من المسؤول عن ارتفاع جرائم الإرهاب في ألمانيا؟

من المسؤول عن ارتفاع جرائم الإرهاب في ألمانيا؟


08/03/2020

ترجمة: علي نوار


أعاد هجوم هاناو العنصري ذكريات مريرة إلى أذهان الألمان، بطلها العنف من جانب المتشددين؛ إذ شهدت البلاد 198 جريمة قتل ذات دوافع عنصرية، منذ عام 1990، ويوجد في الوقت الحالي 12 ألفاً من النازيين الجدد يستعدّون لبدء أنشطتهم.

كان الأنجولي أماديو كيوا أول ضحايا عنف المتشددين؛ حيث اعتدى عليه النازيون الجدد بالضرب حتى مات

ففي 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 1990، أقدمت مجموعة من النازيين الجدد على الاعتداء بالضرب حتى الموت على الأنجولي أماديو كيوا، الذي كان أول ضحايا عنف المتشددين، منذ إعادة توحيد شطري ألمانيا، وكان اسمه رمزاً تداولته وسائل الإعلام المحلية؛ للتذكير بتصاعد ظاهرة ملعونة حصدت منذ ذلك الحين أرواح العشرات في ألمانيا، الذين فقدوا حياتهم نتيجة عنف اليمين المتشدد، وتصف السلطات الفيدرالية الأمنية الوقائع التي تشمل اعتداءات على الأجانب واليهود والمسلمين والمعارضين السياسيين وممثلي الدولة بـ "جريمة سياسية الدوافع".


وقد بدأ تسجيل الحوادث التي تحمل هذا التصنيف منذ عام 1990، وقد شهد عام 2018 وحده، ألف حادثة من هذا النوع، أسفرت عن مصرع 94 ضحية إجمالاً، بينما تتحدّث الصحافة عن 198 ضحية، في خضم تبادل الاتهامات؛ حيث دأبت وسائل الإعلام على اتهام السلطات بتعمّد إدراج هذه الاعتداءات ضمن تصنيف مغلوط.

اقرأ أيضاً: اليمين المتطرف: البعد الجديد لتصاعد الإرهاب في ألمانيا
وجاء الهجوم، الذي نفّذه توبياس راتين في هاناو، ليرفع الأرقام ويحدث حالة من الصدمة ويولّد مشاعر التعاطف داخل المجتمع الألماني، ويعتقد البعض أنّ ألمانيا قالت للمرة الأولى "كفى"، وخير دليل على ذلك هو موقف المستشارة أنجيلا ميركل، التي لم تُعبّر قطّ بهذه القوة عن تأكيدها بأنّ البلاد تواجه مشكلة مع التمييز، حيث خرجت ميركل في أعقاب مذبحة هاناو لتصرّح بأنّ "العنصرية سمّ، وهذا السمّ موجود بمجتمعنا وهو مسؤول عن الكثير من الجرائم".

تُقدّر أجهزة الاستخبارات الألمانية أنّ عدد جرائم العنف التي شنّتها جماعات يمينية متشددة ارتفع بنسبة 3% عام 2018

وللمرة الثالثة في غضون أشهر معدودة؛ تكشف كراهية اليمين المتشدد عن وجهها في ألمانيا؛ ففي حزيران (يونيو) من العام الماضي، اغتيل السياسي المحافظ فالتر لوبكه بسبب تضامنه مع اللاجئين، كما حاول يميني متشدد تنفيذ مذبحة بمعبد يهودي في مدينة هاله بعد الحادثة بفترة قصيرة، وذلك قبل أن يحلّ الدور على هاناو، ويشير تكرار الجرائم إلى ازدياد خطر إرهاب اليمين المتشدد، وتقدّر أجهزة الاستخبارات الألمانية أنّ عدد جرائم العنف التي شنّتها جماعات يمينية متشددة ارتفع بنسبة 3% في عام 2018، رغم أنّ وتيرة الهجمات ضدّ مراكز إيواء طالبي اللجوء تراجعت بصورة ملحوظة بعد تزايدها عامي 2015 و2016.
وتراقب أجهزة الأمن والاستخبارات الألمانية في الوقت الحالي 50 شخصاً على علاقة بتيار اليمين المتشدد، باعتبارهم "تهديداً لأمن الدولة"، وقد تضاعف هذا الرقم 5 مرات منذ عام 2012، كما حذّر جهاز الاستخبارات الألماني، في تقرير له نُشر في حزيران (يونيو) الماضي، من أنّ اليمين المتشدد أخذ دور الفكر الجهادي ليصبح الخطر الأعظم بالنسبة إلى ألمانيا، كاشفاً أنّ عدد اليمينيين المتشددين قفز، عام 2018، ليصل إلى 24 ألفاً و100 شخص، بزيادة قدرها 100 فرد، مقارنة بعام 2017، منهم 12 ألفاً و700 ربما يكونوا على أهبة الاستعداد لاستخدام العنف، أي ما يفوق نصف العدد، وبحسب هذا الجهاز، فإنّ البيانات تبعث على القلق البالغ، لا سيما مع "ارتفاع نسبة حاملي السلاح" بين المتشددين.

حزب "البديل لأجل ألمانيا"متهم بالتحريض على العنف وتقنين معاداة الأجانب في البرلمان
وفي محاولة من الحكومة لمجابهة هذه الكارثة؛ أعلن وزير الداخلية الألمانية، هورست زيهوفر، أنّ السلطات أصدرت بالفعل التعليمات الأولى للتعامل مع الحوادث الجديدة المحتملة من النوع نفسه، وصرّح زيهوفر: "سنرفع درجة المراقبة بالمنشآت الحساسة والمساجد على وجه الخصوص"، مضيفاً أنّ "الإجراء يشمل محطات السكك الحديدية والمطارات والمناطق الحدودية".
من جانبه، أعلن المكتب الفيدرالي للشرطة الجنائية بدء برنامج جديد لتقييم المخاطر، بهدف تحديد مدى خطورة اليمينيين المتشددين بدقة أكبر.

تكشف الدراسات أنّ العداء للأجانب ليس ظاهرة مستحدثة في ألمانيا وأنّ الأفكار العنصرية موجودة لدى 20% من الشعب

والعداء للأجانب ليس بظاهرة مستحدثة في ألمانيا، وهو ما تكشفه الدراسات المختلفة التي تبرز أنّ الأفكار العنصرية موجودة لدى 20% من الشعب، رغم أنّ لا أحد يريد الإقرار بذلك، وفي جميع الأحوال؛ فقد أعادت مذبحة هاناو إلى دائرة الضوء حزب "البديل لأجل ألمانيا"، المتهم بالتحريض على العنف وتقنين معاداة الأجانب في البرلمان بخطابه المعادي للهجرة، ويقول الأمين العام للحزب الديمقراطي الاجتماعي، لارس كلينجبايل: "نعيش مناخاً اجتماعياً تعرّض للتسميم منذ وقت طويل بسبب "البديل لأجل ألمانيا".
لكنّ زعيم الكتلة البرلمانية لـ "البديل لأجل ألمانيا"، في البوندستاج، ينفي هذا الاتهام، مؤكّداً: "كلّ ما نعرفه عن هاناو يشير إلى أنّه شخص مختلّ، أتفهّم فكرة الحاجة إلى وجود غرض سياسي من الحديث عن الإرهاب، وخصوصاً إرهاب اليمين"، لكنّ الردّ على هذا الحديث يأتي هذه المرة من قطاعات مختلفة في المجتمع الألماني؛ بتسبّب "البديل لأجل ألمانيا"، وحزب "وطنيون أوروبيون" ضدّ أسلمة أوروبا، "بجيدا" في خلق أجواء تعزّز العنصرية ومعاداة الأجانب في البلاد.

اقرأ أيضاً: اليمين الإسباني المتطرف يهدد بحرب عالمية ضد المسلمين
على أيّة حال، تغيّرت الأجواء المجتمعية في ألمانيا، وعادت الأفكار اليمينية المتشددة والمحظورة لعقود، لتجد قبولاً، ولا يمكن التقليل من مسؤولية الوسط السياسي حيال هذا الأمر.
ولكن؛ هل يتحمّل "البديل لأجل ألمانيا" المسؤولية كاملة وحده؟ وهنا يجب طرح سؤال؛ من أين تنبع الكراهية، أو "السمّ" الذي أشارت إليه ميركل وسياسيون آخرون؟ ما هي دوافع العنف العنصري في ألمانيا؟ تشير الاستطلاعات إلى أنّ 15 إلى 20% من الألمان يتبنّون أفكاراً عنصرية، بيد أنّ المرء لا يولد عنصرياً.

الآخر.. العدو
بعد هجوم هاناو، عادت أصابع الاتهام لترتفع مرة أخرى في وجه "البديل لأجل ألمانيا"، إلّا أنّ الحقيقة هي أنّ الحزب لا يهوّن فقط من شأن التيار القومي الاشتراكي؛ بل يحاول جعل الأفكار العنصرية شيئاً مقبولاً وقصر الدولة على فكرة العرق فحسب، ويسفر ذلك عن وضع الأشخاص الذين يدلّ اسمهم أو تدل هيئتهم على انحدارهم من أبوين أو جدّين من المهاجرين؛ في دائرة الهجوم الكلامي، أو معاملتهم بطريقة تنمّ عن الاحتقار.
وتقول زعيمة حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي، آنجريت كرامب كارنباور: إنّ "النظر للأشخاص على أنّهم أعداء، وإعلاء الذات، ومعاملة مواطنينا كما لو كانوا أجانب؛ هو سمّ ينتشر في أوصال مجتمعنا بصورة أعنف مع الوقت وقد يؤدّي في نهاية المطاف إلى مثل هذه الأعمال".
كما ألمح زعيم الحزب الليبرالي؛ كريستيان ليندنر، إلى وجود مناخ اجتماعي يرحّب بالعنف اليميني المتشدد، موضحاً؛ "هناك أجواء من الكراهية والعداء تجاه الأجانب، وكذلك الديمقراطيين، وهذا المناخ من شأنه أن يؤثّر في أفراد أو جماعات ويدفع لانتهاج العنف".
حانات النرجيلة تتعرّض للاستهداف
كان المكانان المستهدفان أثناء هجوم هاناو حانتين لتدخين النرجيلة، يرتادهما عادة شباب من أصول مهاجرة؛ حيث يقود "البديل لأجل ألمانيا"، منذ فترة، حملة ضدّ هذه الأماكن، وقد صادرت الشرطة في أكثر من مناسبة تبغاً مهرّباً بالحانات والمقاهي، في مدينة هيسن، في الولاية نفسها التي تقع فيها مدينة هاناو، ومن هذا المنطلق سعى الحزب اليميني المتشدد للربط بين هذه الحانات والجريمة.
ويعتقد النائب في البرلمان عن حزب اليسار؛ لورينتس جوستا بويتين، أنّ "البديل لأجل ألمانيا" ليس مسؤولاً وحده عن تصاعد وتيرة الإرهاب العنصري في البلاد، ويصرّ على أنّ سياسيين آخرين، بينهم وزير الداخلية هورست زيهوفر، كان لهم دور في تغذية مشاعر الخوف من الأجانب، سواء قبل أو أثناء أزمة اللاجئين، ويضيف بويتين "أناس مثله هم الذين زرعوا البذور الأولى للكراهية"، ضارباً المثل بما حدث عام 2011، حين قال زيهوفر: "كان ينبغي فعل كل شيء حتى آخر رصاصة للحيلولة دون وصول المهاجرين إلى المنظومة الاجتماعية الألمانية"، بعدها بـ 4 أعوام (عام 2015)، وصف الوزير مسألة الهجرة بـ "أمّ كلّ المشكلات".

اقرأ أيضاً: هل صعود اليمين المتطرف مرتبط حقاً بتنامي تيار الإرهاب؟
هل تعاني ألمانيا مشكلة؟ الحقيقة أنّ منظمة الأمم المتحدة والمجلس الأوروبي، يحذّران الحكومة الفيدرالية الألمانية ويناشدانها منذ أعوام باتخاذ المزيد من الإجراءات لمكافحة التمييز ومعاداة الأجانب والعنصرية؛ حيث دعت المفوضية الأوروبية لمكافحة العنصرية والتعصّب، عام 2014، السلطات الألمانية لإصلاح نظام العقوبات مثلما فعلت دول أخرى في الاتحاد الأوروبي؛ حيث يتضمّن القانون الألماني عقوبات مشدّدة ضدّ جرائم العنصرية.
وقد وجّهت المفوضية الأوروبية، انتقادات حادّة بسبب تفعيل نظام العقوبات في ألمانيا في حالة جرائم التحريض على الكراهية إذا كانت تهدّد السلم العام فقط، وهو أمر يصعب إثباته بالطبع، وفيما يتعلّق بـ "التحريض على الكراهية"، فالإفلات من العقاب شبه معمّم، بحسب تقرير المفوضية.


كما تعرّضت الشرطة الألمانية للانتقادات أيضاً، لا سيما بعد الكشف عن ممارسات منظمة إرهابية يمينية متشددة، تعرف باسم "الاشتراكيون الوطنيون تحت الأرض"، إلّا أنّ أجهزة الأمن استبعدت وجود دوافع عنصرية لدى المنظمة، وعام 2013؛ طلبت السلطات التركية من أجهزة الأمن الألمانية الاهتمام بهذا الملف، مراراً وتكراراً، خاصة بعد حوادث إشعال النار التي عانى منها أشخاص من أصول تركية، كذلك نما إلى علم المفوضية الأوروبية أنّ الشرطة الألمانية لم تولِ الأهمية، أو تباطأت، في الاستجابة لبلاغات حول حوادث ذات طابع عنصري أو معادٍ للأقليات.

اقرأ أيضاً: عنصرية اليمين المتطرف تتفجر في الملاعب
ويتّفق النائب البرلماني اليساري في البوندستاج، يان كورته، مع هذا الطرح، مؤكّداً أنّ "الحكومة الفيدرالية قلّلت لأعوام من تنامي خطورة اليمين المتشدد في ألمانيا"، وذكّر بأنّ "اتحادات الضحايا والمبادرات الأخرى المماثلة دقّت ناقوس الخطر في الأعوام المنصرمة حيال هذا الإرهاب، لكن تمّ تجاهل تحذيراتها، كما تُرك المحافظون والسياسيون المحليون بمفردهم".
العداء للأجانب ليس سمة أغلب الألمان
ومع أنّ الحكومة الفيدرالية أقرّت مؤخّراً سلسلة من القوانين لمكافحة الكراهية الآتية من اليمين والعنف المتزايد وإرهاب اليمين المتشدد، بل عزّزت الانتشار الأمني بعد مذبحة هاناو، ولكنْ هناك اعتقاد بأنّ برلين تأخّرت كثيراً في التحرّك.
على جانب آخر، وبعد حادثة هاناو، خرج الآلاف في توقيت متزامن بجميع أنحاء البلاد، احتجاجاً على ما آلت إليه الأوضاع، وصرّح الرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، من هاناو؛ بأنّ "سنقف متّحدين كمجتمع، لن ندع أحداً يخيفنا، لن نتخلّى عن بعضنا"، وهو ما قوبل بعاصفة من التصفيق؛ حيث تحدّث شتاينماير باسم أغلبية الألمان الذين لا يكنّون مشاعر العداء للأجانب ولا يحملون أفكاراً عنصرية.
ظاهرة البيانات قبيل الهجوم
عام 2011؛ شنّ النرويجي، أندرس بريفيك، هجوماً على معسكرين صيفيين للشبيبة الاشتراكية في ضواحي العاصمة أوسلو، راح ضحيته 77 قتيلاً أغلبهم من المراهقين، وقد كتب وقتها بياناً تداوله الإرهابيون من النازيين الجدد، بكثافة على مستوى العالم.

اقرأ أيضاً: هل يختلف اليمينيون عن الإسلامويين؟ وما علاقة التطرف بـ "الجوع الديني"؟
ومن الواضح أنّ إرهابيي اليمين المتشدد مهووسون للغاية بفكرة ترك بيانات قبل ارتكاب جرائمهم، وقد فعل توبياس راتين الشيء نفسه قبل إطلاقه النار على روّاد حانتَي النرجيلة في هاناو، وقد كانت له عدة كتابات، أبرزها ذلك الذي يقع في 24 صفحة، يكشف فيه أفكاره المعادية للأجانب، ويصف النرويجي اليميني المتشدد بـ "القديس" و"القائد"، ويشير ذلك إلى أنّ دعاة التفوّق العرقي في كافة أرجاء العالم يستقون إلهامهم من البيانات، التي تدور عبر غرف الدردشة المشفّرة على شبكة الإنترنت، والتي يرتادونها بشكل دوري، ويذكرون جميعاً اسم بريفيك.

عام 2011؛ شنّ النرويجي، أندرس بريفيك، هجوماً على معسكرين صيفيين للشبيبة الاشتراكية في ضواحي العاصمة أوسلو

ويعدّ بيان برنتون تارانت، الإرهابي الذي نفّذ هجوماً على مسجد النور في كرايستشيرش بنيوزلندا، في آذار (مارس) من العام الماضي، مثالاً حياً على مدى تأثير هذه البيانات، فقد وضع تارانت بياناً من 78 صفحة، عنونه بـ "الإحلال الكبير"، وأثنى به على عدد من إرهابيي اليمين المتشدد، بينهم: الأمريكي ديلان روف، والإيطالي لوكا ترايني، والسويدي أنطون لاندين بيترسون، والبريطاني دارين أوسبورن، لكنّ تارانت، البالغ من العمر 24 عاماً، يضع بريفيك في فئة عليا خاصة به، ويرتقي به إلى مرتبة الرمز والبطل المخلّد، وعندما أتى الحديث عند بريفيك، ساق تارانت سلسلة من المبرّرات للعنف السياسي، وقال إنّه بعد قراءة بيانات روف "وآخرين كثيرين"، توصّل إلى أنّ بريفيك هو "ملهمه الحقيقي" لارتكاب فعلته، لقد ترك الإرهابي الإسكندنافي أثراً بالغ العمق، لدرجة دفعت تارانت إلى تقليده وتنفيذ مذبحة أخرى.

اقرأ أيضاً: مخاوف في ألمانيا من اختراق اليمين المتشدد لأجهزة الاستخبارات قبيل الانتخابات
ففي 22 تموز (يوليو) 2011؛ أقدم بريفيك، وكان عمره وقتها 32 عاماً، على تفجير سيارة مفخّخة بحيّ ريجيرينجسكيارتاليت، حيث توجد مقار حكومية في أوسلو، وقد ألحق الانفجار أضراراً كبيرة بعدد من المباني وامتدّت ألسنة اللهب إلى مقر وزارة النفط والطاقة، بعدها توجّه بريفيك شمالاً؛ حيث معسكر شبيبة حزب العمال النرويجي الحاكم، والذين كانوا مجتمعين في لقائهم السنوي بجزيرة أوتويا، وهنا ارتدى الإرهابي زيّ ضابط شرطة، وطلب من جميع الموجودين التجمّع لإبلاغهم بإجراءات أمنية خاصة للحيلولة دون وقوع هجوم إرهابي، وحين شرع الشباب في التجمع بباحة المبنى الرئيس، فتح نيرانه من بندقية هجومية ومسدّس، وأزهق حياة العشرات؛ إما بالرصاص أو غرقاً أو سقوطاً من أعلى؛ حيث حاول بعضهم الفرار، وقد عوقب بريفيك، لاحقاً، بالسجن 21 عاماً.

اقرأ أيضاً: تصاعد اليمين المتطرف يزيد مخاوف المسلمين
وكان بريفيك، قبل هذه المذبحة، قد نشر عبر الإنترنت وثيقة بعنوان "2083: إعلان استقلال أوروبا"، ندّد فيها بـ "الماركسية الثقافية وهجرة المسلمين"؛ حيث كان على قناعة، طبقاً لما كتب، بأنّ ما سيفعله سيوقظ الأوروبيين ويدفعهم للانتباه إلى "شرور التعددية الثقافية"، وخلال محاكمته قال؛ إنّه هاجم مخيم الشباب الصيفي الذي حضره أبناء السياسيين الليبراليين النرويجيين "انتقاماً" من "فتح الحكومة النرويجية ذراعيها للمهاجرين المسلمين"، وأفكارها بتقبّل "الثقافات البعيدة للغاية عن الحسّ النرويجي والأوروبي بشكل عام".
ورأى بريفيك في تصريحاته؛ أنّ أوروبا حادت عن القواعد المجتمعية التي كانت سارية في حقبة الخمسينيات؛ حيث الأدوار المحدّدة لكلّ نوع، والتركيبة السكّانية المتجانسة، وللتعبير عن الأمر بصورة أوضح؛ دأب بريفيك على الإتيان بالتحية النازية، ورفع لافتة مكتوب عليها "هايل هتلر" لدى دخوله قاعة المحكمة.
ومنذ ذلك الحين؛ حصل بريفيك في جميع منتديات اليمينيين المتشددين، على لقب "القديس" أو "القائد"، ومنحه تارانت، على سبيل المثال، اسم "فارس العدالة والقائد الأعلى"، هكذا أصبح الإرهابي النرويجي قائداً، رغم أنّه لم يسبق له تزعّم أيّة مجموعة، ولم يفصح عن نواياه لأيّ شخص، لكنّه تحوّل إلى شيء أخطر؛ رمز وبطل وشهيد في أعين الأفراد والجماعات التي تقع في دائرة الأيديولوجيا النازية وتفوّق العرق الأبيض، خاصة أولئك الذين ينادون بانتهاج العنف ضدّ المهاجرين والمسلمين واليهود، وأيّ سياسي يظهر ميولاً ليبرالية أو يروّج للتعدّدية الثقافية واحترام العرقيات والأديان والطوائف الأخرى.

اقرأ أيضاً: من يخشى اليمين الأوروبي الجديد؟
لقد كانت أفكار بريفيك، التي لم يسبق أن ظهرت على الملأ بهذا الوضوح، بمثابة "الإطار" للقوميين البيض، الذين أيّدوا هذه الأيديولوجيا، أو لم يتقبلوا فكرة الحديث بشكل مضاد لها، على أقل تقدير، ووجدت هذه الأفكار مساحة من التقبّل داخل المجتمع النرويجي وقتها، قبل أن تظهر روافدها في دول أخرى، مثل المجر وإيطاليا وبولندا؛ حيث تبنّاها سياسيون شعبويون ينتقدون الهجرة ويعتنقون بصورة لا لبس فيها بعض أفكار بريفيك، الذي يُحمّل المهاجرين جميع الشرور الاجتماعية في أوروبا، باعتبار أنّهم يجلبون معهم الجريمة والإرهاب، وقد انتقلت هذه الأفكار بالفعل لتصيب آلاف الأشخاص، في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزلندا.
إثر التعرّف إليه؛ أقدم راتين على الانتحار بعد قتل والدته، وحين وصلت الشرطة لمنزله، بعد ساعات من الهجوم الذي ارتكبه، عثرت على الجثتَين والبيان الذي كتبه الإرهابي، فضلاً عن طيف "القديس" بريفيك!
كيف تزيد شبكة الإنترنت من خطر اليمين المتشدّد؟
يلعب الوسط الرقمي دوراً كبيراً في حالة المهاجمين، الذين يعملون بشكل فردي، وهي الظاهرة التي يُطلق عليها اسم "الذئاب المنفردة"، وتمتلك كلّ منصّة رقمية عوامل خاصة بها يستعملها اليمينيون المتشددون لتحقيق أهدافهم.
عنصرية خالصة ومتطرّفة، هذه هي الأفكار التي كان يروّج لها توبياس عبر الفضاء الإلكتروني، قبل أن يرتكب فعلته، وقد حفل بيانه ومقاطع الفيديو التي نشرها بنظريات المؤامرة، التي عثر عليها عبر الإنترنت، ثم أضاف إليها لاحقاً نظرياته الشخصية، وبالتالي أصبح الإرهابي أحد أفراد مجموعة الذئاب المنفردة، التي بات الإنترنت أحد العوامل المساهمة في تسريع وتيرة تشددهم.

اقرأ أيضاً: وثيقة سرية: اليمين المتطرف بألمانيا يتدرب على سيناريو الحرب الأهلية
وقد ذكر المكتب الفيدرالي الألماني لحماية الدستور، ضمن تحليل له، في مطلع عام 2019؛ أنّه تصعب السيطرة على الذئاب المنفردة، فكثيرون من هؤلاء يعتنقون الأفكار المتطرفة، بعيداً عن التجمّعات المعروفة، وهو الأمر الذي دفع هذه الجهة الاستخباراتية لتشكيل وحدة "استطلاع استكشافي" الصيف الماضي، تعمل بشكل رئيس على شبكات التواصل الاجتماعي؛ حيث تدرك السلطات أنّ خطر السقوط في براثن الأصولية وأنشطة اليمين المتشدد عبر الأثير الرقمي مرتفع للغاية.
يلعب الوسط الرقمي دوراً كبيراً في حالة المهاجمين، الذين يعملون بشكل فردي

اكتشف اليمين المتشدد الإنترنت مبكّراً
كانت هذه هي النتيجة التي توصّلت لها مؤسسة "أماديو أنطونيو"، في برلين، التي تنشط في مجال مكافحة التشدد اليميني؛ فبعد مراقبة لمدة عامين، قال رئيس وحدة البحث في المؤسسة، ميرو ديتريتش: "عن طريق شبكة عرض متشعّبة للغاية، يتم التوجّه نحو الفئات المستهدفة وتقديم العالم الرقمي البديل لهم".
وعلى الأرجح، بدأت جماعات اليمين المتشدد المسيرة منذ بدايتها؛ حيث تعرّفت عن طريق التجربة والخطأ على ماهية الموضوعات والوسائل لاستقطاب الناس إليهم، وربما جرت تجربة المنصّات الجديدة منذ بدء عملها فوراً، كما يُعتقد أنّ اليمينيين المتشددين جنوا مبالغ مالية طائلة، عن طريق الإعلانات على موقع يوتيوب، وكذلك من التبرعات والتمويل الجماعي، كما أنّ الإنترنت المظلم؛ حيث يمارس المستخدمون أنشطة غير اعتيادية، كان ساحة خالية لهم.

اقرأ أيضاً: هل حفّز حريق "نوتردام" من "كراهية الإسلام" عند اليمين الأوروبي المتطرف؟
وتكشف المؤسسة أنّ كلّ منصة تتضمّن عوامل تسهّل نشر الفكر الأصولي، ووفق التقرير؛ فإنّه في حالة "يوتيوب"، ورغم محاولة الشركة التصدّي لهذه العوامل عن طريق تغيير خوارزميتها، إلّا أنّ خاصية التشغيل التلقائي تقترح مقاطع فيديو كارثية.
أما خدمة المراسلة الفورية "تليغرام"، فتبلغ سعة غرف الدردشة فيها 200 ألف عضو بالحدّ الأقصى، بينما لا يتعدّى الحدّ الأقصى في غرف دردشة تطبيق "واتساب" الـ 256 مستخدماً، وتمنح هذه التطبيقات الفرصة للمتشددين كي يبحثوا عن مستخدمين جديدين من الواقع الحقيقي، وبالتالي استقطاب المزيد من الأفراد للجماعات المتطرفة.
وتُستخدم على شبكة "إنستغرام" وسوم بعينها، كي تصل الرسائل إلى شاشات جموع المستخدمين، وتوجد بالفعل مجموعات تحاول تصوير الحياة اليومية لشخص يميني متشدّد، والترويج لطريقته في التفكير والحياة، كما لو كانت "طبيعية تماماً"، عن طريق صور من حفلات أو أنشطة رياضية، بالمثل؛ يجرى تطوير منصّات خاصة لا وجود فيها للأصوات المعارضة، ويكتسب بعد الهوية هنا أهمية كبيرة؛ حيث ينظر كثيرون لأنفسهم في هذه المحافل، على أنّهم "صليبيون" يعملون من أجل إنقاذ "العالم الغربي".

اقرأ أيضاً: ما هي أوجه التشابه بين اليمين المتطرف وتنظيم داعش؟
وفي عالم يتّصل فيما بينه بهذه الدرجة العميقة، يسهل تداول مثل هذه الأفكار المسمومة، على غرار انقراض الألمان، وكلّما زاد تدفّق مثل هذه الرسائل، يتعاظم الشعور بالتهديد، وبمرور الوقت، تصبح الحلول المنتظرة أكثر تشدداً، وفي النهاية يؤدّي كلّ ذلك إلى الشعور باليأس.
وتتّسم شبكة الإنترنت بخاصية أخرى؛ وهي العولمة، حيث تدور الأحاديث بين أوساط المتشددين باللغة الإنجليزية، وفق ما توصلت إليه المؤسسة، كما أنّ الأعضاء يطلقون الأسماء الحركية على بعضهم، ويتعارفون فيما بينهم، لكن هناك أمراً بات معتاداً منذ الهجوم الذي نفّذه أندرس بريفيك، عام 2011، وهو ترك البيانات، بينما كانت تبثّ وقائع هجوم كرايستشيرش على الهواء مباشرة؛ "الهدف ليس قتل الناس في المقام الأول، بل الحصول على اهتمام وسائل الإعلام"، وفي هذا السياق، ورغم أنّ المهاجمين يحصلون على تصنيف "ذئاب منفردة"، إلّا أنّهم على تواصل وثيق في معركتهم ضدّ المجتمع.


مصادر الترجمة عن الإسبانية:
https://bit.ly/38jr3gS
https://bit.ly/2TgeiPW
https://bit.ly/2PHoUoN
https://bit.ly/2Tgn00M



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية