من هم المسيحيّون؟ رحلة عبر الطّوائف والانقسامات

من هم المسيحيّون؟ رحلة عبر الطّوائف والانقسامات

من هم المسيحيّون؟ رحلة عبر الطّوائف والانقسامات


29/04/2024

حسن إسميك

"المسيحي"، بأسط التعريفات، هو أي شخص يؤمن بأن يسوع الناصري هو "المسيح". لكن ماذا تعني هذه الكلمة، وما هي معاني هذا الإيمان، وهل كل الإيمان المسيحي واحد، ولماذا هناك طوائف مسيحية يصل عدد الرئيسية منها إلى نحو 30، فيما يقدر عدد الطوائف الفرعية بما يصل إلى 20 ألف طائفة؟!

حكاية اسم..

في فلسطين القديمة، زمن ولادة المسيح، لم تكن هناك لغة واحدة مستخدمة وحسب، بل درجت في الغالب ثلاث لغات، الآرامية كلغة عامية يتحدث بها معظم الناس في فلسطين، والعبرية في الصلوات والكتابة الرسمية، واليونانية مع الرومان أو بعض النخب المرتبطة بهم. وقد يكون هذا هو السبب الذي يجعل العودة إلى أصل اسم يسوع أو المسيح أو عيسى صعباً بعض الشيء، لكن في الغالب اسم "يسوع" الذي يستخدمه معظم المسيحيين العرب مشتق من اللغة الآرامية إلى اللغة العبرية وينطق "يشوع"، وهو اسم مركب من كلمتين "يهوه شوع" ومعناه الحرفي "الله يخلص". والذي يُترجم في العهد الجديد باليونانية Ιησους (أو Iēsous)، والتي منها نحصل على "إيسوس Iesus" اللاتينية و"جيسوس Jesus" الإنكليزية و"عيسى" العربية.

أما كلمة "المسيح" فهي أيضاً من أصل عبري (ماشيح מּשּׁיּח)/آرامي (مْشِيحْهَا ܡܫܺܝܚܳܐ)، وتعني الممسوح، فقد كان الملوك والكهنة والأنبياء يمسحون بزيت مقدس كعلامة على تكريسهم لله. ولقب "المسيح" كان يُشير إلى شخص مُختار من الله ليقوم بمهمة خاصة، وسنتوسع أكثر في شرح هذا المفهوم عند الحديث لاحقاً عن اليهودية. أما "كرايست Christ" الإنكليزية فهي مشتقة من الكلمة اليونانية خريستوس Хριστός ولها المعنى ذاته حرفياً "الممسوح". ووفقاً لأعمال الرسل 11: 26، كانت المرة الأولى التي دُعي فيها أولئك الذين آمنوا بيسوع "مسيحيين" في أنطاكية، المدينة السورية الناطقة حينها باليونانية، حوالي عام 40 م. أما قبل ذلك الوقت، وفي البيئة الناطقة بالآرامية في الشام، فكان يسوع يدعى "الناصري" لأنه ولد في الناصرة "أو الجليلي" لأن الناصرة تقع في الجليل، وفي تلك المنطقة قضى يسوع معظم حياته ووعظ الناس وعلّم أتباعه وأجرى المعجزات. أما أتباعه فدُعوا أولاً بالناصريين، أو أهل الطريق، وذلك بسبب اتّباعهم طريقاً مختلفاً عن اليهودية التقليدية.

لم تتأخر الخلافات في الظهور

كانت الجماعة المسيحية في ذلك الوقت كلاً واحداً لا انقسام فيه، يؤمن أفرادها بأن رجلاً جال في البلاد يدعو إلى المحبة، وعندما سُئل "أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ الْعُظْمَى فِي النَّامُوسِ" قال: «تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى. وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. بِهَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ النَّامُوسُ كُلُّهُ وَالأَنْبِيَاءُ» (متى 22: 35-40). لكن ما لبثت أن ظهرت خلافات بين أفراد تلك الجماعة، مع توسعها وانتشارها وازدياد عدد مريديها، وتأثرها بأفكار شتّى، بعضها قديم استُحضِر، وبعضها جديد مُستحدث. 

أول اختلاف كان حول العلاقة مع الناموس اليهودي، هل المسيحية استكمال للناموس أم ثورة عليه، وإذا كان المسيح قد قال أنا ما جئت لأنقذ بل لأتمم، فلماذا يبقى الناقص بوجود التام؟ ثم تجدد الاختلاف بين أولئك الذين عدّوا المسيح نبياً عظيماً أو صانع معجزات أو معلماً أو مصلحاً دينياً، وبين من آمنوا بأنه أكثر من ذلك، وأن له علاقة فريدة مع الله، لدرجة يمكن فيها اعتباره ابن الله، ومخلص العالم، حتى خلع عليه بعضهم ألقاباً تجعله "مساوياً لله" في القداسة أو حتى في الطبيعة.

وبدأت أسئلة كثيرة بالظهور: كيف يمكن أن يكون يسوع إنساناً وإلهاً في الوقت نفسه؟ كيف يمكن أن يكون الله ثلاثة أقانيم؟ وكيف يمكن للمسيحيين الاستمرار في الإيمان بالتوحيد (الإيمان بإله واحد فقط) بينما يعلنون أن يسوع (والروح القدس) "إله" مثل الآب؟ وهل العذراء مريم هي "أم المسيح" أم "أم الإله"؟

تجادل المسيحيون واختلفوا وانقسموا حول هذه الأسئلة طوال معظم الألفي سنة الماضية. أدى ذلك إلى ظهور عدد مذهل من الجماعات والكنائس والطوائف المسيحية المختلفة في العالم اليوم  والتي يعد جمعها وتصنيفها في مكان واحد ضرباً من المستحيل، سواء أكان تصنيفها زمنياً بحسب تواريخ الانقسامات أو تأسيس مجموعات جديدة، أو حتى بناءً على المعتقد والانتماء اللاهوتي. 

وتُعرف مجموعات الطوائف التي تشترك في معتقدات وممارسات وروابط تاريخية متشابهة على نطاق واسع باسم "فروع المسيحية" أو "العائلات المذهبية"، فاستخدام كلمة "طائفة" ليس مفضلاً بالعموم، حتى الكنائس الصغيرة والجديدة فإنها تستبدله بمصطلحات أخرى مثل الاتفاقية أو الشركة أو التجمع أو المنزل أو الاتحاد أو الشبكة، أو أحياناً الزمالة. 

في المبدأ، تشكّل الطائفة المسيحية جسماً دينياً متميزاً داخل المسيحية، له خصائص فريدة مثل الاسم والتنظيم والعقيدة. أما الانقسامات بين الطوائف، فتُحدَّد في المقام الأول من خلال السلطة والعقيدة، إذ تلعب القضايا المتعلقة بطبيعة يسوع، والتثليث، والخلاص، وسلطة الخلافة الرسولية، وعلم الأمور الأخيرة، والمجمعية، والسيادة البابوية والأولوية البابوية، وغيرها، دوراً رئيساً في فصل طائفة عن أخرى.

ينطبق هذا النمط من التقسيم انطباقاً أساسياً وواضحاً على الكنائس الكبرى، وفروعها الرئيسة، فالجميع قادر على التمييز – بالحد الأدنى على الأقل – بين الكاثوليك والأرثوذكس، وبينهم وبين البروتستانت أيضاً، لكن في المقابل بتنا نجد اليوم بعض الكنائس، ومعظمها من المجموعات التي تندرج تحت/ أو تنبثق من المظلة البروتستانتية، وبات التمييز في ما بينها أمراً شاقاً بالفعل، إذ لم يعد تأسيس "كنيستك الخاصة" أمراً صعباً، وقد لا تجد خلافاً دينياً جوهرياً بين هذه الجماعة أو تلك، إلا أن لكل منها كياناً منفصلاً بحكم الجغرافيا أو المؤسس أو بعض العوامل الأخرى.

خلال سرد التاريخ المسيحي، المتضمن في المقالات السابقة، تطرقت –وأحياناً بالتفصيل – إلى بعض الطوائف المسيحية، وكيف نشأت ونمت وتطورت، وربما عادت لتنقسم بدورها إلى طوائف وكنائس جديدة. لكن لا بدَّ من إعادة استعراض سريعة، ترسم بالكامل شجرة العائلة المسيحية، وتعرض ما تم إغفاله – لضرورة السرد التاريخي – من كنائس شرقية أو غربية، لتكون الصورة مكتملة وواضحة وشاملة.

كنائس كبرى وأخرى فرعية

إذاً، نشأت الجماعة المسيحية الأولى على امتداد القرن الميلادي الأول، ويقسمها البعض إلى ثلاث مجموعات، هي:

المسيحيون اليهود، اعتقد هؤلاء اليهود أن يسوع هو المسيح المنتظر، لكنهم حافظوا على احترام الشريعة اليهودية وممارساتها مثل (الختان، وتحريم لحم الخنزير مثلاً). قاد هذه المجموعة بطرس تلميذ المسيح ويعقوب المعروف بـ"البارّ" الذي كان أول رئيس لكنيسة القدس، ولعب دوراً كبيراً في قيادتها، بخاصة بعد مغادرة بطرس إلى دمشق ومنها إلى أوروبا.

الغنوصية: والكلمة بداية منقولة عن الوصف اليوناني γνωστικός (غنوستسكوس) والذي يعني "ذوو المعرفة"، وهي حركة دينية وفلسفية نشأت في القرن الأول الميلادي، وضمت مجموعات دينية مختلفة مثل (الفالانتينيين والشيثيين)، وليس واضحاً تماماً هل كانت مسيحية أم تأثرت فقط بالمسيحية، الأكيد أنها تضمنت أيضاً أفكاراً من الفلسفة اليونانية والديانات الشرقية الأخرى.

اندثرت هاتان المجموعتان المسيحيتان تماماً عبر الزمن، ويقال إن بعض الأفكار الغنوصية استمرت في الظهور في حركات دينية أخرى مثل المانوية والمندائية.

أما ما وَصَلَنا من المسيحية، فأجد من الجائز تسميته بـ"المسيحية البولْسية" نسبة إلى بولس الرسول الذي يعود إليه الفضل في عولمة الدين المسيحي، ونشره خارج دائرة اليهود، وإحداث القطع بين الديانة الجديدة من جهة، وتعاليم الناموس القديم والكثير من ممارساته وفروضه من جهة ثانية.

استمرت الكنيسة المسيحية "البولسية" واحدة تنمو كدين متماسك وواضح المعالم حتى عام 325م والذي عقد فيه مجمع نيقية، ولم يسبقه حدث مميز إلا "إعلان ميلانو" عام 313 الذي تحدثت عنه في مقالة سابقة، وفي هذا الإعلان تم الاعتراف للمرة الأولى بالمسيحية كدين في الإمبراطورية الرومانية، لتنتهي بذلك فترة الاضطهاد التي عاناها المسيحيون على امتداد نحو قرنين من الزمن.

المسيحية النيقاوية

في مجمع نيقية، الذي عقده الإمبراطور قسطنطين العظيم، وجمع فيه كل الأساقفة المسيحيين، كان الهدف أن يتم تحديد ماهية الدين المسيحي بشكل منظم ومُجمع عليه، وبالفعل أُنتج ما يعرف اليوم بـ"قانون الإيمان النيقي"، والذي ما زال سواد المسيحيين الأعظم يعترف به. لكن تحقيق الإجماع لم يكن أمراً سهلاً، فقد اعترضت على نتائج نيقية مجموعة قادها آريوس، الكاهن السكندري الذي اعتقد بأن يسوع مخلوق من الله، على عكس المجتمعين في نيقية بقيادة ألكسندروس الأول، بابا الإسكندرية، الذين قالوا بأن يسوع هو "ابن الله الأزلي"، وأن طبيعته هي طبيعة الله ذاتها.

 لفترة من الزمن عاشت المسيحية النيقاوية والآريوسية جنباً إلى جنب، لكن الكنيسة حاربت آريوس وأتباعه، واعتبرت مذهبه "بدعة"، ومع الوقت اندثرت الآريوسية، وبقيت النيقية هي المسيحية الوحيدة، وفي عام 380م وإثر مرسوم "تسالونيكي" الذي أصدره الإمبراطور ثيودوسيوس الأول، صارت الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية، ومنها تأسست كل الطوائف والكنائس.

بعد مجمع نيقية انعقد مجمع القسطنطينية 381م، لكن المجمع الأهم كان مجمع أفسس 431م والذي أدى لأول انقسام كبير في المسيحية النيقاويّة، التي صارت هي المسيحية الوحيدة، حيث انشقت عنها النسطورية، نسبة إلى نسطور والتي سُميت "كنيسة الشرق" وكانت الكنيسة الرسمية للإمبراطورية الساسانية. تمثلها اليوم كنيسة المشرق الآشورية، والتي شهدت بدورها انقساماً عام 1552 تشكلت على أساسه الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية التي تتبع للبابوية في روما، وكرسيها البطريركي في بغداد وإليها تنتمي الغالبية العظمى من مسيحيي العراق.

المسيحية الخلقيدونية

المجمع الرابع كان مجمع خلقيدونية 451م، وقد تحدثت عنه بالتفصيل في مقالة سابقة عن الكنائس الشرقية، وفيه حصل انقسام كبير آخر، هذه المرة انفصلت الكنائس الأرثوذكسية المشرقية عن الخط العام للكنيسة، وباتت تُعرف بالكنائس اللاخلقيدونية أو الـ "مونوفيزية Monophysite" (أي تؤمن بطبيعة واحدة في المسيح). 

بالتوازي ظهر مصطلح الـ"بنتاركي Pentarchy" وتعني البطريركيات الخمس (بنتا تعني خمسة، وآركي تعني يحكم في اليونانية). فقد ظهرت مع الوقت خمس مدن كانت هي المراكز الأهم للمسيحية وكنائسها الأبرز، وهي: القدس، أنطاكية، الإسكندرية، القسطنطينية، وروما، لكل منها قائد يُعرف بالبطريرك (وتعني الأب)، لذلك عرفت كل واحدة منها باسم "بطريركية".

بطريركيتا أنطاكية في سوريا والإسكندرية في مصر، شهدتا انقساماً نتيجة مجمع خلقيدونية، فتشكلت الكنيسة السريانية الأرثوذكسية من الأولى، والكنيسة القبطية الأرثوذكسية من الثانية، وانضمت إليهما لاحقاً الكنيسة الرسولية الأرمنية. واستمر الوضع هكذا إلى القرن العشرين، إذ انضمت إلى هذه الكنائس اللاخلقيدونية كنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإثيوبية (استقلت عن الكنيسة القبطية عام 1959، وهي اليوم الأكبر بين هذه الكنائس ويتبع لها نحو 40 مليون مسيحي)، وكنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإريترية، والكنيسة الهندية الأرثوذكسية، بالإضافة لكنائس فرعية تتبع لهم.

أما من أيد مجمع خلقيدونية من مسيحيي أنطاكية والإسكندرية، فدعيو بـ"الملكيين" لأنهم كانوا على رأي الإمبراطور الروماني الخلقيدوني.

مع وصولنا إلى منتصف القرن السابع الميلادي بدأت تتراجع قوة كنائس القدس وأنطاكية والإسكندرية وأهميتها، بخاصة مع ظهور الإسلام، ووقوع هذه المدن تحت حكم المسلمين. وبقيت القسطنطينية وروما في صدارة المشهد المسيحي، وبدأت تتنامى بينهما أشكال من صراع القوى أو تنازع السلطة، وقد ناقشت هذا الخلاف بالتفصيل في مقالة سابقة عندما تحدثت عن "الانشقاق العظيم" الذي قسم الكنيسة إلى شرقية وغربية عام 1054م.

بين القسطنطينية وروما

طبعاً يمكن القول إن الكنيستين تأسستا عام 1054م، فجذور كل منهما تعود إلى بداية المسيحية ذاتها، وحتى جذور الانقسام وإرهاصاته كانت قبل هذا العام الذي يمثّل التاريخ الرسمي الذي أعلنت فيه الكنيستان الانفصال التام، كل واحدة عن الأخرى.

كلتا الكنيستين ترى نفسها واحدة موحدة. الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية التي تعتبر نفسها واحدة، لكن في الحقيقة يمكن تقسيمها إلى 15 كنيسة متساوية في المكانة الدينية، ولا يعلو رئيس كهنة (بطريرك) أياً من هذه الكنائس على الآخر، ما عدا الرتبة الرمزية لأسقف القسطنطينية (البطريرك المسكوني)، وهي تجعله – كما أشرت في مقالة سابقة – الأول بين متساوين لا أكثر.

تأسست الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية في الأصل من أربع من البطريركيات الخمس (القدس، أنطاكية، الإسكندرية والقسطنطينية)، بالإضافة إلى بطريركية قبرص، التي لطالما اعتبرت كنيسة مستقلة. ومع الوقت أضيفت كنائس أخرى جديدة. 

الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية

أما عن الكنيسة في الغرب، أو الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، فهي تدّعي أيضاً أنها واحدة غير منقسمة، لكن في الحقيقة، عندما يجري حديث حول الكنيسة الكاثوليكية الغربية، يكون المقصود هو الكنيسة اللاتينية، وهي أكبر كنيسة خاصة مستقلة داخل الكنيسة الكاثوليكية، ويشكل أعضاؤها الغالبية العظمى من 1.3 مليار مسيحي في شراكة مع البابا في روما. وحتى قبل الانقسام العظيم، كان من الشائع الإشارة إلى المسيحيين الغربيين باسم اللاتين على النقيض من البيزنطيين أو اليونانيين.

الكنيسة اللاتينية هي واحدة من 24 كنيسة مستقلة ذاتياً في شراكة مع البابا؛ ويشار إلى الـ23 الأخرى مجتمعة باسم الكنائس الكاثوليكية الشرقية، وتضم مجتمعة ما يقرب من 18 مليون عضو، تعمل مستقلةً، لكنها تعلن تبعيتها لبابوية روما. معظم هذه الكنائس انفصلت عن كنيستها الأم الأرثوذكسية، وانضوت تحت مظلة الكاثوليكية، مثل الكنيسة الكلدانية، كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك، السريانية الكاثوليكية القبطية الكاثوليكية، الأرمنية الكاثوليكية، الأوكرانية الكاثوليكية (وهي أكبر الكنائس الكاثوليكية الشرقية وتضم نحو 5 ملايين مسيحي). بالإضافة إلى المارونية، نسبة إلى مار مارون الناسك والكاهن الذي عاش وعلم في شمال سوريا خلال القرن الرابع الميلادي. برز الموارنة كجماعة رهبانية ثم طائفة دينية اتفقت مع الملكيين الإنطاكيين على مجمع خلقيدونية مع المحافظة على التراث السرياني خلافاً لسائر الملكيين الذين اندمجوا في التراث البيزنطي كلياً. والكنيسة المارونية جزء من الكنيسة الكاثوليكية وتقر بسيادة بابا الفاتيكان عليها. يعيش حوالي ثلث الموارنة في لبنان وينتشرون أيضاً في سوريا والأردن وفي فرنسا والولايات المتحدة والبرازيل والمكسيك وأستراليا ودول الخليج وغرب أفريقيا.

على عكس الكنائس الأرثوذكسية المقسمة جغرافياً، والتي لا قائد أعلى لها، للكنيسة الكاثوليكية رأس واحد مقره في دولة الفاتيكان، هو حالياً البابا فرنسيس، فهو هو رئيس الكنيسة الكاثوليكية، وأسقف روما ورئيس دولة مدينة الفاتيكان. وهو البابا الوحيد الذي ولد ونشأ خارج أوروبا منذ بابوية القرن الثامن (البابا السوري غريغوريوس الثالث).

يتألف التسلسل الهرمي للكنيسة الكاثوليكية من الرتب التالية:

1. الكرادلة: هم مستشارو البابا ومساعدوه.

2. البطاركة: هم رؤساء الكنائس الكاثوليكية الشرقية.

3. الأساقفة: هم رؤساء الأبرشيات، أو الكاتدرائيات الموزعة جغرافياً حول العالم.

4. الكهنة: هم الذين يخدمون الجماعات الكاثوليكية كل واحد في رعيته وضمن كنيسته المحلية.

5. الشمامسة: هم الذين يساعدون الكهنة في الخدمات الدينية.

الإصلاح البروتستانتي 1517-1648

أدى الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر إلى انفصال البروتستانتية، فتجزأت المسيحية الغربية، إلى الفروع البروتستانتية للكنيسة اللاتينية، وهنا يبدأ التعقيد والتداخل، وسأحاول قدر الإمكان عرضها بالشكل الأبسط، لذلك سيقتصر هذا العرض على الكنائس البروتستانتية التي كانت قائمة لحظة توقيع صلح وستڤاليا. أما الحديث عن الكنائس البروتستانتية الأخرى فسأتركه إلى وقت لاحق.

رغم شهرة مارتن لوثر، وارتباط الإصلاح به بالدرجة الأولى، إلا أن الإصلاح الديني المسيحي كان عبارة عن مجموعة مختلفة من الحركات، ظهرت في أماكن مختلفة وفي أوقات مختلفة في أوروبا، لكن يمكن القول بالعموم إن الإصلاح أسس لثلاثة فروع أساسية من البروتستانتية: اللوثرية، الأنغليكانية، والإصلاحية، وكلها أوجدت كنائس كبرى على مستوى الدول، تشاركت السلطة مع الحكام المدنيين، وقد رأينا ذلك واضحاً في إنكلترا مثلاً زمن الحروب الدينية.

كانت ساكسونيا أولى المقاطعات الألمانية التي تبنت اللوثرية ومعها هيس، وبحلول عام 1530 كانت اللوثرية هي الدين الرسمي لأكثر من نصف ألمانيا. وخلال الثلاثينات من ذلك القرن، انضمت 3 دول إسكندنافية إلى اللوثرية (الدنمارك والنروج والسويد)، وقطعت الصلات مع بابوية روما، وأنشأت ما يعرف بكنيسة الدولة، أي أنها الكنيسة الأعلى في تلك الدولة ولا تتبع إلى أي مركزية دينية خارج البلد ذاته.

إلى الكنيسة اللوثرية الألمانية، بالإضافة إلى بعض الإصلاحيين، ترجع الكنيسة الإنجيلية في ألمانيا (EDK) أو ببساطة البروتستانتية، طبعاً بعد تاريخ من الانقسام والاندماج، بخاصة زمن هتلر والنازية. كما أسست البعثات التبشيرية التي أرسلتها الكنيسة السويدية عام 1959 الكنيسة الإنجيلية الإثيوبية. ومن هذه الكنائس اللوثرية الأربع، تأسست اللوثرية في الولايات المتحدة الأميركية، ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر، أما أكبر تجمعين للوثريين في أميركا حالياً فهما "الكنيسة اللوثرية – سينودس ميسوري"، والكنيسة الإنجيلية اللوثرية في أميركا.

بالانتقال إلى الأنغليكانيين، ورغم أن كثيرين لا يرون أنهم تابعون للبروتستانتية، بل هم كنيسة وسطية بين الكاثوليكية والبروتستانتية، إلا أن انشقاق هذه الكنيسة عن البابوية عام 1534م، تزامن مع الحركة التي بدأها لوثر وكالفن في أماكن أخرى من القارة، وما كان ليتم لولاها.

الفرع الرئيس من هذه الكنيسة، كان وما زال، كنيسة إنكلترا، ولا يرأسها رجل دين، بل من يجلس على عرش بريطانيا، أي يرأسها حالياً الملك تشارلز الثالث. وعندما انشقت هذه الكنيسة عن البابوية، كان ملك إنكلترا ملكاً على إيرلندا أيضاً، لكن على عكس إنكلترا كان الإيرلنديون موالين للبابا فتحولت بعض الكنائس إلى البروتستانتية، مع بقاء بعض الأبرشيات كاثوليكية. في إيرلندا اليوم أربع كنائس: الكاثوليكية، وكنيسة إيرلندا (الأنغليكانية)، والكنيستان المشيخية والميثودية (اللتان تنضويان ضمن العائلة البروتستانتية). هناك أيضاً عدد من الطوائف المسيحية الأصغر. ولنا عودة للحديث عن إيرلندا بالذات في أجزاء أخرى من هذه السلسلة، بخاصة أنها من الدول القليلة في أوروبا التي شهدت صراعات دينية في العصر الحديث.

 ومع اتساع رقعة الإمبراطورية البريطانية، وسيطرتها على مستعمرات كثيرة حول العالم، نقل الإنكليز كنيستهم معهم، وباتت كل كنيسة منشأة في المستعمرات، تعد فرعاً للكنيسة الأنغليكانية، في أميركا وأستراليا وكندا، وفي نيجيريا وأوغندا، ومع الوقت استقلت كنائس المستعمرات وأصبحت منفصلة عن كنيسة إنكلترا، واليوم هناك نحو 42 كنيسة مستقلة تشكل مع بعضها "الطائفة" الأنغليكانية.

أما الإصلاحيون، وهم أتباع اللاهوتي الفرنسي جون كالفن، أو الكالفينيون، ورغم أنهم انطلقوا بالأصل من سويسرا، إلا أن المكان الأكثر تأثيراً على كنيستهم كان هولندا، حيث تأسست كنيسة هولندا الإصلاحية عام 1571، ومنها انتقلت إلى أماكن أخرى كجنوب أفريقيا على سبيل المثال، وإليها، بالإضافة إلى بعض اللوثريين، ترجع الكنيسة اللوثرية في هولندا اليوم.

في فرنسا دُعي البروتستانتيون بالـ"هوغونوت" وظلوا أقلية، ومضطهدة في كثير من الأحيان. أما في إسكتلندا، ورغم أنها تابعة للتاج البريطاني، إلا أنها اختارت طريقاً مختلفاً تماماً، حيث قادها لاهوتي يدعى جون نوكس إلى اعتناق الكالفينية، بالإضافة إلى نوع من الحكم الديني-المدني تقوم فيه مجموعة من الشيوخ باتخاذ القرارات، وهكذا بات هذا الفرع من الإصلاحية يعرف بالمشيخية. انتقلت الكنيسة المشيخية إلى أجزاء أخرى من العالم، بما في ذلك إنكلترا وإيرلندا وكندا والولايات المتحدة. وإليها ينتمي رؤساء أميركيون كثر في مقدمتهم جورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدة.

هذه كانت الطوائف أو الفروع أو الكنائس المسيحية التي كانت موجودة لحظة توقيع صلح وستڤاليا، في أوروبا وفي بقية أنحاء العالم، القديم والجديد. ومع أنها لم تكن جميعها جزءاً من هذا الصلح، لكن كان لا بد من المرور عليها كلها لرسم صورة شاملة عن الكنيسة المسيحية، فتلك المعاهدات التي وقعت عام 1648، أنهت الحروب الدينية في أوروبا، وآذنت بعصر جديد لا سلطة فيه تعلو سلطة الدولة، كما شكلت نقطة علام لم تشهد بعدها المسيحية أي انقسامات كبرى أو جوهرية، وكل ما تلالها هو تأسيس كنائس جديدة، بعضها ضمن الطائفة الواحدة، وبعضها مستقل، ومعظمها مقره اليوم في الولايات المتحدة، التي بات فيها تأسيس كنيستك الخاصة أمراً من السهولة بمكان.

ورغم أن العصر الحديث لم يشهد حروباً دينية مسيحية بضراوة حروب ما بعد الإصلاح نفسها، إلا أنه لا بد من المرور على بعض الكنائس الجديدة الناشئة، وكذلك على بعض الأحداث المهمة، لنرى حال المسيحية كدين في العالم، وكمؤسسة كانت تربطها علاقات وثيقة بالدول والسياسة.

إذاً، تاريخ المسيحية منذ معاهدة وستڤاليا، وحتى التاريخ المعاصر، موضوع الجزء القادم من سلسلتنا عن المسيحية..

يتبع!

عن "النهار" العربي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية