك التعرض لهجوم، يومها تحدّثت وكيل قدر استطاعتها بلطف، خاطبته بـ "يا بني"، وبذلت قصارى جهدها لإقناعه بالتخلي عن الخطة، وأخبرته بأنّ قتل الأبرياء لا يرضي الله، فقال إنّه ما من طريقة لإيقاف المهمة، لأنّ كلّ شيء كان جاهزاً بالفعل، وكلّ ما عليها القيام به هو حماية ابنتها.

اقرأ أيضاً: الإيكونوميست تكشف عن آخر المؤامرات الإيرانية في أفريقيا

وعندما أنهت المكالمة، التفتت وكيل إلى يومي وأمرتها بالاندفاع إلى المدرسة، وقالت لي يومي في وقت لاحق: "طلبت مني الذهاب إلى المدرسة على وجه السرعة، ولم أعرف لما تدفعني للعجلة"، كانت وكيل على علم بأنّ أبناءها لن يفجروا الجامعة وابنتها في الداخل، كانت يومي مثل أختهم؛ فهي، أيضاً، اعتنت بهم؛ لذلك استخدمتها وكيل درعاً بشرياً.

وعندما أدرك المتمردون وجود يومي بين الحضور، اتّصل الرجل بوكيل مرة أخرى، وسألها لماذا تركت، يا ماما، ابنتك تذهب إلى الحرم الجامعي؟ وبعد مرور بعض الوقت، قال إنّه بناء على طلب "ماما" سيلغون الهجوم.

اقرأ أيضاً: الإخوان المسلمون في شمال أفريقيا: آليات التحرك وتحديات السلطة

يمكن لعدد قليل جداً ممّن هم خارج بوكو حرام ادّعاء هذا النوع من التأثير على أعضائها، وفي البداية، رأت الحكومة أنّ علاقة وكيل بهم ذات فائدة، واعتقد أفراد الحكومة أنّها يمكن أن تساعدهم في فتح محادثات مع الجماعة.

ومع تصاعد العنف، دعيت وكيل، عام 2013، للانضمام إلى لجنة أنشأها الرئيس جوناثان لفتح محادثات مع المتمردين وطرح خيار منحهم العفو، وانضمت وكيل، لكنّ المحادثات لم تفضِ لشيء، لم تثق بوكو حرام بالسياسيين، ومع استمرار تسرب تفاصيل المفاوضات إلى وسائل الإعلام، أصبح المتمردون أقلّ ميلاً إلى التعاون فأقل.

اقرأ أيضاً: أردوغان وأخونة أفريقيا!

لكن منذ أن أصبح شكوي زعيماً لبوكو حرام، أخذت وكيل تجري مفاوضاتها الخاصة، وتتحدث إلى أعضاء الجماعة عبر الهاتف أو من خلال مخبريها، أو تقابلهم شخصياً في منزلها، لقد ناشدتهم أن يغادروا الجماعة، وفعل العشرات منهم ذلك، وأقنعت بعضهم بالتخلي عن حمل السلاح، وقادتهم إلى مكبّ نفايات كبير في مايدوغوري؛ حيث أمكنهم رمي السلاح والرحيل، وساعدها متشددون في تفكيك متفجرات أكثر من مرة، ودُفنت قطع المتفجرات في حديقتها، وبينما كنّا نسير حول الحديقة معاً، أشارت إلى المكان الذي دمِّرت فيه إحدى القنابل، وأخبرتني أنني إذا نظرت بتمعّن بما فيه الكفاية، فقد أتمكن من رؤية أجزاء من القنبلة.

وقد ساعدت أعضاء سابقين في تأسيس حياة جديدة في أجزاء أخرى من البلاد، وذات يوم، منحت المال لنحو 30 من المقاتلين السابقين، وقالت إنّ أحدهم تمكّن بهذا المال من الذهاب إلى العاصمة التجارية لاغوس للعمل في قطاع النسيج، وأنّ آخر شقّ طريقه إلى الجنوب الشرقي ليصبح جزاراً.

وبحسب وكيل؛ فقد قتل العديد من هؤلاء الأبناء على أيدي أفراد من المتطوعين لمساعدة الحكومة، أو قبض عليهم بمجرد انتشار أخبار حول هويتهم.

لم يتمكن الجميع من فهم ما تفعله وكيل، ولم يمضِ وقت طويل قبل أن تبدأ الشائعات بالانتشار، وقال الناس إنّها قريبة بشكل مريب من المتمردين، وتساءلوا عن سبب الأمان الذي يحظى به منزلها، بينما تعرضت كلّ المناطق الأخرى تقريباً في مايدوغوري لإطلاق نار أو تفجير.

اتفقوا على عدم مهاجمة منزلي

تقول وكيل: "صحيح أنّهم اتفقوا على عدم مهاجمة منزلي، لكنّ ذلك كان لأنّ كلّ الأطراف كانوا يعدّونه ملاذاً آمناً"، بالفعل؛ عندما جرى إطلاق الرصاص في المدينة، كان منزلها هو المكان الذي ذهب إليه المدنيون للبحث عن ملجأ، كذلك ركض المتمردون إلى هناك أثناء ملاحقة أمن الدولة والجنود لهم، أيضاً ركض مسؤولو الأمن إلى هناك عندما كانوا يفرّون من بوكو حرام.

اقرأ أيضاً: كيف سعت إيران لمد أذرعها في أفريقيا؟

في تلك اللحظات، وقف رجال الأمن الحكوميون ومقاتلو بوكو حرام أحياناً وجهاً لوجه في منزل وكيل، وهذا ما أرادته بالضبط، كانت تحضر أوعية من الإيسي إيوي، وتشجع الرجال على تناول الطعام معاً في سلام.

 تقول لي ضاحكة: "حينها كانوا يأكلون وهم سعداء للغاية، ينتابهم القلق في البداية، لكنّهم على الطعام استعدوا ببطء، بما يكفي لإجراء محادثات صريحة"،

كانت تلك طريقة وكيل الخاصة في بناء السلام، لكن من غير المستغرب أن يشعر البعض بعدم الارتياح تجاه أساليبها غير التقليدية.

اقرأ أيضاً: وكالة "تيكا".. ذراع أردوغان لدعم الإرهاب بأفريقيا

في 14 آب (أغسطس) 2016؛ أعلن الجيش النيجيري أنّ وكيل على قائمة المطلوبين، بعد أن نشر مسلحون مقطع فيديو لفتيات شيبوك وهنّ في الأسر، وقال المتحدث باسم الجيش، ساني عثمان، في بيان له؛ إنّ وكيل، وشخصَين آخرَين مطلوبَين، صحفي وناشط سلام "بحوزتهم معلومات عن ظروف فتيات شيبوك وموقعهن"، وتابع بيان عثمان: "ولذلك، يجب أن يتقدموا ويخبروننا بهذه المعلومات".

أصاب القلق وكيل؛ فهي لم تكن تعرف مكان الفتيات، وأيضاً كانت تتعاون مع الأجهزة الأمنية منذ أعوام، وقد التقت رئيس أركان الجيش وأبقت الجيش على علم بأنشطتها، والآن تعامَل باعتبارها متواطئة.

نشرت ردّاً على فيسبوك جاء فيه: "أجل، لديّ روابط ببوكو حرام، وكنتم دائماً على علم بذلك، لقد كنت في الجبهة أقاتل من أجل السلام قبل اختطاف فتيات شيبوك بوقت طويل، والأمن النيجيري يعرفني جيداً، وأنا لست بالمريبة، فلما يعلن أنني مطلوبة؟ لقد وضع هذا عائلتي المباشرة والممتدة تحت ضغوط كثيرة، وأنا لا أستحق هذا من الحكومة".

اقرأ أيضاً: مؤشرات بداية أفول الإسلام السياسي في العالم العربي وشمال أفريقيا؟

في اليوم التالي، سلمت وكيل نفسها لمقرّ الدفاع في أبوجا، واستجوِبت قرابة ثماني ساعات، سألها أفراد الأمن عن قصة حياتها، وكيف انتهى بها الحال في مايدوغوري، وكيف تعرفت على المتمردين، ورغم أنّه لم يقدَّم إليها أيّ اعتذار عام، فقد صدّق الجيش قصتها وأطلق سراحها بعد 48 ساعة، ومن ثم عادت إلى مايدوغوري وإلى عملها.

استسلموا!

في أوائل أيلول (سبتمبر) 2018، بعد عامين من استجوابها؛ جلست وكيل في مكتبها مع مقاتلين من بوكو حرام، قال علي غارغا، أحد مقاتلي بوكو حرام، بصوت هادئ: "هل تسمعينني؟ سنسلّم أنفسنا، لا نريد أن تزعجنا أيّة قوة أمنية، مثل الشرطة".

اقرأ أيضاً: أفريقيا بعيون أردوغان: قارة تحتاج إلى مُنقذ وأطماع كبرى

جلست وكيل على كرسيها تستمع بهدوء، وبدت مرهقة؛ في العام الماضي، أطلقت منظمة غير ربحية، تسمى مؤسسة الرعاية والمساعدة الكاملة، وكانت تزور هي وفريقها كل بضعة أسابيع مخيمات اللاجئين؛ حيث يوزعون الملابس والطعام على النساء اللواتي فقدن أزواجهن في بوكو حرام، وكذلك فحصوا مستودعات الاحتفاظ بأكياس الأرز والفاصوليا.

لكن لم تكن أعمال الإغاثة أولويتها الملحّة؛ لقد أرادت بشكل عاجل أن تجعل أولادها يوقفون العنف، وأثّر هذا في صحة جسدها بشكل سلبي، فعانت  آلاماً حادّة في الظهر وصداعاً معيقاً، ومع ذلك، واصلت التقدم.

من جانبه، واصل غارغا حديثه نيابة عن بعض الرجال الذين كانوا في وحدته القتالية: "سنتخلى عن كلّ شيء، سنتخلى عن كلّ شيء، يا ماما"، ولم يحدّد عدد الرجال الذين يريدون الاستسلام، كان غارغا، وهو رجل ذو جسم نحيل ومشدود وعيون وديعة، راعي ماشية قبل أن يصبح مجاهداً، لكنّه سئم حرب العصابات، ووصل في نهاية المطاف إلى قناعة مفادها أنّ ما تفعله بوكو حرام إجرام، وليس إسلاماً، والآن يفتقد أبقاره وبيته وحريته، وفي وقت لاحق، التفت إليّ وأوضح أنّه سيستسلم لأنّ وكيل تجعل ذلك ممكناً.

اقرأ أيضاً: أردوغان وأفريقيا الجنوبية.. أجندة تطمس بريق الثروات

كجزء من عملية الاستسلام، قال غارغا إنّه يخطط للإفراج عن بعض فتيات الشيبوك اللواتي ما يزلن أسيرات، ومن أصل 276، ما تزال حوالي 112 فتاة في عداد المفقودات.

وقال غارغا لوكيل، وقد زعم أنّ لديه حوالي 40 منهن تحت رعايته في مكان سرّي؛ إنه سيتسلل من المخيم بصحبة الفتيات ومختطفين آخرين.

وبعد ساعة، قالت وكيل إنّ الوقت قد حان لتناول أبنائها الطعام، وهكذا أحضرت حاويات بلاستيكية من الأرز وزجاجات ماء وصودا البرتقال، فجلس الرجال بهدوء، وجمعوا الأرز بأيديهم، ثم أكلوا طعامهم بسرعة، حتى بدأ أحد مخبري بوكو حرام في الثناء على وكيل: "ماما عائشة، أم بوكو حرام، بارك الله فيك، يا عائشة، وفقك الله".

اقرأ أيضاً: لمن الغلبة في أفريقيا... لـ"القاعدة" أم لـ"داعش"؟

بعد ثلاثة أسابيع، كنت في منزل وكيل، ليلة السبت، عندما ركضت نحوي ومعها هاتفها في يدها، وأخذت تصيح، "علي مات! علي مات!"؛ لقد اتصل بها للتوّ مخبر محلّ ثقة، التقيت به عدة مرات، كانت وكيل في حالة هستيرية، وألقت بجسدها على أرضية البلاط البارد وأجهشت في البكاء، شاهدت كتفيها يرتجفان صعوداً وهبوطاً، أخبرتني أنّه عندما عاد غارغا إلى الأدغال، اكتشف بعض زملائه المجاهدين خطته للهروب بصحبة فتيات شيبوك، وما كان منهم إلا أن قتلوه، واكتشفت وكيل فيما بعد أنّه تعرض للتعذيب.

كانت وفاة علي غارغا انتكاسة كبيرة لمحادثات السلام التي تقودها وكيل، ولم تسر الأمور كما خططت مؤخراً؛ فقد باعت العديد من أصولها، بما في ذلك مجوهرات وأراض، ولم تمتلك المزيد من المال لجذب المسلحين بعيداً عن المجموعة.

قُتلت برصاصة أو أغرقت في نهر

انتهت محادثاتها بالفشل، وتمّ قتل مخبريها أثناء سفرهم بين مايدوغوري والأدغال؛ حيث تمركز المسلحون، ولم تعرف قط من قتلهم، وبشكل دوري، تحصل على رسائل مفادها أنّ جهة اتصال أخرى قد قتلت برصاصة طائشة أو أغرقت في نهر.

في أواخر عام 2019، تعرضت مؤسستها لدعوى قضائية، بسبب مزاعم احتيال، واعتقلت بعد ذلك بوقت قصير، ووفق وكالة مكافحة الفساد الحكومية؛ لم تدفع مستحقات المقاولين الذين زودوا، بما لا يقل عن 111.6 مليون ناير (229,000 جنيه إسترليني)، المؤسسة بسلع مثل السيارات والذرة والإمدادات الطبية، كما كانت بعض العقود الممنوحة وهمية.

وفي كانون الثاني (يناير)؛ سافرت إلى مايدوغوري، لمعرفة ما إذا كان بإمكاني زيارة وكيل في السجن؛ حيث قبعت هي ومدير البرامج بالمؤسسة والمدير القطري، وعلمت أنّ مسؤولي السجن سمحوا لها بالذهاب إلى المستشفى لتلقي العلاج من ارتفاع ضغط الدم، وفي المستشفى؛ أخبرتني وكيل بأنّها بريئة، وألقت اللوم على مدير البرامج الذي كان يتعاطى مع مسألة العقود (وشأنهم شأن وكيل، دفع كلّ من مدير البرامج والمدير القطري أيضاً بأنّهم غير مذنبين، وتأجلت المحاكمة حتى إشعار آخر، وما يزال المشتبه بهم الثلاثة رهن الاحتجاز).

اقرأ أيضاً: تركيا وغزو شمال أفريقيا

في غضون ذلك؛ أخبرتني وكيل أنّ عدد الأشخاص الذين انضموا إلى بوكو حرام قد تزايد، رغم ادّعاءات الجيش النيجيري عكس ذلك، كما تحصّلوا على أسلحة أكثر تعقيداً؛ صواريخ روسية مضادة للطائرات وقذائف هاون، كانت متداولة في شمال أفريقيا، منذ سقوط معمر القذافي في ليبيا، وكذلك طائرات بدون طيار، وكانت هناك كلّ الجماعات المنشقة عن بوكو حرام، وهو الأمر الذي جعل من الصعب على وكيل الربط بين هوية الفصائل وكلّ هجوم يقع.

رغم وجود قوة عمل متعددة الجنسيات من وحدات الجيش المدربة تدريباً خاصاً، ومزاعم متكررة من الرئيس النيجيري، محمدو بوهاري، بأنّ الجماعة قد "هزمت تقنياً"، لكنّ تمردها مستمر، وفي آذار (مارس)، بدأ الجيشان، التشادي والنيجيري، عملية هجومية كبيرة ضدّ بوكو حرام.

اقرأ أيضاً: معارض القذافي الذي احترف الإرهاب ونشره في أفريقيا

وفي وقت لاحق من ذلك الشهر؛ قتل 92 جندياً تشادياً في معركة استمرت سبع ساعات، وزعمت القوات التشادية أنّها قتلت ألف مسلح في مهمة بدأت في ذلك الشهر، وفي حزيران (يونيو)، نفّذ الجنود هجمات متعددة في شمال شرق نيجيريا، ما أسفر عن مقتل عشرات المدنيين.

من الصعب تحديد الرابح في هذه الحرب؛ لكنّ أولاد وكيل يموتون حتى قبل أن يستسلموا، فبعد يومين من مقتل علي غارغا، دعتني وكيل إلى غرفة نومها لمشاهدة مقاطع فيديو قديمة له، كان الوقت ليلاً، وجلست على لحاف وردي ناعم إلى جانب وكيل، ونظرت إلى الجهاز اللوحي بين يديها، وهناك، على الشاشة، رأيت غارغا وزوجته، وقد علقت بندقية على كتفها، كانوا يرقصون في حقل من الأشجار، وفي كلّ مكان أحاط بهم، رقص مجاهدون يحملون السيوف إلى جانب نسائهم، كتفاً إلى كتف، جيئة وذهاباً، وقد علت وجوه الجميع ابتسامات، وتحت السماء المشرقة رقصت بوكو حرام.

اقرأ أيضاً: كيف تبدو خريطة مشهد الحركات "الجهادية" في غرب أفريقيا؟

نظرت من فوق اللوح، ورأيت وكيل تبتسم وهي تراقب ابنها، وحينها تذكرت شيئاً أخبرتني به ذات مساء في مطبخها، لقد قالت إنّ كلّ ما تريده هو أن يستسلم أولادها حتى تتمكن من طهي "الإيسي إيوي" لهم، وتأكل معهم، كما كانت تفعل في الماضي.

مصدر الترجمة عن الإنجليزية:

شيكا عودة "الغارديان"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية