التوّتر بين الولايات المتحدة وإيران.. الأسباب والإستراتيجيات

التوّتر بين الولايات المتحدة وإيران.. الأسباب والإستراتيجيات


27/11/2019

ترجمة: علي نوار


تفاقمت حدة التوتر بين الولايات المتحدة وإيران حين قرّرت إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الخروج من الاتفاق النووي عام 2018 وعاودت فرض عقوبات اقتصادية وكثّفت انتشارها العسكري في إقليم الشرق الأوسط، ضمن حزمة من الإستراتيجيات يُطلق عليها "الضغط الأقصى". وتُعتبر العقوبات الاقتصادية وسائل مبدئية في سبيل تحقيق الأهداف، لكن المؤسسة الأكبر التي تقع في مرمى بصر واشنطن وحلفائها الإقليميين هي الذراع العسكري التي تلعب دوراً رئيساً في جميع المعادلات الإقليمية.

بهزاد نبوي: 60% من ثروة البلاد في أيدي مؤسّسات لا تخضع لرقابة الوزارات أو البرلمان بل لها صلات بالحرس الثوري

بدأت الولايات المتحدة فرض العقوبات من جانب واحد على إيران منذ العام 1979، لكن إدراج قطاع من القوات المسلحة لدولة ضمن القائمة السوداء للمنظمات الإرهابية هو حدث غير مسبوق. وتبع وضع أقوى جهة عسكرية في القوات المسلحة الإيرانية- الحرس الثوري- ضمن هذه القائمة في تعامل إيران بالمثل وتصنيفها قوات المنطقة المركزية الأمريكية (سينتكوم) في قائمتها للمنظمات الإرهابية.

تسعى الولايات المتحدة للتعامل مع عسكرة إيران بوسائل عدة، إلا أنّ مقاومة إيران لذلك الأمر يرفع من مخاطر نشوب مواجهة مسلحة. ويقع مركز التوتر في المجال البحري بالخليج ومضيق هرمز، وهما لا غنى عنهما من أجل نقل السلع ومنتجات الطاقة، فضلاً عن الزجّ بأطراف أخرى في الأزمة مثل؛ العراق وسوريا واليمن؛ حيث تلعب قوات الحرس الثوري الإيراني دوراً.

بدأت الولايات المتحدة فرض العقوبات من جانب واحد على إيران منذ العام 1979

الحرس الثوري.. القبضة الحديدية لإيران

في أعقاب انتصار الثورة الإيرانية- التي يُطلق عليها أيضاً الثورة الإسلامية في العام 1979، تبلورت فكرة إنشاء جيش ثوري. وبالفعل تأسّس الحرس الثوري الإيراني مع بداية الحرب مع العراق العام 1980 وكان يتكوّن من متطوعين ثوريين في مواجهة ما أسموه "التهديدات الإمبريالية". وبعد انتهاء الحرب العام 1988، جعل الوضع الخاص للحرس الثوري كقوات موالية لزعماء الثورة هذه القوات جيشاً موازياً ومكمّلاً للجيش النظامي، لكن مع مساحة أوسع من المناورة سمحت له بتعزيز وضعه سياسياً واقتصادياً في البلاد.

يعتقد البعض أنّ غزو أفغانستان ثم العراق لاحقاً دفعا إيران أكثر فأكثر نحو انتهاج "سياسة الردع"

ونتيجة لدخوله مجال الإنشاءات مستعيناً ببعض شركات المقاولات، استفاد الحرس الثوري الإيراني اقتصادياً بحيث بات قادراً على تمويل نفسه. ويقدّر الناشط الإصلاحي، بهزاد نبوي، أنّ 60% من ثروة البلاد في أيدي مؤسّسات لا تخضع لرقابة الوزارات أو البرلمان، لكن لديها صلات وطيدة بالحرس الثوري.

وقد منحت الأنشطة الاقتصادية لـ"الحكومة الموازية" مثل إدارة عدد من معامل الأبحاث والتطوير للأغراض المدنية والعسكرية، الحرس الثوري قدراً من استقلالية الموازنة عن حكومات الجمهورية الإسلامية. فعلى سبيل المثال، تبلغ الموازنة الرسمية لجميع أفرع القوات المسلحة في إيران على الورق 6300 مليون دولار سنوياً، وهي ليست الأضخم على مستوى الشرق الأوسط، إلّا أنّ الرقم الحقيقي ربّما يتجاوز ذلك المبلغ بكثير.

اقرأ أيضاً: احتجاجات إيران والعراق ولبنان تندّد بـ "الزعامات الفاسدة": كلن يعني كلهم

وكانت إحدى أهم نتائج هذا الوضع هو ظهور صراع على النفوذ بين فصائل الدولة؛ وبالأساس بين المحافظين التقليديين المقرّبين إلى الحرس الثوري من جانب والإصلاحيين الذين يتطلّعون إلى إنهاء الأنشطة الاقتصادية لهذه القوات وإخضاعها لعملية خصخصة لأنّهم يرون أنّها "غير مسؤولة عن أنشطتها وحالات الفساد". وفي جميع الحالات لا وجود لثنائية متوازنة، كما أنّ القوات المسلحة وخصوصاً الحرس الثوري في وضعية أفضلية ولديها صلاحيات واسعة في صياغة السياسات الإقليمية.

اقرأ أيضاً: هتلر وإيران.. وجهان لعملة واحدة

منذ اقتحام السفارة الأمريكية في طهران عام 1979 لا توجد علاقات رسمية. ثم بدأت إستراتيجيات البلدين في التصادم بشكل مباشر عقب وصول الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش إلى البيت الأبيض. وفي هذا الصدد هناك عدة آراء؛ فبعض المحلّلين يؤكّدون أنّ وجود القوات الأمريكية في المنطقة كان محاولة للتصدّي لـ"تطلّعات الصين وروسيا"، بينما يعتقد البعض أنّ غزو أفغانستان ثم العراق لاحقاً دفعا إيران أكثر فأكثر نحو انتهاج "سياسة الردع". كما أنّ العداء المشترك بين إيران وإسرائيل كان سبباً آخر لتوتّر العلاقات الأمريكية الإيرانية، لا سيما وأنّ "إسرائيل حليف مقرّب من الولايات المتحدة، تعزّز معها تحالفاً لحماية أمن الأولى ومواجهة إيران في المنطقة"، وفقاً للمعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي في الولايات المتحدة.

لا يبدو بدء عملية المفاوضات أمراً يسيراً فقد اشترط روحاني قبل لقاء ترامب رفع الأخير للعقوبات

وتصف الولايات المتحدة وحلفاؤها الإقليميون أنشطة الحرس الثوري الإيراني بـ"تهديد لأمن المنطقة وراعية للإرهاب"، بينما يدّعي الحرس الثوري أنّ الهدف الوحيد والأخير هو "التحوّل لنموذج للنضال ضد الإمبريالية وإنقاذ القدس من النظام الصهيوني" وإعادتها للفلسطينيين. وبناء عليه تم تشكيل قوات خاصة من الحرس الثوري باسم (فيلق القدس). وإزاء تصاعد وتيرة التهديدات التي أطلقها مسؤولون عسكريون إيرانيون رفيعو المستوى وكذلك المرشد الأعلى علي خامنئي حول وجود إسرائيل، ضغطت تل أبيب على واشنطن كي تزيد الأخيرة الضغط على القدرات النووية لإيران.

وتكمن قوة الحرس الثوري الناعمة في تقديم مساعدات مالية ولوجستية لـ"محور المقاومة"، وهو الاسم الذي يُطلق على الحركات المسلّحة الموالية لإيران بالمنطقة، وبعضها تُصنّف "إرهابية" من قبل الولايات المتحدة. وبعث الحرس الثوري في أكثر من مناسبة مساعدات وأسهم في إعادة إعمار المناطق المتضرّرة بالعراق ولبنان. وعلى سبيل المثال وإثر اندلاع الحرب بين حزب الله اللبناني والجيش الإسرائيلي عام 2006، قدّم الحرس الثوري يد العون للحزب اللبناني شبه العسكري في بناء جنوب بيروت.

ويدافع الحرس الثوري عن علاقات التعاون هذه ويقول إنّها لـ "أغراض نبيلة، حيث ساعدت إيران في إعادة بناء المدارس والمساجد والكنائس في لبنان"، وفقًا لوكالة أنباء (فارس نيوز) الناطقة بلسان هذه المؤسسة العسكرية. ورغم كل ذلك، إلّا أنّ هذه الأنشطة أحدثت حالة من الانقسام في العالم العربي، خصوصاً في المناطق التي تحاول السعودية- أحد الخصوم الإقليميين لإيران أيضاً- تأكيد نفوذها. وتبرز طهران أنّ لديها وجوداً في سوريا والعراق فقط "بناء على طلب حكومتي البلدين" وأنّ التدريبات التي منحتها للعسكريين هناك كان لها أثر بالغ في الحرب ضد تنظيم "داعش"، على الجانب الآخر توجّه الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية اتهاماتهما للجمهورية الإسلامية بتمهيد الطريق لـ"الطائفية والأنشطة الهدّامة التي تهدّد الأمن الدولي".

اقرأ أيضاً: بين مرشدين اثنين.. كيف يتشابه الإخوان وإيران؟

وليس سراً أنّ إيران تطمح في أن تصبح قوة عسكرية على مستوى الشرق الأوسط. فعلى مدار أعوام، نجح الحرس الثوري في تطوير أسلحة وطائرات بدون طيار (درونز) وصواريخ تغطّي الشرق الأوسط وامتلاك "قوة ردع". لذا فإنّ الولايات المتحدة على الأرجح لا تمتلك القدرات العسكرية الكافية للتدخّل في إيران.

أما تطوير صواريخ باليستية فهو ملفّ آخر مثير للجدل لا يتوقّف عن إثارة الصراعات. فقد حظرت منظمة الأمم المتحدة عام 2007 على إيران تصنيع وإطلاق صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية. فيما تنفي طهران امتلاكها صواريخ من هذا النوع.

اقرأ أيضاً: "لوفيجارو": العراقيون يكرهون إيران ومليشياتها دمرت بغداد

بوصول محمود أحمدي نجاد، المُقرّب من الحرس الثوري، إلى رئاسة إيران عام 2005 والكشف عن البرنامج النووي السري لإيران، بدأت مرحلة جديدة من العقوبات الدولية. استمرّت الضغوط حتى 2015 وانتهت بتوقيع اتفاق نووي بين حكومة الإصلاحي حسن روحاني والقوى العظمى. إلّا أنّ إدارة الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب غيّرت قواعد اللعبة بإعلانها أنّها ضاقت ذرعاً بالتهديدات المستمرة لأمن إسرائيل والتدخّلات العسكرية الإيرانية وخطر حصول الحرس الثوري على "قنبلة نووية في غضون أعوام". أدّى ذلك لإدراج الحرس الثوري ضمن قائمة المنظّمات الإرهابية وتوقيع عقوبات اقتصادية عليه، في إطار سياسة واشنطن بفرض حصار اقتصادي-عسكري وتشديد الضغط وتضييق الخناق. وتأمل الولايات المتحدة في أن تجبر سياستها إيران على توقيع اتفاق آخر يشمل ممارساتها الإقليمية، لكن هناك فرضيات وتصوّرات ينبغي مراجعتها بقدر كبير من التمحيص.

استراتيجيات وسيناريوهات

قرّر ترامب قبل نحو عام خروج الولايات المتحدة من الاتفاق الموقّع عام 2015 ما أثار استياء روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والاتحاد الأوروبي وأطراف أخرى مشاركة في الاتفاق. ولم تفلح الدعوات المتكرّرة لمنظمة الأمم المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية في إثناء الولايات المتحدة عن هذه الخطوة. ومن الواضح أنّ دونالد ترامب يستهدف إبرام اتفاق جديد مع إيران يتضمّن المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط. بالتالي تشمل إستراتيجية "الضغط الأقصى" كل إجراء، بما فيها الخيارات العسكرية، يردع إيران ويقنعها بـ "تغيير سلوكياتها جذرياً".

توجّه أمريكا اتهاماتهما لإيران بتمهيد الطريق للطائفية والأنشطة الهدّامة التي تهدّد الأمن الدولي

وبالفعل طالب وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، عام 2018 بـ12 شرطاً للبدء في مناقشة اتفاق نووي جديد مع إيران، ويغلب على هذه المتطلبّات التركيز على أنشطة الحرس الثوري الإيراني وتدخلات طهران في العراق وسوريا واليمن ولبنان. وقد كان للعقوبات المفروضة على القطاعات الأساسية بالنسبة للاقتصاد الإيراني مثل النفط والصناعات الثقيلة أثر سلبي بالغ على الناتج المحلي الإيراني وعملتها، ما أجبر الحكومة الإيرانية على تبنّي سياسة اقتصاد المقاومة في مواجهة ما اعتبرته "إرهاباً اقتصادياً".

وبالتوازي مع العقوبات الاقتصادية، انتهجت واشنطن استراتيجية إضافية لفرض حصار سياسي-عسكري على الجمهورية الإسلامية. في المقابل تحاول دول الصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا اتباع إجراءات من شأنها تخفيف حدّة التوتّر والإبقاء على قنوات تواصل مفتوحة. ويُنظر لامتناع دول أوروبية عديدة عن الانخراط في العملية البحرية الأمريكية بالخليج والاجتماعات بين الخماسي المذكور وبين إيران، على أنّها محاولات لتشجيع الحوار وإيجاد طرق للتعاون رغم جهود الولايات المتحدة لعرقلة هذه المساعي.

وقد اتّبعت واشنطن استراتيجيات مختلفة للتعامل مع الحرس الثوري الإيراني مثل فرض حظر مشدّد وضغوط اقتصادية وسياسية وعسكرية، على رأسها إدراج الحرس الثوري ضمن القائمة الأمريكية للمنظمات الإرهابية، وتشديد الضغط على طهران كي توقف عمليات تخصيب اليورانيوم ووقف أنشطتها النووية بشكل لا رجعة فيه والتخلّي عن جميع تطلّعاتها النووية والتوقّف عن ممارساتها.

وتعتقد الولايات المتحدة أنّ الضغط الاقتصادي لن يكون كافياً وحده لتحقيق النتيجة المرجوّة فيما يتعلّق بسلوكيات إيران، لذا تلجأ للضغط العسكري مثل إرسال قطع بحرية وقاذفات إلى الخليج.

اقرأ أيضاً: في العراق.. لماذا يرفض الشيعة تدخل إيران؟

ويرى بعض الخبراء أنّ هذه النقطة تحديداً أدّت إلى تعزيز التحالف بين محور واشنطن-تل أبيب-الرياض لمواجهة العدو المشترك. وكان تشكيل (ناتو عربي) جزءاً من هذه الإستراتيجية، بيد أنّ انسحاب مصر وزيارة حرس السواحل الإماراتي إلى طهران في آب (أغسطس) 2019 أثارتا الشكوك حول نجاح هذه الخطة. من جانبها بدا موقف السعودية ملتبساً، فقد أظهرت من ناحية اهتماماً بخفض التوتّر مع إيران لتجنّب وقوع كارثة، ومن ناحية أخرى فإنّ مصالحها الإقليمية تجاه إيران لا تزال متشابهة مع مصالح الولايات المتحدة.

وتفرض واشنطن رقابة محكمة على الصلات البرية والبحرية الإيرانية وكل ما يربط الجمهورية الإسلامية بالعالم الخارجي، لا سيما العراق بوصفها منطقة نفوذ لا غنى عنها بالنسبة لطهران نظراً للصادرات الإيرانية إلى العراق مثل؛ المواد الغذائية والطاقة والسلع والتعاون في تحديث المنظومة الكهربائية العراقية وكذلك المشروعات التي تنفّذها شركات على صلة بالحرس الثوري وباستثمارات تصل إلى 20 مليار دولار، وتسعى الولايات المتحدة لتقويض ذلك.

إستراتيجية أمريكية أخرى هي رصد التأثير العسكري للحرس الثوري في العراق؛ حيث تدّعي إيران مشاركتها في مكافحة "داعش" ويُعتقد أنّها أضفت نوعاً من الاستقرار. إلا أنّ طهران اعتمدت أسلوب الحراك لا سيما بين الفصائل المسلّحة مثل (الحشد الشعبي)، والتي تعتبرها واشنطن تهديداً لقواتها المنتشرة على الأراضي العراقية، وبالتالي إرسال مزيد من القوات لتعزيز قدراتها في منطقة الخليج.

بالمثل، يُعدّ الاستقرار في سوريا مقياساً آخر، فوفقاً للولايات المتحدة، يمتد تأثير إيران حتى سوريا ويتضارب مع مصالح خصومها. ويعكس التحالف الجديد بين إيران وروسيا وتركيا اهتمامهم بالمشاركة في إعادة إعمار سوريا مستقبلاً. وبعد فشل الاتفاق بين واشنطن وأنقرة حول مشروع المقاتلة (إف-35)، ترى الولايات المتحدة ضرورة وجود توازن جديد في المنطقة بحيث لا تفقد نفوذها بالشرق الأوسط، لذا تلجأ إلى تعميق علاقاتها العسكرية مع حلفاء إقليميين آخرين مثل السعودية.

اقرأ أيضاً: "حوار المنامة" يتساءل حول ردع إيران ومدى الالتزام الأمريكي.. ماذا قيل؟

يُنظر لوجود الحرس الثوري والفصائل الحليفة له في الأراضي الفلسطينية ولبنان على أنّه تهديد مباشر لإسرائيل التي تدخل مع الولايات المتحدة في تحالف إستراتيجي وطيد. وأكّدت إسرائيل في أكثر من مناسبة أنّها لن تتهاون مع انتشار قوات مسلّحة إيرانية قرب أراضيها، وتحظى في ذلك بدعم مُطلق من الإدارة الأمريكية.

ترى سلطات إيران أنّ العقوبات الاقتصادية "إرهاب اقتصادي" بينما توجّه أمريكا وحلفاؤها الاتهامات لإيران بالوقوف وراء "الاستفزازات والتخريب"

والواقع أنّ هذه النقطة تحديداً تميّز السياسة الخارجية لإدارة ترامب؛ تصاعد تأثير الحرس الثوري في لبنان والقدرات الصاروخية التي يمكنها تغطية المنطقة. بالتالي فرض عقوبات بهدف الحدّ من المساعدات الإيرانية لحزب الله، وفي نفس الوقت نشر قوات عسكرية أمريكية في المنطقة، فضلاً عن منح واشنطن الضوء الأخضر لتل أبيب كي تكثّف هجماتها ضد القوات الموالية لإيران في سوريا.

تعمل الولايات المتحدة كذلك على تقويض القدرات البحرية للحرس الثوري في الخليج. رغم تهديدات إيران في أكثر من موقف حال عجزها عن تصدير النفط بسبب العقوبات التي قد تغلق مضيق هرمز. وتستهدف واشنطن من نشر قوات أمريكية وتشكيل تحالف بحري لشنّ حرب نفسية على الجيش الإيراني وتعقيد قدرة طهران على المناورة في هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية الكبيرة.

وتلاحق إيران الاتهامات بانتهاك القرار 2331 الصادر عن مجلس الأمن بشأن الصواريخ الباليستية، إلّا أنّها تؤكّد أنّ صناعاتها الصاروخية هي ذات "أهداف دفاعية" وأنّه نظراً "لعدم تطوير أسلحة نووية، فإنّ الصواريخ ليست خرقًا للاتفاق". ومن المعروف أنّ إيران تخضع لحظر على شراء السلاح فرضته عليها الأمم المتحدة منذ عام 2007، لذا وباستثناء منظومة الصواريخ المضادة للصواريخ (إس300) فلم تستورد كميات كبيرة من الأسلحة الجديدة في الأعوام الأخيرة.

ويتزامن ذلك مع تقرير نشره معهد استوكهولم الدولي لدراسات السلام عام 2017 والذي أشار إلى أنّ إيران استوردت بشكل قانوني قرابة 2% من إجمالي صفقات السلاح التي أجريت في الشرق الأوسط. وتتركّز واردات إيران من السلاح خصوصاً على منظومات الدفاع الجوي الروسية مثل (إس300) التي لم تنل رضا السلطات الإيرانية بسبب محدودية تأثيرها. وبالتالي مع بقائها ضمن دائرة العقوبات لفترة طويلة، لجأت طهران لتصنيع أسلحتها بنفسها. وإيجاد بدائل "أكثر فعالية" من الأسلحة الروسية.

وتنتهي فترة العقوبات الأممية على إيران عام 2020 وتبدو روسيا والصين غير مستعدّتين لتجديد العقوبات في مجلس الأمن. بالتالي ستتمتّع إيران بحريّة أكبر في سوق السلاح، رغم أنّ إدراج الحرس الثوري ضمن قائمة المنظمات الإرهابية قد يرفع تكلفة أي صفقة مع الجمهورية الإسلامية اعتباراً من 2020.

اقرأ أيضاً: مسؤولون إيرانيون: ثورة البنزين.. مؤامرة

وإزاء عدم وضوح الرؤية فيما يتعلّق بالعقوبات، تحقّق الولايات المتحدة أهدافاً عدّة على المدى البعيد تتجاوز فترة رئاسة ترامب. فرغم تأكيد المرشحين الديمقراطيين أنّه حال وصولهم للبيت الأبيض فسيعيدون الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي مع إيران، إلّا أنّ حزمة كبيرة من العقوبات وقانون حظر الحرس الثوري "سيكون من الصعب التراجع عنها" من قبل الإدارات الأمريكية المقبلة، حسبما اعتبرت الخبيرة الإيرانية في شبكة (بوليتيكو) نهال توسي.

وإضافة إلى العوامل السابق ذكرها، قد تصل درجة الضغط الأمريكي إلى حد اكتسابه ملامح جديدة مثل فرض عقوبات على السلطات نفسها. وهناك تكهّنات بالفعل حول تصوّرات محتملة مثل؛ إغلاق واشنطن للطرق الدبلوماسية ومواصلة اتباع سياسة "تغيير النظام" أو إجبار إيران على توقيع اتفاق جديد مع الولايات المتحدة.

لكن سياسة الرئيس ترامب تجاه إيران أثارت انتقادات المحللين والسياسيين، فقد رأى المحلل الإيراني المعارض من معهد (واشنطن إنستتيوت) أنّه يتعيّن على واشنطن "إقناع النظام بأنّ كل خطوة في طريق المفاوضات ستمنحها حوافز، أو زيادة الضغط حال حدوث عكس ذلك، ورهن تغيير النظام بتغيير سلوكياته". من جانبه، يعتقد مايكل فوكس من صحيفة (غارديان) أنّ "هذه السياسة تعزّز الشدة إزاء إيران، وتزيد من خطر نشوب حرب وتجعل العالم مكاناً أقل أماناً.

فيما كشف المجلس الوطني الإيراني-الأمريكي ومقرّه واشنطن أنّ "الوضع الخطير القائم في الشرق الأوسط حالياً هو نتيجة سياسة الضغط الأقصى ضد إيران"، كما أشار تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" إلى أنّ "عديداً من الزعماء الأوروبيين يقفون على مبعدة من سياسة ترامب"، وهو ما يظهر في تمسّك الممثلة العليا للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي فدريكا موجيريني بأنّ "الإبقاء على الاتفاق النووي ليس عملية سهلة، لكنّه أولوية".

ردة فعل إيران تجاه الضغط

ترى سلطات الجمهورية الإسلامية أنّ العقوبات الاقتصادية هي "إرهاب اقتصادي يلحق الأذى بالشعب" وأعلنت حالة الطوارئ لتحييد أي تهديد عسكري في الخليج. بينما توجّه الولايات المتحدة وحلفاؤها الاتهامات لإيران بالوقوف وراء "الاستفزازات والتخريب" الذي طال منشآت نفطية في الخليج. وتنفي إيران ذلك، لكنها تعتقد أنّ لجوءها للقوة المسلّحة أمر "مشروع لحماية" الأمن في الخليج والمنطقة.

ليس سراً أنّ إيران تطمح في أن تصبح قوة عسكرية على مستوى الشرق الأوسط

وقد رفض علي خامنئي الدخول في أي نوع من المفاوضات مع الولايات المتحدة بشأن ملف الصواريخ وتغيير الإستراتيجيات العسكرية، ويبدو أنّ الجمهورية الإسلامية على قناعة بأنّ ما تسعى له الولايات المتحدة هو إضعافها تمهيداً لتغيير النظام الحاكم فيها لاحقاً.

بيد أنّه رغم هذا الوضع، أنكرت طهران وواشنطن تطلّعهما إلى الدخول في مواجهة مسلحة. إلّا أنّ إيران تعتبر أنّها بالفعل في "حرب اقتصادية"، وتراود العسكريون الإيرانيون فكرة قرب نشوب نزاع إذا انخرطت إسرائيل في التحالف البحري. وتمتلك إيران بدورها في جعبتها إستراتيجيات للتعامل مع الضغوط سواء أكانت سياسية أو عسكرية.

يتضمّن الحظر المفروض على إيران درجة أكبر من التصادم بين الأوساط المختلفة في الساحة الاجتماعية والسياسية بالبلاد، ويزيد كذلك من احتمالات إجراء عمليات تطهير داخلي بهدف الحيلولة دون الإخلال بالجبهة الداخلية في الجمهورية الإسلامية، ما يعني بالتبعية تأثيراً سلبياً على الإصلاحات السياسية.

وقد تعمل الجمهورية الإسلامية على الإيحاء بأنّها تتمتّع بسيطرة كافية على الخليج ومضيق هرمز، وإظهار أنّها تمتلك القدرات العسكرية ودعم حلفاء- رغم العقوبات- بحيث تكون كلفة أي غزو باهظة الثمن. ولعل إسقاط الطائرة الأمريكية بدون طيار في المجال الجوي الإيراني في حزيران (يونيو) الماضي ومصادرة ناقلة النفط البريطانية (ستينا إمبيرو) رداً على احتجاز ناقلة النفط (جريس 1) في جبل طارق، نموذجان على قدرات طهران فيما يتعلّق بنقطة "الردع".

وأبرز موقع إلكتروني إيراني متخصّص في الشؤون الدفاعية أنّ "القدرات الإيرانية على الردع والدفاع دفعت الولايات المتحدة للتفكير في خيار التدخل في إيران، لكنّ واشنطن لن تتحلّى مطلقاً بالشجاعة الكافية لفعل ذلك". ومن ناحية أخرى يستعرض قادة الحرس الثوري إمكاناتهم في هذه الحرب غير المتكافئة ويقاومون أي محاولة لإبرام اتفاق من شأنه إضعاف صلاتهم بالحلفاء.

وعلى سبيل المثال، أثيرت نقاشات حادة في الأشهر الأخيرة بين المحافظين والإصلاحيين في البرلمان الإيراني حول توقيع قانون تمويل الإرهاب من عدمه، وهو قانون ينصّ على إخضاع النظام المالي الإيراني للرقابة الدولية، ما يمنع تمويل أي جماعات مُصنّفة كإرهابية مثلما هي حالة حزب الله اللبناني.

وفي إطار محاولاتها للحصول على قدر أكبر من الدعم، ومع تشكيل الولايات المتحدة لتحالف بحري، لجأت إيران إلى روسيا. وتُعدّ المناورات المشتركة بين القوات البحرية الإيرانية والروسية في المحيط الهندي عام 2020 مؤشّراً على التقارب بين طهران وموسكو.

على مدار أعوام نجح الحرس الثوري في تطوير أسلحة وطائرات بدون طيار وصواريخ تغطّي الشرق الأوسط وامتلاك "قوة ردع"

أعلنت إيران أنّها غير راغبة في التورّط بحرب، لكنّها ليست مستعدّة في الوقت ذاته لمفاوضات ينجم عنها العدول عن إستراتيجياتها الإقليمية. والحقيقة أنّ الأمر يتعلّق بلعبة مزدوجة تشمل الاستمرار في إثبات الأفضلية العسكرية ودعم الميليشيات الشيعية في العراق واليمن ولبنان، وفي نفس التوقيت، تلافي الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة. لذا ومن أجل إحداث التوازن المنشود، ربما تبحث إيران عن دبلوماسية نشطة في الأشهر المقبلة، وبحسب كلمات المتحدث باسم الخارجية الإيراني عباس موسوي، فإنّ بلاده "سترد على الدبلوماسية بالدبلوماسية، والغزو بالدفاع".

تحاول حكومة روحاني إثبات أنّ إيران، وخلافاً لما تصوّره الانتقادات من قبل خصومها، لم تكن لديها نوايا للتدخل في شؤون الدول الأخرى لتغيير الوضع الراهن في المنطقة. لذا فستتبع دبلوماسية نشطة مع بعض دول المنطقة مثل؛ باكستان وعمان وقطر والعراق وتركيا. لكن الإصلاحيين المتشدّدين لا يحظون بقدر كبير من التأثير، لذا فلا يمكن توقّع تغيير في النظرة تجاه إسرائيل.

أما خارج النطاق الإقليمي، فستحاول حكومة إيران الحفاظ على علاقاتها متعدّدة الأطراف مع الدول الموقعة على الاتفاق النووي؛ الاتحاد الأوروبي وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والصين وروسيا. وترى طهران أنّ الدبلوماسية ستساعدها في الحدّ من إفشال سياسة الضغط الأقصى. ومن الواضح أنّ الأوروبيين لا يرون إمكانية لاستمرار هذا التحالف على المدى البعيد ويحثّون الولايات المتحدة وإيران على الجلوس إلى مادة المفاوضات.

ولا يبدو بدء عملية المفاوضات أمراً يسيراً، فقد اشترط الرئيس الإيراني حسن روحاني قبل لقاء نظيره الأمريكي رفع الأخير للعقوبات. لذا من الواضح أنّه يتعين على الرجلين تقديم تنازلات في وضع يحاول كل منهما الخروج منه بأكبر مكاسب ممكنة.

إزاء مخاطر نشوب نزاع موسّع في الشرق الأوسط، ظهرت فكرة المصالحة مع الخصوم. تحاول إيران الاحتفاظ بهيمنتها في الشرق الأوسط دون الاصطدام بشكل مباشر مع أي طرف.
لكن رغم كل ذلك، لا يزال هناك كم هائل من الخلافات، وما زال الوضع الجيوسياسي معقّداً وهشاً للغاية. فضلاً عن وجود معضلة أخرى هي العلاقات مع إسرائيل التي يبدو أنّها ستظلّ شائكة وعصية.


رابط الترجمة عن الإسبانية: https://bit.ly/2XLZgSs


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية