دولة جماعات الإسلام السياسي المستحيلة.. لماذا؟

دولة جماعات الإسلام السياسي المستحيلة.. لماذا؟

دولة جماعات الإسلام السياسي المستحيلة.. لماذا؟


05/05/2022

لعلّه من الجائز أن نقول: إنّ المسألة السياسية وعلاقتها بالإسلام هي المسألة الأساس التي تسيطر على الإنتاج العربي الحديث، بشقّيه الإسلامي والعلماني؛ فمنذ ما يسمى النهضة العربية، والمفكرون المسلمون، في شتى توجهاتهم الفكرية، يبحثون عن حلّ لإشكال السياسة الحديثة، واتخذ هذا البحث عدة صور، منها: التوفيق بين الدولة الحديثة والإسلام، أو القول إنّ الإسلام لم يدعُ إلى دولة، وهي أمر من أمور التدبير الإنساني، أو عبر محاولة أخذ منتج الحداثة السياسية (الذي تمثل الدولة أحد تجلياته الأساس)، وتفعيله في سياق إسلامي – قيمي، ورغم شتى هذه المقاربات العربية؛ فإنّ البحث العربي لم يتعمق في بحث سبل تشكلات هذه الدولة الحديثة من جهة، أو استكشاف إمكانات التراث الإسلامي وما يحمله من تجربة لنظام الحكم فيه على المستوى النظري والعملي؛ بل كان البحث متجهاً، أو لنقل موجّهاً، نحو نتيجة مسبقة غير منطوقة في البحث نفسه.

المسألة السياسية وعلاقتها بالإسلام تسيطر على الإنتاج العربي الحديث بشقّيه الإسلامي والعلماني

ومن هنا تأتي الأهمية الكبيرة لكتاب الدكتور وائل حلاق "الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي" (الصادر بالإنجليزية، العام ٢٠١٢، وظهر بالعربية أواخر العام ٢٠١٤، بترجمة د. عمرو عثمان، وسوف أعتمد عليها في هذه المراجعة)، ورغم الوقت الذي ظهر فيه الكتاب بعد ما يسمى "الربيع العربي"، والانحسار المصاحب للإسلاميين في مصر وغيرها من الدول العربية، فالكتاب، على خلاف ما يبدو، غير معنيّ حصراً بالأوضاع الإسلامية الراهنة في علاقتها بالدولة الحديثة، إنما بكشف الأصول المشكلة لكل من الدولة الحديثة، كدولة مركزية تستولي على الأخلاقي والسياسي-الاقتصادي من جهة، وباستكشاف الأصول المكونة للشريعة الإسلامية كنطاق أخلاقي شكلت بنية التراث الإسلامي في التعاطي مع مسائل كنظام الحكم والتشريع والفتوى، إلى غيرها من هذه المسائل.

كتاب الدكتور وائل حلاق "الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي"

يجدر بنا الانتباه، عند قراءة هذا الكتاب إلى أنّ حلاق، أستاذ الدراسات الإسلامية سابقاً بجامعة ماجديل، لا يتعلق نقاشه بموضوع سياسي، بقدر ما هو يبحث، تاريخياً وفكرياً، في الأسس التي شكلت الدولة الحديثة وبنيتها الميتافيزيقية الحديثة، وما هو مختلف بنيوياً، مع نموذج "الحكم الإسلامي" كما يراه حلاق، وبالتالي؛ فلا علاقة مباشرة بأطروحة الكتاب باهتمام سياسي معين، إنّما هو بالأساس اهتمام وتوجه معرفي تجاه موضوع إشكالي، يهمّ الباحثين والعلماء في مجال ما يدعى "الدراسات الإسلامية"، غرباً وشرقاً، وهذا الاهتمام الذي أولاه حلاق لموضوعة الدولة نابع من اشتغاله على مدى عقدين ونيف بالشريعة والفقه الإسلامي، وكان لا بدّ له من اختبار علاقة الدولة الحديثة، بما هي كذلك، والدولة العربية الحديثة ما بعد الكولونيالية أيضاً، بالشريعة وإعادة التشكيل التي أحدثتها الدولة على الشريعة.

يقيم حلاق كتابه على فرضية أساسية في مقدمة الكتاب، لينطلق منها كفرضية كلية مدللاً عليها، عن طريق حقلي الفلسفة الأخلاقية والسياسية بشكل أساسي، في كتابه ذي الفصول السبعة، التي تستكشف نطاقات الدولة الحديثة ونطاقات الشريعة، والصورة الكلية لهذه الفرضية، كما كتب في المقدمة؛ بأنّ "أطروحة هذا الكتاب بالغة البساطة: مفهوم "الدولة الإسلامية" مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة" (ص ١٩).

يبحث الكتاب في الأسس التي شكلت الدولة الحديثة وبنيتها الميتافيزيقية واختلافها بنيوياً مع نموذج "الحكم الإسلامي"


لكنّ الإشكالي في مفهوم "الدولة الإسلامية" ليس كونها إسلامية، إنّما لأنّها دولة حديثة بالذات؛ بمعنى أنّ التناقض الذي ينطوي عليه هذا المفهوم، مفهوم "الدولة الإسلامية" أعني، هو تناقض لكونه يتصور الدولة كياناً مفرغاً، يمكن أن يملأ بأيّ توجّه فكريّ من خارجه؛ بل الأمر، وكما يجادل حلاق، أنّ للدولة الحديثة صفات أساسية، ومن دونها لا تكون دولة، وهذه الصفات هي صفات مختلفة جذرية عن نموذج "الحكم الإسلامي"، وسوف نعود لهذا المصطلح كما يستخدمه حلاق، الذي عرفته التجربة الإسلامية السياسية حتى مطلع القرن التاسع عشر؛ أي قبل الكولونيالية الغربية، وهيمنتها على الشعوب والحكم الإسلامي حينها، مما جعلها تقوم بجلب نموذج حكم مختلف على هذه البلاد، نموذج الدولة الحديثة، وأيضاً بتغييرها ومكافحتها الدائمة لما تعنيه "الشريعة"، ممّا أدّى لتبديل دورها القيمي الاجتماعي الذي يتخذ من مفهوم "الأمة" نطاقاً أساسياً لعمله، ويستند، ميتافيزيقياً، على الأخلاق بمرتكزها الإلهي.

يجادل وائل حلاق، أستاذ الإنسانيات والدراسات الإسلامية حالياً في جامعة كولومبيا بنيويورك؛ بأنّ الدولة الحديثة لها "نطاق مركزي"(central domain) ، وهو مفهوم أخذه من كارل شيميت، يرتكز على ميتافيزيقا حديثة مختلفة عن "النطاق المركزي" للشريعة؛ حيث إنّ عصر التنوير وفلسفة الأخلاق الذاتية الحديثة بما وفرته من نزعة فردية وقطيعة مع الميتافيزيقا القديمة التي تستند على مفاهيم الخير والفضيلة، أسّس لفصل ما بين "ما ينبغي أن يكون"، و"بين ما هو كائن"، وهذا، بحسب حلاق، فصل بين القيمة وبُعدها المتعالي، مما سيفصل الأخلاق عن الدين، وينشئ، من ثم، ذاتاً نرجسية متشظية، ويسيطر عليها نزوع الهيمنة على الطبيعة والإنسان.

وهكذا، فالقانوني سيغدو مفصولاً عن الأخلاقي، لأنّه، بصورة أساسية، يعمل على ما هو كائن لا على ما ينبغي أن يكون، وهذا على عكس ما كان في التراث الإسلامي حيث: "في التراث الإسلامي قبل الحديث وخطاباته، بما في ذلك القرآن (وهو النصّ المؤسس بالطبع) لم ينظر إلى القانوني والأخلاقي باعتبارهما مقولتين منقسمتين، فقد كان "ما هو كائن"، و"ما ينبغي أن يكون"، والحقيقة والقيم الشيء الواحد ذاته، ولم يكن التمييز قائماً بأيّة طريقة من الطرق التي اتخذناها في العالم الحديث، كما أنّ هذا التمييز لم يوجد في أوروبا قبل عصر التنوير" (ص ١٦٢).

وائل حلاق، أستاذ الإنسانيات والدراسات الإسلامية حالياً في جامعة كولومبيا بنيويورك

إذاً؛ المدخل الذي يعتمد عليه صاحب "الدولة المستحيلة" هو مدخل أخلاقي بامتياز، ومقاربته لنموذج الدولة الحديثة الذي يُراد أسلمته بوصفه نموذجاً ممكن الأسلمة، هي مقاربة تقول إنّ "النطاق المركزي" للشريعة نتاج أخلاقي بالأساس، وإنّ "النطاق المركزي" للشرط الحديث هو نطاق يعاني من أزمات بنيوية؛ لأنه مفتقد للأساس الأخلاقي الذي يوفر الحياة الخيرة للذات الإنسانية.

وبما أنّ النقاش حول الدولة، فلا عجب أن يخصص حلاق الفصل الثاني برمّته للدولة الحديثة (ص ٥٧- ٨٥). وفي هذا الفصل؛ يجادل وائل حلاق بأنّ المنظورات التي أبدعها المفكرون والمنظرون الغربيون عن الدولة الحديثة، والتي "تعادل عدد المفكرين المرموقين الذين يكتبون عنها" (ص ٥٩)، هي تنوعات في المنظور.
ومن ثم، يشتغل حلاق على ثنائية طريفة هي ثنائية الشكل والمضمون، حيث يقول: "أعتبر المضمون متغيراً، أو مجموعة من المتغيرات، والشكل مكوناً من بنى أو خصائص أساسية امتلكتها الدولة في الواقع لمئة عام على الأقل، ولا يمكن من دونها تصورها كدولة قطّ، كونها أساسية" (ص ٦٠).

"استحالة" الدولة الإسلامية التي يسعى إليها الإسلام السياسي هي استحالة بنيوية

وبالتالي، يطرح حلاق خمس صفات شكلية للدولة الحديثة، يجد أنّها تعنيها حصراً بما هي دولة، وهذه الخمس صفات هي: أولاً: الطبيعة التاريخية للدولة، ثانياً: امتلاك السيادة وميتافيزيقا السيادة، ثالثاً: القيام بعملية التشريع والقانون والعنف، رابعاً: امتلاكها لجهاز بيروقراطي عقلاني، خامساً: هيمنتها الثقافية أو تسييسها للثقافي، وتتميز صفات حلاق الخمس بأنّها تجمع خلاصة ما أنتجه المفكرون والفلاسفة السياسيون غربياً؛ حيث يمكننا القول إنّ الصفات الخمس هذه مستخلصة من غرامشي وفوكو (الهيمنة مثلاً)، وكلسن (القانون)، وماكس فيبر (العنف).

ومن ثم، فالدولة الحديثة، بما هي دولة، لها خصائص بنيوية، أشبه بخصائص متعالية، وهي بمثابة الشرط لها، وما المحتوى الأيديولوجي، سواء أكان ليبرالياً أو ماركسياً أو إسلامياً، ...إلخ، سوى شيء لاحق لتشكّلها كدولة، وإن فقدت الدولة الحديثة هذه الخصائص الشكلية، تفقد ذاتها، وتتحول إلى فوضى، دون سيد، ودون آمر متعالٍ، ودون بيروقراطية تحكم نسق العلاقات الإجرائية بداخلها، صحيح أنّ هذه الخصائص التي تحكمها ليست متعالية بمعنى أنها متجاوزة، ومن ثم فهي خصائص لاتاريخية؛ فـ"تاريخ الدولة هو الدولة؛ إذ إنّه لا يوجد في الدولة ما يمكن أن يهرب من الزمنية"، كما يقول حلاق (ص ٦٦).

وبناء على هذه الصفات الشكلية/ الجوهرية للدولة الحديثة، يرى حلاق أنّ هذه الصفات صفات مختلفة جوهرياً عن نموذج الحكم الذي عايشه المسلمون لمدة اثني عشر قرناً قبل الاستعمار، ومن ثم، يقول: إنّ مفهوم الدولة" (state) لم يعرفه التراث الإسلامي"، ويفضل، صاحب كتاب "الشريعة"، والأعمال المبرزة عن الفقه الإسلامي، استعمال مصطلح "الحكم الإسلامي". ويبرر حلاق هذا بقوله في الفصل الثالث: "لم يكن ثمة دولة إسلامية قطّ؛ فالدولة شيء حديث، وعندما أقول "حديث"، فأنا لا أشير إلى فترة زمنية معينة في موضع معين من مسار التاريخ الإنساني، فالحديث هو بنية معينة من العلاقات التي تتميز كظاهرة فريدة، إنه [أي الحديث] خاصية معينة؛ لذلك، فإن اللجوء إلى استعمالات مثل "الدولة الإسلامية -ككيان وجد في التاريخ- ليس انخراطاً في تفكير ينطوي على مفارقة تاريخية فحسب؛ بل ينطوي كذلك على سوء فهم للاختلافات البنيوية والنوعية بين الدولة الحديثة و"أسلافها"، خصوصاً ما سميته "الحكم الإسلامي" (ص ١٠٥).

مفهوم "الدولة الإسلامية" مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي بحسب أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة

لكن، ما هي "الاختلافات البنيوية والنوعية بين الدولة الحديثة وأسلافها؟" وإذا كان نموذج "الحكم الإسلامي" مختلفاً جذرياً، كما يجادل حلاق، عن "الدولة الحديثة"، فما هي طبيعة هذه الاختلافات؟ هل هي طبيعة تاريخية؟ أم هي طبيعة أخلاقية-ميتافيزيقية؟

لقد خصّص حلاق بالفعل جزءاً كبيراً، أو لنقل الجزء الأكبر من الكتاب للردّ على هذا السؤال في كتابه؛ حيث يرى أنّ الشريعة، بمعناها الأعم والواسع، هي التي كانت تشكل نطاقات الاجتماع البشري بين المسلمين، وأنّ السيادة لم تكن للدولة، أو للمشرّع القانوني، إنما كانت لله، ولله وحده؛ ذلك أنّ التراث الإسلامي لم يكن يعرف المعنى بمعناها السيادي الحديث، إنّما الدولة في واقع هذا التراث ليست سوى منظم شكلي لحاجيات المسلمين، وكان الأمر موكولاً إلى المجتمع الذي تحكمه الشريعة بقانونها الأخلاقي، ومن ثم، فحتى تفعل الشريعة في سياق ما، لا بدّ أن يكون هذا السياق أخلاقياً بشكل أساس، وإلا فقدت الشريعة معناها، كما يقول حلاق.

صحيح أنّ هناك انحرافاً سياسياً حصل في التراث الإسلامي على مستوى نموذج الحكم، لكنّه عدّ انحرافاً، وليس "ما ينبغي أن يكون" من ناحية، ومن ناحية أخرى؛ فإنّ هذا كان على مستوى الحكم السياسي، ولم يكن على مستوى المجتمع، الذي لم تكن الدولة تشكل له معنى كبيراً، بالنسبة إلى وضعنا الحالي، وأيضاً، وكما يصف حلاق، كان الاجتماع البشري في التراث الإسلامي لا يعتمد على هيمنة الدولة على المجتمع، كما هو حال الدولة الحديثة، بل كان المجتمع مستقلاً بعلمائه وعلومه ومدارسه ومصارفه عن الدولة؛ بل إنّ الشريعة كانت حماية للمقهورين إذا ما وقع جور من الدولة على أحد ما.

 

القانون الذي يراد أن تقنن الشريعة داخله حديث يتنافى والأصل الأخلاقي في الشريعة الذي ركز عليه حلاق

وبصورة مختصرة؛ يحاجج حلاق، في الفصلين الثالث والرابع، بأنّ الشريعة أسست لنموذج أخلاقي، وكل الممارسات والأفعال والتصورات انطلقت من هذا النموذج، وينطوي النموذج الأخلاقي للشريعة على مرتكز ميتافيزيقي بإفراد الله بالسيادة الكاملة، وأنّ معنى وجودنا في العالم هو أخلاقي، وليس نفعياً بالأساس، ومن ثم؛ لم يكن لأحد، مهما كان، أن يتحكم في الشريعة بهذا المعنى الكلي؛ حيث إنّ الشريعة: "باعتبارها ممثلة لإرادة الله السيادية، تنظم الشريعة مجال النظام الإنساني بأكمله، إمّا بصورة مباشرة، أو من خلال تفويض محدد جيداً ومحدود، وفي حين تتحكم الدولة الحديثة بمؤسساتها الدينية وتنظمها، مخضعة إياها لإرادتها القانونية؛ فإنّ الشريعة تتحكم بالمنظومة الكاملة من المؤسسات العلمانية وتنظمها، وإذا كانت هذه المؤسسات علمانية، أو تتعامل مع ما هو علماني؛ فهي تقوم بذلك في إطار الإرادة الأخلاقية الرقابية الشاملة التي هي الشريعة؛ لذلك فإن أي شكل سياسي أو مؤسسة سياسية (أو اجتماعية أو اقتصادية)، بما فيها السلطات التنفيذية والقضائية، هي في النهاية خاضعة للشريعة. ومن جهة أخرى؛ فإنّ الشريعة نفسها هي "السلطة التشريعية" بامتياز. [….] ولا توجد مراجعة قضائية في الإسلام، ولذلك لا يستطيع القضاء المشاركة في التشريع بصورة مباشرة" (ص ١١١).

ولا ينبغي للقارئ أن يفهم من هذا الكلام لحلاق أنّه مع دعوات مثل "تقنين الشريعة"، فهذا القانون الذي يراد أن تقنن الشريعة داخله هو قانون حديث يتنافى والأصل الأخلاقي في الشريعة الذي يريد حلاق أن يبرزه ويؤكده عليه؛ بل ويوضح كيف أنه هو من صاغ الإنتاج والذات والمجال الإسلامي، فغاية ما يريد حلاق أن يوضحه هو سؤاله الذي طرحه: "كيف حكم المسلمون أنفسهم لمدة اثني عشر قرناً؟".

أما الفصل الخامس؛ فيركّز فيه حلاق على نقطة طريفة، طالما ناقشها فلاسفة ومفكرون سياسيون من قبل، ألا وهي إنتاج الدولة الحديثة لرعاياها، ومرتكزاً على ميشيل فوكو، يستخدم حلاق مفهوم "تقنيات الذات "(technologies of the self)، وهي جملة الأمور التي توجه الذات أخلاقياً في هذا العالم؛ حيث يرى حلاق أنّ لا أرضية للتلاقي بين نموذج إنتاج الرعايا للدولة الحديثة ونموذج الحكم الإسلامي لذلك؛ فالحكم الإسلامي لم يعرف كمية الرقابة التي تقوم بها الأخيرة، كما أنّ الذوات لم يكونوا أبناء الدولة، أو تنتجهم الدولة؛ إنما الدولة هي من جاءت لهم، على خلاف الدولة الحديثة التي يكون الفرد نتاجها. ومن ثمّ، فالدولة الحديثة، على عكس ما يشاع، هي دولة فدائية، تجند الأفراد وفق مبدئها السيادي الكلي، في سبيل الزود عنها، كما أنها تنتج ذاتاً متشظية غير أخلاقية محكومة بميتافيزيقا دنيوية، لا يوجد موجّه خارجي لها، بل كلها موجهات داخلية.

ما العمل الآن؟ إذا كان ما من تلاقٍ بين الأرضية الأخلاقية للإسلام وأخلاق الدولة الحديثة، إذا صحّ التعبير، وإذا كان هناك تحول جذري في مفهوم السيادة (sovereignty) ؛ حيث يرتكز على بعد ميتافيزيقي غير أخلاقي، وهو مفهوم ضبطي بالأساس للدولة الحديثة على القانون والذوات والاجتماع والسياسة، ما هو الحلّ للمسلمين اليوم؟

يخلص القارئ إلى أنّ استحالة الدولة الإسلامية التي يسعى إليها الإسلام السياسي هي استحالة بنيوية

في الفصل الأخير، يناشد حلاق علماء المسلمين ومفكري الإسلام الذين يريدون نظاماً يحمل رؤيتهم للعالم أن يتضامنوا مع العلماء والفلاسفة الغربيين الذين يهتمون بموضوعة الأخلاق لتصويب نقد جذري للدولة الحديثة، ليس فقط، بل وللشرط الحديث بأكمله، ولا بدّ من هيمنة للنطاق المركزي للأخلاقي على النطاق المركزي للسياسي، بمعناه الحديث الذي نعاصره؛ فـ"كلّ هذه الأصوات -الإسلامية والمسيحية، الشرقية والغربية- تتفاعل مع الظرف الأخلاقي نفسه، مهما اختلفت مفرداتها ومصطلحاتها، هكذا، يبقى السؤال الأهم هو: هل يمكن لتلك القوى من جميع الجهات أن تتسامى على تمحورها الإثني حول نفسها، وتوحّد جهدها في مساءلة المشروع الحديث ودولته؟ […] وهل يمكن لهم جميعاً، غربيين وغير غربيين، تفكيك أسطورة صراع الحضارات المؤذية؟ وهل يمكن لهم مضاعفة قوتهم الأخلاقية لتحقيق نصر يؤسس الأخلاقي كنطاق مركزي لثقافات العالم، بصرف النظر عن التنوعات "الحضارية"؟ فكما أنه لا يمكن أن يكون هناك حكم إسلامي من دون هذا النصر، لا يمكن أن يكون هناك أيّ نصر أصلاً من دون أن تستفيق الحداثة أخلاقياً، وهذا ما لم يحدث"، هكذا يدعو حلاق في نهاية الكتاب.

يتضح من مداخلة حلاق ذات الأبعاد المختلفة على خط دراسة الدولة وعلاقتها بالإسلام السياسي المعاصر، هذه المداخلة المشفوعة بالفلسفة والأخلاق والبعيدة عن السياسة العملية، أقول: يتضح أنّ "استحالة" الدولة الإسلامية التي يسعى إليها الإسلام السياسي هي استحالة بنيوية، أي استحالة غير ممكنة تاريخياً من جهة، ومن جهة أخرى؛ فهي تقع في تناقض ومفارقة قائمة على تسييس التقليد والشريعة، الأمر المفقود في كتاب حلاق، لإنفاذ أيديولوجيا هجينة تتوسل بأدوات متناقضة لقيام دولة هي فعلاً مستحيلة الحدوث.

مواضيع ذات صلة:

علاء حميد: العلمانية العربية ردّ فعل على تغوّل الإسلام السياسي

في غياب السؤال النظري لدى الإسلام السياسي

هل ساهمت العلمانية في بروز الإسلام السياسي؟

الصفحة الرئيسية